مرت الآن أسابيع كانت الأوساط السياسية والدينية الإيرانية في حالة أشبه بخلية النحل النشطة بسبب «رسالة مفتوحة» أرسلت إلى الرئيس حسن روحاني من قبل مهدي كروبي، الرئيس السابق لمجلس الشورى الإسلامي، والذي ظل رهن الإقامة الجبرية منذ عام 2009 عقب معارضته المعلنة لنتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية في عام 2009.
وتعتبر الرسالة المذكورة مهمة لعدد من الأسباب.
أولاً، أن الرسالة تنص على أن روحاني ليس مسؤولاً عن قرار «الإقامة الجبرية»، ولا يعتبر بأي حال أكثر من مجرد قناة لتمرير الرسالة إلى الصناع الحقيقيين «غير المذكورين» للقرار في إيران. ويعني ذلك أن روحاني ليس إلا ممثلاً يؤدي دورًا معينًا في المؤسسة الرئاسية، وفي حقيقة الأمر، تفتقر إيران إلى الحكومة بالمعنى الطبيعي للكلمة.
ثانيًا، بدا من رسالة كروبي أنها مصممة لتبعث بصورته الحالية باعتباره من الناشطين الراديكاليين القدماء والعاملين على محاولات الإصلاح والاعتدال في الداخل الإيراني، إن لم تكن محاولات الدمقرطة الفعلية في البلاد. وعبر حقبة الثمانينات والكثير من حقبة التسعينات، رغم كل شيء، كان كروبي ضلعًا في منظومة الصقور المتشددين بالمؤسسة الإيرانية التي أسسها آية الله الخميني.
وفي عام 1993، قاد مهدي كروبي وفد الجمهورية الإسلامية الإيرانية في مؤتمر الشعوب الإسلامية، الذي استضافه الزعيم السوداني الراحل حسن الترابي في العاصمة السودانية الخرطوم. وهناك، انتخب المؤتمر، الذي ضم المتشددين الإسلاميين من أكثر من 70 دولة، مهدي كروبي كعضو من أعضاء مجلس القيادة ذي التسعة أعضاء وكانت مهمته نشر المفاهيم الإسلاموية في كل أرجاء المعمورة. وكان أعضاء المجلس المذكور يضمون حسن الترابي ذاته، والجزائري عباس مدني، وأسامة بن لادن!
ومن المفهوم، وفقًا لذلك أن يكون مهدي كروبي متأثرًا ومتألمًا من قرار وضعه رهن الإقامة الجبرية بوصفه من أعداء النزعة الخمينية الإيرانية السائدة آنذاك، وهي الآيديولوجيا التي فعل بنفسه أكثر مما فعل غيره للدفاع عنها ومناصرتها ونشر مفاهيمها. ومع ذلك، فذلك هو السبب الثالث في أهمية رسالة كروبي المفتوحة لدينا.
يحاول كروبي من خلال رسالته توصيف عصر آية الله الخميني الراحل، أو الإمام، كما كان يحلو لأنصاره دعوته في وقت من الأوقات، بالعصر الذهبي الذي لم يكن أحد ممن عاشوا فيه يعاني من الاعتقال التعسفي غير القانوني، ناهيكم عن وضعه رهن الإقامة المنزلية الجبرية من دون اتهام واحد. إن قراءة كروبي لفترة حكم الإمام الخميني هي قراءة سخيفة ومنافية للواقع، ولكنها تستحق ردًا مفصلاً. أثناء فترة حكم الخميني، أشرف الرجل بنفسه على آلاف من عمليات الإعدام غير القانونية، كما أمر بتنفيذ المذابح المروعة بحق الآلاف من الأقليات العرقية في البلاد، وزج بأكثر من 1.2 مليون مواطن إيراني في غياهب السجون لفترات عقابية قصيرة ومتوسطة وطويلة، إلى جانب نفيه لما يقرب من 4.5 مليون مواطن آخرين خارج بلادهم.
