القطب المنفرد: الولايات المتحدة الأمريكية والتغير في هيكل النظام العالمي

القطب المنفرد: الولايات المتحدة الأمريكية والتغير في هيكل النظام العالمي

149

توجد علاقة قوية بين هيكل النظام وبين قدرته على أداء وظيفته. فكلما استمرت، أو زادت قدرة النظام على أداء وظائفه استمر هيكل النظام كما هو، وكلما ضعفت قدرة النظام على أداء تلك الوظائف زادت فرص انهيار النظام، أو تغير هيكله أو حدث إحلال وتغير في قواه الرئيسية. وتتعدد وظائف النظام الدولي فيما بين تحقيق الأمن والتنمية أو التكامل أو التحالف، والتكيف مع الضغوط وتعزيز الشرعية.

وعامة، يبدأ هذا المقال بعرضه لمفهوم هيكل النظام الدولي، ثم يعرض لتطور ذلك الهيكلي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وينتهي إلى بيان صلة السياسة الأمريكية بذلك التطور في النظام العالمي.

أولا- هيكل النظام الدولي

لكل نظام دولي هيكل قابل للتحديد، حيث يتميز بشكل ما للقوة والنفوذ والعلاقات السائدة، استناداً إلى اختلاف وتفاوت قدرات وسلوك وحدات ذلك النظام. ويوجد داخل هيكل كل نظام دولي ثلاثة مستويات: الأول هو الأعلى ويضم الدول القائدة، أو العظمى، أو الكبرى، ثم مستوى ثان يضم دولا لها وزنها داخل النظام لكن ليست لها القدرة على قيادته(1) ومستوى ثالث يضم الدول الصغرى التي تمثل أغلبية عددية لأعضاء النظام الدولي.

ولا يقوم هيكل النظام الدولي فقط على عدد القوى الكبرى، أو الأطراف الفاعلة، فيه والقدرات القومية لكل منها، وإنما يتأسس، أيضًا، على نمط التحالفات القائمة بين القوى الكبرى، والنسق القيمي والإيديولوجي الذي يقوم عليه النظام، ونوع المؤسسات العليا التي تحفظ توازن القوى داخله. ويتأثر هيكل النظام الدولي بالتوازنات القائمة في حركة العلاقات الدولية، وبشكل التحالفات التي تقيمها الأطراف الرئيسية في النظام الدولي، وبمدى القدرة على أداء الوظائف المختلفة لذلك النظام. أما الاتجاه الذي يرى عنصر التوازن حاكمًا لهيكل النظام فيدفع إلى زيادة الاهتمام بالفاعلين العالميين متعددي الجنسيات من ناحية والفاعلين الإقليميين من ناحية أخرى بكيفية إدارتهم لعلاقاتهم وارتباطاتهم الدولية. كما يؤدي التغير في هذه التحالفات إلى تغير في بنية النظام الدولي.

ومن منظور آخر، توجد علاقة قوية بين هيكل النظام وبين قدرته على أداء وظيفته. فكلما استمرت، أو زادت قدرة النظام على أداء وظائفه استمر هيكل النظام كما هو، وكلما ضعفت قدرة النظام على أداء تلك الوظائف زادت فرص انهيار النظام، أو تغير هيكله أو حدث إحلال وتغير في قواه الرئيسية. وتتعدد وظائف النظام الدولي فيما بين تحقيق الأمن والتنمية أو التكامل أو التحالف، والتكيف مع الضغوط وتعزيز الشرعية. ويقتضي ذلك كله النجاح أو الفاعلية في تجميع المصالح والتعبير عنها. وقد تختلف إستراتيجية النظام الدولي في أدائه لوظائفه وفي اختياره لأساليب تحقيق ذلك. ففي النظام التعددي يسود نمط التوفيق والمساومات، بينما يسيطر التنافس والصراع في النظام ثنائي القطبية، وتتصدر سيادة القطب الواحد ومصالحه وسياساته في النظام الأحادي القطبية. ولإيديولوجية النظام الدولي، إن وجدت، تأثير كبير في تحديد هيكله، وفي تحديد عملية الانتقال من نظام إلى آخر. ففي النظام متعدد الأقطاب لا توجد إيديولوجية واحدة أو مسيطرة أو جامدة، بل توجد سيولة ومرونة ومتسع يضم انتماءاته فكرية متنوعة دون جمود إيديولوجي. وفي النظام الثنائي القطبية توجد حالة استقطاب إيديولوجي، حيث يستخدم كل قطب أيديولوجيته كوسيلة لجذب آخرين نحوه وتأليبهم على القطب الآخر وأيديولوجيته. أما في النظام أحادي القطبية فتسود أيديولوجيا القطب العالمي الأوحد الذي يسعى إلى فرض أيديولوجيته على الآخرين (2).

