مع ظهور أخبار وخطط يمكن فهمهما على أنها خصخصة جزئية لبعض نشاطات “أرامكو”، أبدى فريق من الناس رأيا خلاصته أن الأولين اجتهدوا في تملك “أرامكو”، فلماذا نخطط لعمل عكس ما عملوه؟
يفهم الكلام السابق غالبا على أن ما عمله الأولون سيبقى الأصلح باستمرار. وهذا غير مسلم به، فالظروف والأحوال وتقديرها في تغير.
عندما وقعت الاتفاقيات مع الشركات الأمريكية المالكة لـ”أرامكو” في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله، كنا في ظروف اقتصادية وغير اقتصادية محلية غاية القسوة. طبعا استغلت تلك الشركات تلك الظروف لمصلحتها. إلا أن تلك الاتفاقيات، وكما هو معلوم، أصابها تعديل وتطوير مع الوقت، لمصلحة الدولة وموظفي الشركة السعوديين خاصة. المقصد أن الناس والمؤسسات والدول تُستغل (بضم التاء أي بالبناء للمجهول) بسبب ظروف ما، ثم تتغير الظروف والأحوال وتفرض أو تقر تشريعات تخفف من الاستغلال. والأمثلة كثيرة.
على رأس الحقوق العامة التي تحققت حتى قبل ملكية “أرامكو” حقان: السيادة على مستويات الإنتاج ونسبة الإيرادات من دخل النفط التي تدخل الخزانة العامة. بعبارة أخرى: أجور الاستخراج لا تتطلب بالضرورة إعطاء المستخرج وحده حق تقرير حجم ما يستخرج، خاصة أن من يقوم بالاستخراج قطاع خاص (مثل الشركات المالكة لـ”أرامكو” في السابق) مصالحه لا تتفق بالضرورة مع المصلحة العامة أي مصلحة من أعطاه حق الاستخراج. وأما تطبيق نظام ضريبة الدخل على “أرامكو” فغير مرتبط بجنسية أو هوية ملاك الشركة. كما أنه عدلت قوانين وسلوكيات لمصلحة موظفي الشركة السعوديين.
أما ملكية الاحتياطي، فالمعروف أن الدولة أعطت شركات نفط أمريكية امتيازا جوهره استخراج النفط وبيعه لعدد محدد من السنوات (مدة الامتياز). ولا يلزم من ذلك (كما أفهم) ملكية تلك الشركات لما تحت الأرض (الاحتياطي).
تملكت الدولة “أرامكو” بالكامل قبل بضعة وثلاثين عاما، وحصلنا على إيرادات نفطية هائلة بالدولار خلال هذه المدة. ومع ذلك لسنا راضين عما تم في تطوير الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل، فهو دون ما نطمح. وهنا يجيء المجال للبحث عن طريقة أخرى أو بالأحرى إضافية للاستفادة من “أرامكو” ودخل النفط لتحقيق ما صعب علينا تحقيقه في الماضي في تطوير الاقتصاد. ومن ثم يصبح السؤال كيف.
هناك خيارات خطط إعادة هيكلة “أرامكو” وطرح وإدراج بعض أسهمها، أشار إليها الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد. ولدينا فرصة كبيرة من خلال هذه الخطط لتحقيق ما صعب تحقيقه في الماضي من خلال مفاوضة شركات عالمية مختارة للمشاركة في تملك أسهم، مع استمرار بقاء الحقين السابقين واستمرار فصل موضوع الاحتياطي عن موضوع الامتياز والتشغيل وتوابعهما. أساس المفاوضة في المشاركة أن يكون ضمن ترتيبات واتفاقيات مساهمة كبيرة معتبرة بطريقة مباشرة بنفسها وغير مباشرة بتحالف شركات أخرى معها لمساعدتنا على تحقيق أربعة أهداف كبيرة:
1. تطوير صناعات تقوم على ما عندنا من خامات معدنية هائلة.
2. توسيع قاعدتنا الصناعية توسيعا، بما يخفف بوضوح من شدة اعتمادنا على الخارج.
3. تطوير ملموس ومؤثر لقطاعات وأنشطة مختارة.
4. نقل وتدريب بغرض توطين تقني. ويتطلب ذلك ترتيبات ومبادرات واتفاقيات تخدم الهدف.
وأرى أن تحقيق كل هذه الأهداف ممكن. ومما أستند إليه في قولي هذا:
1. كان من أسباب نجاحات اقتصادات صاعدة كالكوري والماليزي والسنغافوري وغيرها، مساهمة شركات عالمية كبيرة. وطبعا لم يكن لهذه الشركات أن تنجح في مساهمتها دون تبني سياسات عامة جيدة. ولمزيد من التفاصيل، إليكم هذا المصدر الممتاز في موضوعه، وقد ترجم إلى العربية:
The East Asian Miracle: Economic Growth and Public Policy, World Bank, 1993. معجزة شرق آسيا: النمو الاقتصادي والسياسات العامة، البنك الدولي
2. شبه اتفاق على أن تخطيط وبنية الجبيل أفضل من باقي مدننا فكيف تأتى ذلك؟
3. ثقافة العمل في “أرامكو”: من وضعها؟ هناك من يطالب بإلزام دوائر حكومية لتجربة مشابهة تؤصل فيها ثقافة العمل.
4. نجاحات “سابك”: من وراءها؟ هل كانت ستنجح دون شراكات مع شركات عالمية؟ لا.
وطبعا لا إنكار لوجود أخطاء وأغلاط لـ”سابك” مثلا، لكن ليس من العدل تذكر السيئات وتجاهل أو نسيان الحسنات، وهي تفوق السيئات. لن نجد في العالم كله وعبر التاريخ منظمة خالية من الأخطاء، ولا ننسى أن شركات عالمية كبرى وقعت في أخطاء كبيرة، تعتبر أخطاء “سابك” مقارنة بها بسيطة نسبيا.
وأجد فرصة لنقل عبارة للدكتور القصيبي رحمه الله قبل 40 عاما، وكان الإصرار على مشاركة شركات كبيرة في سابك “نحن نتعامل مع هذه الشركات لأننا بحاجة إلى ثلاثة أشياء تملكها هذه الشركات ونحن لا نملكها: هي تملك التكنولوجيا ونحن لا نملكها، وهي تملك وسائل التدريب ونحن حتى الآن لا نملكها، وهي تملك منافذ التوزيع ونحن لا نملكها”.
باختصار، الرأي أن الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد أدرك كل ما سبق، وأخذ زمام المبادرة في إدخال تحولات تجعل فائدة الاقتصاد الوطني من “أرامكو” أعظم. ومن ثم فالنقطة الأهم ليست لماذا نبيع بعض “أرامكو”، وإنما كيف بما يحقق أقصى فائدة ممكنة. سؤال كبير جدا ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، بل على مستويات أخرى من اجتماعية وقانونية وغيرها.
* نقلا عن صحيفة ” الاقتصادية “