ولقد كان الخميني نفسه من قبيل الأنباء السيئة بالنسبة للملالي أنفسهم. ففي واقع الأمر، ومنذ تحول إيران إلى اعتناق المذهب الشيعي من جانب الصفويين في القرن السادس عشر الميلادي، لم يشرف أي نظام حكم آخر على قتل أو سجن أو نفي ذلك العدد من الملالي مثل نظام حكم الخميني. فخلال عهد الخميني، في المتوسط، وبالنسبة إلى حجم المجتمع الإيراني الكبير، كان عدد رجال الدين الشيعة، بما في ذلك طلاب العلوم الدينية، الذين كانوا قابعين في السجون، أكبر بكثير من المسجونين الإيرانيين في أية شريحة اجتماعية إيرانية أخرى. ولقد أنشأ الخميني محكمة دينية خاصة معنية بشؤون رجال الدين والملالي وطلاب العلم الديني الذين يتجرأون على تحديه أو معارضته في صغير أو كبير من الأمور.
وكانت المحكمة المشار إليها، التي لا تزال تباشر مهامها حتى اليوم، تفتقر إلى كل أساس قانوني أو ديني ولم تكن تحت إشراف أية هيئة حكومية إيرانية أخرى، أي أنها كانت بمثابة دولة من داخل الدولة. وأصدرت المحكمة المذكورة أحكام الإعدام بحق العشرات من رجال الدين الشيعة، وكان من بينهم عدد من آيات الله، مثل عبد الرضا حجازي، الذي كان قبل عام من الآن قد انتخب في منصب النائب الأول في طهران عن المجلس الإسلامي، وكذلك حسين دانيشيان، وكان من أعضاء البرلمان عن مقاطعة عبادان الإيرانية. وكان من بين الصادرة بحقهم أحكام الإعدام عن تلك المحكمة حفنة من كبار رجال الدين أمثال مهدي مهداوي، وأصفهاني حيراوي، ومحمد حسن طهراني.
عانى كثير من رجال الدين من التعذيب في سجون الخميني. ومن بينهم كان آيات الله راضي غولبايغاني، وجليلي كرمانشاهي، ومهدي هاستاي، وعلي مقصودي، ورضا صدر، ومرتضى شيرازي. كما أن الخميني صنع أمرًا لم يقم به أي حاكم شيعي آخر طيلة 500 عام ماضية: ألا وهو نزع المهابة الدينية عن رجال الدين إثر اتهامهم بتهم زائفة.
تشير أفضل التقديرات إلى أن عدد الملالي الذين تعرضوا لمثل تلك المهانة على أيدي الخميني يجاوز الـ80 ملا. وكان من بينهم آيات الله أمثال سيد علي هاشمي، وجواد منقبي، وعلي نوغاني، وتقي قمي – طباطبائي، وعلي طهراني، وعلي نقي، وحسين أميني.
ورغم ذلك، كانت أسوأ تلك الحالات وأفجعها بين الشيعة الأتقياء هو نزع المهابة الدينية عن آية الله العظمى محمد كاظم شريعتمداري، الذي كان كبير مرجعيات التقليد في إيران في ذلك الوقت. (وكان المرجع الأكبر لعموم الشيعة في ذلك الوقت هو آية الله العظمى أبو القاسم خوئي في النجف). ولقد أرسل الخميني أحد أتباعه، وهو ملا من صغار الملالي يدعى محمدي ريشهري، لاقتحام منزل شريعتمداري، ونزع عمامته، واقتياده إلى طهران تحت الحراسة. وعندما صار غير قادر على بسط سيطرته على الملالي الذين لم يكونوا يعجبونه أو كان يغار منهم لكونهم يعملون خارج إيران، أمر الخميني بنزع المهابة الدينية عنهم أو يوجه الأوامر باغتيالهم في الخارج. وفي بعض الحالات، أمر باتخاذ عائلة أحد الملالي المنفيين خارج البلاد كرهائن لإجباره على العودة إلى إيران. ومن بين الحالات التي افتضح أمرها كانت حالة آية الله محمد حسن طهراني، الذي تمكن من الفرار إلى ألمانيا ولكنه عاد ووافق على العودة إلى طهران بعدما احتجز الخميني عائلته كرهائن. وبعد عودته من منفاه سرعان ما أقدم الخميني على إعدامه برصاصة واحدة في الرأس بعد معاناة طويلة من التعذيب في السجن.