والهياكل الثلاثة الرئيسية للقوة التي عرفها النظام الدولي في مراحل تطوره منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى الآن تتمثل في القطبية التعددية، والقطبية الثنائية، والقطبية الأحادية. وتتميز القطبية التعددية بوجود عدة دول كبرى، أو أقطاب، لديها موارد وقدرات وإمكانات متعادلة من حيث القوة والقدرة على ممارسة النفوذ والتأثير على العلاقات الدولية في مجالاتها المختلفة العسكرية والاقتصادية والسياسية والعلمية- والتكنولوجية، وبما يمكن كل من هذه القوى القطبية من استقطاب الدول الأقل، أو الأضعف منها. وتتميز القطبية الثنائية بتركز علاقات القوة والنفوذ في محيط قوتين قطبيتين عملاقتين، وبوجود درجة عالية من الصراعات والمنافسات بين هاتين القوتين، ومسافات طويلة بين كل منها، والدول المتحالفة معها، وغيرها من دول العالم في شأن عناصر وقدرات القوة. وفي القطبية الثنائية يوجد عادة، صراع إيديولوجي فيما بين القطبين الكبيرين حيث يوظف كل منها أيديولوجيته كأساس لإقامة تحالف دولي عسكري ومجموعة اقتصادية، وتنضم الدول التابعة لكل من العملاقين إلى التحالف الذي يقوده وإلى الإيديولوجية التى يتبناها. ولا يتوقف الصراع بين القطبين عند حدود التحالفين اللذين يقوداهما، بل يمتد ليشمل دولا من خارج كل من التحالفين، دول العالم الثالث التي تبنت سياسة عدم الانحياز رسمياً، ولكن بعضها كان يتعاون مع هذا الحلف، أو ذاك، الذي يقوده قطب عالمي. وتتميز القطبية الأحادية بوجود درجة عالية من تركز قدرات القوة وإمكانات العمل الدولي المؤثر في محيط دولة واحدة مهيمنة على النظام الدولي. وقد يكون الطرف المهيمن الواحد دولة أو مجموعة من الدول المتحالفة فيما بينها، وحيث يكون لهذا القطب من الموارد والإمكانات والقوة في المجالات الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والعلمية التكنولوجية ما يؤهلها لفرض إرادتها وبسط نفوذها السياسي على الوحدات السياسية الأخرى المشكلة للنظام الدولي (3).

ثانياً- ما بعد الحرب الباردة: من النظام الدولي إلى النظام العالمي؟

كان انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وانتهاء الحرب الباردة علامة فارقة في تطور النظام الدولى والعلاقات الدولية، فقد كان انهيار الاتحاد السوفيتي علامة النهاية على انهيار المعسكر الشرقى والإيديولوجية الشيوعية، وانتهاء تأثيرها على العالم الثالث، مع تزايد أهمية العامل الاقتصادى، والثورة العلمية، وتراجع نسبي في أهمية الأداة العسكرية فى إدارة العلاقات الدولية. ومع هذه التحولات بدأ البعض من السياسيين والمفكرين يتحدثون عن “نظام عالمي جديد”، و”نهاية التاريخ”، “وصدام الحضارات”(4).
وقد أدت التغيرات في دول المعسكر الشرقي، ثم في بعض دول العالم الثالث إلى نقص في قدرة الدولة على التحكم في مواطنيها من خلال ضغوط من أعلى جاءت من الفاعلين فوق – القوميين، وأخرى من أسفل جاءت من فاعلين دون- قوميين. وفي هذا الإطار تغير التعريف العلمى السياسة والقانون للسيادة الوطنية من احتكار السلطة من جانب الدولة إلى مسئولية الدولة عن حماية مواطنيها، فإن فشلت الدولة في تحقيق تلك الحماية فتحت أبوابًا أخرى لحماية المواطنين من خلال التدخل الإنساني. وامتد التغير إلى مفهوم الأمن القومي فلم يعد مرتبطًا فقط بالدولة ونظامها السياسي بل امتد ليشمل أمن الإنسان الفرد فعلاً مفهوم الأمن الإنساني، وأصبح ينافس المفهوم التقليدي القديم للأمن القومي ((5)

