كان على الرئيس فلاديمير بوتين، على اعتبار أنه كان ضابطًا لامعًا في جهاز الـ«كي جي بي» السوفياتي، وعمل في برلين الشرقية التي كانت عاصمة ألمانيا الديمقراطية، أنْ يستعرض غزوات بلاده الفاشلة إبان العهد الشيوعي الغابر، وتدخلها في الشؤون الداخلية لعدد من دول العالم من بينها، بالإضافة إلى أفغانستان، عددٌ من دول أوروبا الشرقية، ليعرف أن إرسال قواته للتدخل في سوريا، وإقامة قواعد عسكرية فيها، لن تنتهي على خير، وأنه لن يتأخر ذلك اليوم المرتقب القادم لا محالة، الذي سيضطر فيه إلى سحب هذه القوات، وهي في هيئة هزيمة منكرة تجر أذْيال الخيبة، وكما انسحبت من كل الدول التي ذهبت إليها بحجج كحجة ذهابها إلى هذه الدولة العربية التي انتفضت غالبية شعبها ضد نظام «عائلي – مذهبي» مستبد قاتل، لم يعد من أمثاله في الكرة الأرضية كلها إلا نظام كيم جونغ أون في كوريا الشمالية.
عند تقاسم المنتصرين على النظام النازي الكريه ألمانيا، وفقا لاتفاقية مالطا الشهيرة، في الرابع عشر من فبراير (شباط) 1945، التي وقَّع عليها ستالين إلى جانب كل من تشرشل وروزفلت، كانت حصة الاتحاد السوفياتي هي ما أصبح يعرف بـ«ألمانيا الديمقراطية»، التي كانت مجرد ولاية تابعة للدولة السوفياتية، التي كانت تبسط نفوذها المباشر على المنظومة الاشتراكية، أو المنظومة الشيوعية التي كانت تضم دول أوروبا الشرقية كلها، وحيث تم بناء جدار برلين الذي بقي شاهدًا على التلاعب التاريخي بمصائر الشعوب والدول، حتى سقوطه في عام 1989، واستعادة الشعب الألماني لوحدته ووحدة بلاده بعد خمسة وأربعين عاما من الانقسام والفرقة.
ويقينا أن الرئيس فلاديمير بوتين، الذي من الواضح أن أهله قد أعطوه اسمه الأول تيمنا بـ«فلاديمير لينين»، لم يكن يتصور في ذلك الوقت، وهو في برلين قبل إسقاط جدارها، أنَّ هذا الجدار سيسقط، وأنَّ ألمانيا الديمقراطية وألمانيا الاتحادية ستصبحان دولة واحدة على رأسها هذه المرأة الحديدية إنجيلا ميركل، وأنَّ الاتحاد السوفياتي سيسقط، وأنه سيصبح رئيس هذه الدولة الجديدة: «روسيا الاتحادية» التي يجب الاعتراف بأنه هو من أقامها من كبوتها، وأوصلها إلى هذه المكانة التي غدت تحتلها في العالم بأسره، كدولة كبرى على الأقل، وإنْ ليس كدولة عظمى. لقد خرج الاتحاد السوفياتي من ألمانيا، في حقيقة الأمر، مهزومًا. وهنا، فربما أنه لا جدال في أن سقوط جدار برلين، الذي تم بناؤه في عام 1961، كان سقوطا لهذه الدولة التي ما كان أحد يتصور أنَّ سقوطها سيكون بكل هذه السرعة، وبكل هذه السهولة، والدليل أن كثيرين، حتى من غير الشيوعيين، قد «تمهْزؤوا» على الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، عندما أطلق تصريحا في مطلع ثمانينات القرن الماضي قال فيه: «وداعًا للشيوعية». والمعروف أن خسارة الروس لألمانيا الشرقية كانت البداية لخسارتهم لكل وجودهم، ولكلِّ هيمنتهم، في كل دول أوروبا الشرقية.
ثم إن المؤكد أنَّ الروس بعد قمعهم لانتفاضة المجر (هنغاريا) المجيدة والعظيمة في عام 1956، في عهد نيكيتا خروشوف، وقمع ربيع براغ في عام 1968، في عهد ليونيد بريجينف، لم يكونوا يتصورون أن انهيار الاتحاد السوفياتي سيكون قريبا، وبعد نحو عقدين من الزمن فقط، وأن انهيار جدار برلين سيعني انهياره، وأن نبوءة رونالد ريغان: «وداعا للشيوعية» ستتحقق بعد قرابة عشرة أعوام فقط، وأن المنظومة الاشتراكية ستتساقط أنظمتها «الماركسية – اللينينية» كما تتساقط الأبنية الكرتونية أمام الرياح العاتية التي تهب فجأة، وعلى حين غرة، ودون إنذارات مسبقة.
