بعد أن وقَّعت إيران اتفاقها النووي مع الولايات المتحدة، والقوى الغربية الكبرى، بإشراف وكالة الطاقة الدولية، لم تعد لها الصفة الثورية التي كانت تحرص عليها، كما كانت من قبل، إذ إن عودتها إلى المجتمع الدولي، ورفع العقوبات الاقتصادية التي كانت تحجِّم قدراتِها، (كبّدتها خسائر بلغت 160 مليار دولار، منذ عام 2012، وجمّدت أكثر من 100 مليار دولار من أصولها في الخارج)، بل هدّدت أحياناً استقرار الحياة الاجتماعية فيها، هذه العودة يتطلب الحفاظ عليها خطاباً ومواقف أكثر معقوليَّة.
والصحيح أنه كانت لهذا التقارب الإيراني مع أميركا بالذات، علامات واضحة منذ الاحتلال الأميركي للعراق، ثم التعاون المعلن حول أفغانستان، وليس انتهاء بالتوافق على حرب “الإرهاب” في سورية والعراق، ومنع سقوط السلطة في دمشق إلى يد جماعات من قبيل “داعش” و”النصرة”، وما شابهها.
مع أن الخشية أن تكون المقايضة حول الاتفاق الذي كان ضرورياً لإدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، تضمَّنت تخويل إيران دوراً أكبر؛ في مقابل تنازلاتٍ إيرانية كانت ضرورية لإدارة أوباما التي بدت حريصةً، منذ بداياتها، على إنجازٍ بهذا الحجم، وعلى تعاون مع إيران. لكن هذا التخويل الأميركي، أو الرضا بتوسُّع النفوذ الإيراني في الإقليم، وقد بدا واضحاً في دعوة أوباما السعودية إلى تقاسم النفوذ مع غريمتها إيران، يعني ضمنا الرضى بنفوذ جديد أكبر من السابق لإيران.
ولعل هذا التعزيز الأميركي لإيران ودورها في المنطقة ما جعلها أكثر خشونةً وإعلاناً بالتورُّط العسكري في مناطق النزاع، وفي مقدمتها سورية، متخفِّفةً، ربما نتيجة الاقتناع بلاجدوى انتظار قبول شعبي واسع لها في البلاد العربية والإسلامية؛ إذ كيف تُبقي على شعبية ومناصرة لها، وهي تدعم بكل ما أُوتيتْ من وسائل قتالية، وغير قتالية، نظام الأسد الذي فاق في وتيرة إجرامه إسرائيلَ نفسها؟
وكانت إيران عملت بعد الثورة الإسلامية على تظهير البعد الإسلامي في خطابها، أو في شعاراتها، إذ نصّت في دستورها على “الأخوَّة الإسلامية”، ونصرة الشعوب الإسلامية المستضعفة في وجه الاستكبار العالمي، إذ جاء في المادة الثالثة في البند السادس عشر: “تنظيم السياسة الخارجية على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين، والحماية الكاملة لمستضعفي العالم”.
لكن تلك الشعارات لم تصبح سياسية إيرانية، صلبة، ولم تحافظ على أولوياتها، بقدر الحرص على نفوذ إيران الإقليمي، والوفاء بمتطلَّبات دور شرطي المنطقة. وكانت النقطة الحرجة، والتي أفشلت مساعي إيران، أو أظهرت شعاراتها، تلك السياسة النفعية غير المُبَرَّأة من استعلائيةٍ قوميةٍ، لا تروق للعرب، فضلا، عن أن يروق البعد الطائفي للسُّنة.
كانت إيران تكتسب تعاطفا شعبياً عربياً وإسلامياً بتوظيف صورتها المواجهة لأميركا وإسرائيل: الممانعة والمقاومة، وبعد الاتفاق النووي، ظلَّت تصريحات إيرانية تستبقي شيئاً من العدائية لأميركا، علماً أن تغيُّراً عملياً وسياسياً، وفي العلاقات والاتصالات المباشرة بين كبار المسوؤلين الإيرانيين والأميركان لا يمكن تجاهلها. وبعد هذا التخفُّف من عبء المواجهة مع أميركا، بقيت المواجهة مع إسرائيل.
وهنا، تبرز بشكل مهم حركة حماس، بما تمثِّله من رمزية مقاوِمة فلسطينية وإسلامية سُنِّية في
حمأة الصراع الطائفي المُسَعَّر. ولا يخفى أن “حماس” تمرُّ بظروف ضاغطة، وليست منذ الآن، بل منذ الحصار الذي ضرب على قطاع غزة منذ 2006، وتعزَّز في 2007، بعد سيطرتها على القطاع، لكنه بلغ مرحلة أصعب بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي، وبعد تشديد الحصار، واستهداف الأنفاق. ولذلك، عدّلت سياستها من السيسي، وعادت إلى الحوار مع مصر، في انفصال عملي عن موقف “الإخوان المسلمين” في مصر، وفي تأكيد على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وعلى كون البوصلة هي باتجاه فلسطين.