ولقد تباينت الآراء حول “النظام العالمي الجديد”، فهناك من يؤيد هنا الرأي مستندًا إلى زوال الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة. وهناك من رفض مقولة النظام العالمي الجديد معللا ذلك بحالة الفوضى والصراعات التي انتابت العالم، والتي تصبح معها مثل هذه المقولة نوعا من الخديعة والوهم، وإن نظام ما بعد الحرب الباردة لا يختلف عن سابقه من حيث آليات اتخاذ القرار. ويوجد رأي ثالث يرى أن ما يسمى بالنظام العالمي الجديد لا يزال قيد التشكيل، وأن معالمه لم تستقر بشكل نهائي بعد، وأن المرحلة الحالية مرحلة انتقالية قد تستغرق سنوات عديدة، ولذلك يفصل هذا الاتجاه استخدام تعبير النظام الدولي المتغير للتعبير عن مرحلة التغير الراهنة في العلاقات الدولية (6).

ومن الملامح الرئيسية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة انهيار حلف وارسو وتفككه من دون حرب. وفي المقابل استمر حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، بل توسع شرقا وذهب إلى خارج منطقته التقليدية القديمة في أمريكا الشمالية وأوربا الغربية، حيث انضمت إليه كل دول أوربا الشرقية التي كانت أعضاء سابقين فى حلف وارسو، وذلك من دون أي تكلفة عسكرية. بل إن امتداد الناتو إلى خارج منطقته، حتى لا يذهب إلى خارج نظام عمله وينهار مثل وارسو الذي كان قد تأسس في 1955 ردا عليه. وحدث هذا التوسع للناتو دون أي تكلفة عسكرية. بل إن امتداد الناتو الذي كان مؤسسيًا ووظيفيًا في شرق أوربا لم يكن الصورة الوحيدة لامتداده، لأنه طرح برنامج حوار الناتو- المتوسط عام 1994، وتدخل في أفغانستان، مع الولايات المتحدة، بعد سبتمبر 2011، وتدخلت بعض دوله عسكريًا مع الولايات المتحدة الأمريكية في العراق بعد مارس 2003، ثم طرح مبادرة اسطنبول للتعاون في 2004 كإطار لتعاون الحلف الأطلنطي مع دول مجلس التعاون الخليجي التي تقبل الانضمام إلى تلك المبادرة.

ويعني ذلك أن الناتو لم يكتف بملء الفراغ الإستراتيجي الذي نتج عن انهيار وارسو والاتحاد السوفيتي، بل امتد شرقًا ليصل إلى المتوسط والعراق وأفغانستان وأربع من دول مجلس التعاون الخليجي (7).

وعرفت هذه المرحلة، أيضًا، انتهاء الشيوعية وما تبعه من تحول إلى الرأسمالية والديمقراطية. وقد حدث ذلك بوضوح وقوة ف بلاد أوربا الشرقية حلفاء الاتحاد السوفيتي في مرحلة الحرب الباردة، وتأكد ذلك مع انضمام هذه الدول إلى الاتحاد الأوربي. وشهدت الصين تحولات نحو الرأسمالية، ولم تنجح الصين أو كوريا الشمالية في تقديم بديل دولي للرأسمالية، وتقوّى تيار التحول الرأسمالى الديمقراطي، الذي كانت بوادره قد ظهرت بوضوح منذ سبعينيات القرن الماضي، في أمريكا اللاتينية.

وساعد على ذلك تحول إلى اقتصاد المعرفة كنتاج للثورة العلمية والتكنولوجية التي جعلت المعلومات والمعرفة هي الأساس في التقدم على المستوى الوطني، وفي العالم على مستوى الجغرافيا والمكان.

وارتبط بذلك ظهور العامل الثقافي في السياسة الدولية، وذلك على نحو أدى إلى بروز التعاون الثقافي الذي يعزز فرص التعاون في مجالات الاقتصاد والسياسة. وفي مجال السياسة، كان ذلك يعني أن تكون الثقافة عاملاً مؤثرًا في حركة الصراع الدولي وإدارته، وذلك على نحو غير مسبوق. ومن ملامح مرحلة ما بعد الحرب الباردة صعود كبير في ظاهرة الأصولية الدينية على مستوى العالم. فمع سقوط الشيوعية حدث فراغ ملأته، أو حاولت ملأه، عناصر عديدة منها الولايات المتحدة والمعسكر الغربي. ولكن كانت الجماعات الأصولية الدينية أحد اللاعبين الذين حاولوا استثمار ذلك الفراغ لصالحهم، بحيث تكون أطرافًا أكثر تأثيرًا في حركة العلاقات الدولية مما كان عليه الوضع أثناء الحرب الباردة. وقد اندفعت تلك الجماعات والتيارات نحو بناء نموذج بديل يقوم على أساس تطورات “جهادية تكفيرية” تستخدمه في صراعها ليس بالضرورة مع قوى كبرى، ولكن مع دول عربية. ومع ذلك التغير في حركة العلاقات الدولية ودينامياتها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، أصبحت القضايا والمشكلات والخيارات والمصالح الاقتصادية تحتل موقعًا أكثر تقدمًا مما كانت عليه في الماضي. وفي ذلك السياق، لم تعد ثمة عداءات أو صداقات أيديولوجية مطلقة تقود حركة العلاقات الدولية، وخصوصًا إذا كنا نتحدث في الإطار الذي لا توجد فيه الجماعات والقوى الأيديولوجية، المتطرفة دينيًا أو وطنيًا.