لقد كانت الطامة الكبرى والمغامرة التاريخية، التي يقال إن موسكو قد أقدمت عليها، عندما كان ليونيد بريجنيف في غيبوبة كاملة، ويعاني عمليًا سكرات الموت، هي غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان الذي يشبه إلى حدود كبيرة غزو روسيا الاتحادية الحالي لسوريا، ذلك الغزو الذي استدرجهم الأميركيون إليه استدراجًا، ليردوا على هزيمتهم المنكرة في فيتنام، التي يعود الفضل فيها للشعب الفيتنامي نفسه أولا وأخيرا، ومع عدم إنكار الدور الذي لعبته في هذا المجال روسيا والصين وكثير من دول العالم، التي كانت تعتبر نفسها أقرب إلى المعسكر الشرقي في مرحلة صراع المعسكرات الذي وصل إلى ذروته في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
كانت حجة الروس للذهاب إلى أفغانستان، هي الحجة نفسها التي جاءوا بناءً عليها إلى سوريا؛ أي الحفاظ على الدولة من الانهيار ومواجهة المتشددين والتطرف الإسلامي، لكن ما يجب أن يقال في هذا المجال هو أن دوافع موسكو الحقيقية لهذا الغزو الجديد، وذاك القديم، هي شهوة التوسع، وهي المغريات الكثيرة كالغاز والفحم والحديد والنفط، وهي مواجهة ما تعتبره إسلاما متطرفا، بقيت تخشى سابقا والآن من وصوله إلى المناطق التي كانت تعتبر سوفياتية، والتي أصبحت لاحقا جزءا من روسيا الاتحادية مثل الشيشان وداغستان وبعض الجمهوريات الإسلامية الأخرى. وعندما أرسل الاتحاد السوفياتي جيوشه إلى أفغانستان، بناء على طلب من حفيظ الله أمين، الذي يشترك مع بشار الأسد في صفات كثيرة من بينها الطفولية والرعونة والدموية، كان يعتقد أنَّ الغزو سيكون مجرد عملية تدريبية، ولبضعة أيام فقط. لكن على عكس هذا الاعتقاد، وجد الروس أنفسهم متورطين في عملية استنزاف منهكة ومكلفة وطويلة، كلفتهم على مدى عشرة أعوام (من عام 1979 حتى عام1989) عشرات الألوف من القتلى ومئات الألوف من الجرحى، فكانت النتيجة انسحابا مهينا، كان أحد عوامل سقوط الدولة السوفياتية في عام 1990، وأحد عوامل ثورة الشيشان في عهد بوريس يلتسن من عام 1994 – 1996.
والمفترض أن فلاديمير بوتين يعرف أن التهور، وأن الخطأ في الحسابات، هما سبب تورط الاتحاد السوفياتي في المستنقع الأفغاني، ولذلك فإن المستغرب أنه قد وقع في هذا الخطأ نفسه، وبحجة حماية النظام (العلماني) القائم! ومواجهة التطرف الإسلامي، والواضح أنه كما اعتقد الروس أن غزوهم لأفغانستان في عام 1979 سيكون مجرد: «مناورة تدريبية»، ولبضعة أيام فقط، فإن هذا الرئيس الروسي قد وقع في سوء تقدير الموقف إياه، باعتقاده أن «المهمة» سوف تنتهي خلال أسابيع قليلة، بعدما ثبتت فعاليتها في القتال على الأراضي السورية!
ربما أن بوتين أراد من تدخله في سوريا: أولا استعادة روسيا لمكانتها الدولية، وثانيا الحصول على قواعد عسكرية على شواطئ المتوسط، وثالثا تنازل الأميركيين لبلاده في أوكرانيا والقرم وأوروبا الشرقية، ورابعا وقف تمدد التطرف الإسلامي حتى لا يصل مجددا إلى الداغستان والشيشان. لكنَّ ما يجب أن يأخذه الرئيس الروسي بعين الاعتبار هو أنه قد يخسر، وهو حتما سيخسر، هذا كله إنْ هو لم يلتقط اللحظة المناسبة التي هي هذه اللحظة ولا غيرها أي لحظة!
صالح القلاب
صحيفة الشرق الأوسط