وفي هذا السياق أيضاً، تأتي تعديلات “حماس” على علاقتها بإيران، بزيارة مسؤول العلاقات الخارجية في الحركة، أسامة حمدان، في فبراير/ شباط الماضي، وامتدح فيها إيران المقاوِمة، متجاوزاً بذلك تسريبات، موسى أبو مرزوق التي تضمَّنت تشكيكاً، بل نفياً لوجود دعم إيراني للحركة الفلسطينية، كما ذَكر بأن إيران كانت كلما يجري الحديث معها عن الدعم تشترط ذلك بتحسُّن علاقاتها مع دول مثل السودان وغيرها، ورأى في ذلك جزءاً من العقاب.
تجاوز حمدان، مسؤول العلاقات الخارجية، تلك المواقف غير المعلنة؛ ليؤكد أن علاقة “حماس” بطهران راسخة، وستبقى كذلك، ولن تتأثر بأيِّ حدث في المنطقة، مهما كان كبيراً، في تلميح إلى سورية، لكن حماس لم تُتْبِع هذه المواقف بأخرى في الاتجاه نفسه، نحو مزيدٍ من العلاقات الدافئة، كما لم تستجب حماس لما يطمح له ما كان يُسمَّى محور الممانعة، وهو الاقتراب أكثر من نظام الأسد.
ومثل هذه المواقف المقتربة من إيران، وفي ظروفٍ مثل ظروف حماس، وفي ضوء مواقفها السابقة، ليس من شأنها أن تُكسِب إيران الهالةَ التي كانت تكتسبها من قبل، إذ من الواضح أنها خياراتٌ مصلحية، بل تكاد تكون اضطراريةً، لا تقوى على التغطية على الأدوار الإيرانية في المنطقة العربية.
على الصعيد العربي العام، تستفيد إيران، جزئياً، من تردّي أوضاع شعوب عربية، حيث الاستبداد وغيره، ووجود ما يشبه الفراغ القيادي، لتظهر هي بمظهر الدولة الناجحة والفاعلة، علماً أن ثمة من ينافسها في ذلك بقوّة، وهو تركيا التي لا تستقطب رفضاً عربياً كالذي تستقطبه إيران، وعلماً أن إيران لا تمثل نموذجاً جاذباً، أو ناجحاً داخليا كذلك، سواء على الصعيد الاقتصادي، أو الحقوقي والديمقراطي، إلا أن بعض نجاحاتها الخارجية قد تغطِّي، ولا سيما لغير الخبراء، بحيثيات الأوضاع المعيشية والاجتماعية داخل إيران.
وعلى الرغم من استفادة إيران من تحسُّن علاقاتها بأميركا، إلا أن الكفَّة لم تُرجَحْ لها بعد، فالسعودية الدولة المقابلة لإيران عربياً وإسلامياً قد أحرزت، أخيراً، نصراً سياسياً وديبلوماسياً على إيران بإدانة واضحة وقوية من منظمة التعاون الإسلامي لتدخلات إيران في المنطقة، واستمرار دعمها الإرهاب، بعد أن تصدَّت السعودية للتوسُّع والهيمنة الإيرانية في سورية ولبنان واليمن، في وقت تقترب فيه الرياض شيئاً فشيئاً من مكان طهران السابق، في الاستعداء الأميركي، إذ ثمَّة مساٍع في الكونغرس الأميركي لسنّ قانون يحمِّل السعودية المسؤولية عن هجمات “11 سبتمبر” في العام 2001، الأمر الذي لا يتوقف، فيما لو أُقرّ، على خسائر مادية، بل خسائر معنوية أخطر على سمعة السعودية عالميا.
وها هو العراق الذي كان، ولا يزال لإيران فيه اليدُ الطولى، تستفحل أزماتُه، وفي مقدمتها السياسية، وليس ذلك بسبب المكوِّنات البعيدة عن إيران، أو التي لعلها الأكثر تضرُّرا من السياسة والهيمنة الإيرانية. ولكن، في (البيت الشيعي) نفسه، على خلفية السعي إلى تشكيل حكومة تكنوقراط، يأمل رئيس الوزراء، حيدر العبادي، أن تكون مدخلا لحل الأزمات المتفاقمة والفساد الذي خلّفته فترة رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، الذي كان مدعوماً طوال فترته ( بين عامي 2006 و2014) من إيران، وقد يكون لأنصاره حضور في الاعتصامات والمظاهرات التي يقودها الزعيم الشيعي، مقتدى الصدر، وَفْق ما صرّح “مفتي الديار العراقية، الدكتور رافع الرفاعي”.
وبعد هذه الحصيلة العملية من التأزمات العربية التي إمَّا تسبَّبتْ فيها إيران، أو أسهمت، على نحو فاعل، في تفاقمها، لنا أن نسأل: ما رسالة إيران إلى العالم الإسلامي؟ أو ماذا تبقّى من ذلك الخطاب (الإسلامي) والداعم للشعوب المستضعفة؟ أو ما الذي يلزم تعديله منه؟
أسامة عثمان
صحيفة العربي الجديد