وأصبحت المصالح المشتركة أو المتبادلة هي الأساس في حركة الدول. وهذا هو ما يفسر العلاقات الاقتصادية الكبيرة والقوية فيما بين الصين من ناحية والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي من ناحية أخرى. كما يفسر لنا، أيضًا، النمو الواضح في العلاقات الصينية- الروسية في المجالات الاقتصادية الإستراتيجية. وفي هذا السياق تحول المبدأ الرئيسي الحاكم لحركة العلاقات الدولية من مبدأ توازن القوى، في مرحلة تطور العلاقات الدولية المعاصرة والحديثة، إلى مبدأ توازن المصالح في العقد الأخير من الزمن. وترتب على ذلك تطوير استراتيجيات المواجهة لتتحول من الصراع والمواجهة العنيفة إلى التعاون أو التساوم باستخدام أدوات سلمية لإدارة تلك العلاقات. ولذلك انتشرت التكتلات الاقتصادية ولم تعد قاصرة على الاتحاد الأوربي. وإذا كان الصراع بين الغرب والشرق قد انتهى، فإنه يتحول إلى صراع بين الشمال المتقدم والجنوب الفقير، حيث أصبح الاعتماد على مقومات وقدرات القوة الاقتصادية أساسيًا في حركة العلاقات الدولية. وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة حازت قضايا الأمن الإنسانى على أهمية أكبر. ومنها قضايا البيئة وتغير المناخ، والتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وربما ارتبط بذلك التحول ازدياد في حركة المنظمات الدولية والإقليمية العاملة في المجالات سالفة الذكر، فضلاً عن تزايد في الوزن النسبي الذي تحظى به الشركات متعددة الجنسيات في حركة النظام الدولي (8).

 

ثالثًا- الولايات المتحدة الأمريكية وهيكل النظام العالمي

وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة حاولت الولايات المتحدة الأمريكية أن تسيطر على التفاعلات الدولية، وأن تضبط قواعد حركتها بما يحقق لها فرض السيطرة على الآخرين واستمرار واشنطن في قيادة تلك الحركة. وكانت البداية في حرب تحرير الكويت في 1991، والتدخل في الصومال، ثم في البوسنة والهرسك في 1995، أي أن هذه التدخلات كانت بالقوة العسكرية في الخليج العربي والقرن الأفريقي، ويوغوسلافيا السابقة في الأدرياتيك. أما في العقد الأول من القرن الحالي فقد كان التدخل بحجم أكبر في أفغانستان في عام 2001، ثم في العراق في 2003، وكان حجم هذين التداخلين أكبر من سابقاتها التي حدثت في العقد الأخير من القرن العشرين. وقد كان متصورًا أن انهيار الاتحاد السوفيتي السابق كان سيخلق فراغًا وفوضى واسعتين وبخاصة في شرق ووسط أوربا وفي منطقة أوراسيا. لكن اندماج دول أوربا الشرقية في حلف الناتو وفي الاتحاد الأوربي، وزوال الخلاف بين شرق أوربا وغربها، وتطوير علاقات جديدة في عهد الرئيس الروسي “يلتسن” بين روسيا الاتحادية والدول الغربية (الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا) كل ذلك ساعد على استقرار النظام الدولي نسبيًا، وعلى توظيف مجلس الأمن الدولي لصالح الولايات المتحدة والغرب كما حدث في 1995 مع أزمة البوسنة والهرسك. وفي عام 2001 مع أزمة 11 سبتمبر.

وقد ترافق مع ذلك التطور في البعد الإستراتيجي لحركة العلاقات الدولية تطور في البعد الاقتصادي من خلال زيادة تأثير، ونفوذ، الشركات متعددة الجنسيات بل وبعض الأفراد في إطار عالمية، أو عولمة الحركة الاقتصادية. وكانت شبكة المجتمع المدني العالمي وتوسعها، لتصل حتى إلى داخل بلدان العالم الثالث، ملمحًا آخر من ملامح تطور النظام الدولي، وتحوله إلى العالمية تدريجيًا.