قد يصف كروبي عصر الخميني بأنه العصر الذهبي. ولكنه يتناسى الخسة الصبيانية المسجلة لآية الله الخميني حيال أعدائه. وعندما قال الأطباء لآية الله محمد حسين علوي بروجردي إنه في حاجة للذهاب لتلقي العلاج في أوروبا، رفض الخميني الإذن له بالسفر أو حتى إصدار جواز سفر له. وكان الخميني ينتقم من الرجل لمهانة حقيقية أو متوهمة، حينما كان شابًا يافعًا، تعرض لها في حاشية آية الله محمد حسين بروجردي في فترة الأربعينات (كان علوي صهرًا لبروجردي). كما يشتبه في أن الخميني كذلك، ومن دون دليل راسخ أو ملموس حتى الآن، قد أمر بالقتل الهادئ، باستخدام السم، ضد آية الله محمد رضا شيرازي، في محاولة لتصفية الحسابات الشخصية مع قبيلة شيرازي من كربلاء، وهي من القبائل الشيعية البارزة التي اتهمت الإمام الخميني «ذاتي التنصيب» بسن «بدعة» في المذهب الشيعي تلك التي تعد من قبيل الكبائر الدينية. وعندما توفي محمد شيرازي، منع الخميني أسرته من دفن جثمانه في مدافن المعصومة بمدينة قم. ولقد أمر الخميني أن يوارى جثمان شيرازي التراب في الربع الخاص بالنساء من المقابر المجاورة. ومرة أخرى، كان «الإمام» يصفي حساباته الشخصية مع قبيلة شيرازي.
يدعي كروبي في رسالته المفتوحة أن وضع الملالي رهن الإقامة الجبرية لم يكن أمرًا معمولاً به في عصر الإمام الخميني الذهبي. وتلك فرضية متوهمة كذلك. حيث توفي خليفة الخميني المختار، آية الله العظمى حسين علي منتظري، وهو رهن الإقامة الجبرية كما حدث نفس الأمر مع آية الله العظمى حسن قمي – طباطبائي الذي أغلق الشارع الذي يوجد فيه منزله في مشهد بجدار مع بوابة حديدية تحت حراسة عناصر من الحرس الثوري الإيراني. وآية الله العظمى صادق حسيني شيرازي وصادق روحاني كانا أيضًا رهن الإقامة الجبرية في مدينة قم في عصر الخميني.
كان العرض الذي قدمه كروبي لعصر الخميني بأنه العصر الإيراني الذهبي عرضًا مخادعًا وسخيفًا على أقل تقدير. وعبر كل هذه السنوات، كان كروبي والكثيرون من شاكلته ملتزمين الصمت المطبق أو مبررين لكم الجرائم الهائلة التي ارتكبها «الإمام» الذي نصب نفسه زعيمًا رغم أنف الجميع. ولا يعني ذلك موافقتنا على بقاء مهدي كروبي رهن الإقامة الجبرية بحال، وهو أمر غير قانوني تماما، وغير إنساني، ومهين. ولكن المهم في هذا الصدد أن نتذكر أنه إن كنت ملتزمًا الصمت حيال قضية ما، ناهيك بتأييدها سلبيًا، فعندما يتعرض شخص ما للظلم بسببها، فقد ينالك نفس الظلم أيضًا في يوم من الأيام.
أمير طاهري
صحيفة الشرق الأوسط