ومن ملامح التغير في حركة العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة أن القوة الدولية المهمة والمؤثرة لم تعد قاصرة على الغرب الأمريكي والأوربي، بل اتسع ليشمل قوى آسيا (الصين واليابان والهند وأوراسيا (روسيا الاتحادية) وأمريكا اللاتينية (البرازيل)، وأفريقيا، (جنوب أفريقيا). ونتيجة لذلك، ولتنوع الأطراف الدولية المؤثرة (دولا سبق ذكرها في السطور أعلاه والتكتلات والتجمعات والمنظمات الاقتصادية والسياسية والعسكرية) تعددت القضايا العالمية التي تشكل أجندة النظام العالمي، ولم تعد فقط عسكرية أو إستراتيجية، بل ضمت قضايا عالمية إنسانية وسياسية واقتصادية. وكذلك اتسع نطاق حركة العلاقات الدولية، ولم يعد قاصرًا على أوربا، التي كانت مركز حركة العلاقات الدولية لثلاثة قرون من الزمن، بل ولم يعد ممكنا تجاهل أي منطقة جغرافية بزعم أنها صغيرة أو بعيدة أو ضعيفة. ورغم أن ذلك التحول يمثل تحديًا أمام النظام الدولي الجديد، لأن أجندته أصبحت أثقل وزنًا وأوسع نطاقًا، وقد لا يكون، أيضًا، من السهل دمج القوى الدولية الجديدة العديدة باهتماماتها وانشغالاتها ومصالحها المتعددة أو المتنوعة، مما يجعل النظام الدولي الجديد أكثر تعقدًا وأكثر تركيبية، وبالتالي ربما يكون التعامل معه، على الأقل من الناحية النظرية، أكثر صعوبة مما كان عليه الوضع في المرحلة السابقة.

ولكن في المقابل، فإن خريطة النظام الدولي الجديد لا تمنع تطوير إطار جديد لذلك النظام. فالأحادية القطبية، التي وجدت في مدة محدودة عقب عام 1991، والتي كانت تبدو أبسط، من الناحية النظرية، أرهقت الولايات المتحدة، التي كانت تبدو، أو ترغب في أن تكون قطبًا واحدًا.

والثنائية القطبية كانت تبدو مستقرة قبل عام 1991، ولكنها في المقابل ظلت محفوفة بالمخاطر. وفي المقابل فإن القوى الدولية الصاعدة الجديدة لديها مصلحة كبيرة في الحفاظ على نظام مفتوح قائم على قواعد متفق عليها، على الأقل في المجال غير الإستراتيجي، مثل قواعد حرية التجارة والاستثمار، والتشارك المعلوماتي.

وفي هذا الإطار، من المهم أن نذكر علامات مهمة على طريقة تطور النظام الدولي الجديد. فالصين تدرك مصلحتها المشتركة مع الغرب، ولذلك فهي تدعم النظام الرأسمالي العالمي واستقراره، وذلك حرصًا على مصالحها الاقتصادية، لأن انهيار مثل ذلك النظام يمكن أن يدمر الاقتصاد الصيني كذلك. وروسيا تحرص على علاقاتها مع حلفائها في العالم، وذلك هو ما يفسر موقفها من أزمة الحرب الأهلية السورية التي استطاعت فيها روسيا أن تحدث تغييرًا في مواقف وسياسات الولايات المتحدة والغرب عمومًا. ويمكن أن ينطبق هذا التحليل، أيضًا، على مواقف روسيا من كل من إيران وكوريا الشمالية، وهي المواقف التى تؤثر على سياسات ومواقف الغرب، بما يقلل من فرص واحتمالات تحول الأزمات مع تلك الدول إلى حرب أو مواجهة عسكرية )9(.

ورغم تك التطورات والتغيرات المهمة والتي تشير إلى عناصر تغير مهمة في النظم الدولي وحركته وأجندته وأدواته في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، فإن تلك المرحلة، ذاتها، قد عرفت عناصر وتوجهات وأدوات وقضايا تشير إلى وجود عناصر استمرارية فيما بين تلك المرحلة والمرحلة السابقة عليها. وكان من ملامح ذلك مقاومة الولايات المتحدة الأمريكية، وقوى دولية أخرى، قد يكون منها الصين، لمحاولة توسيع مجلس الأمن بزيادة عدد أعضائه الدائمين، لأن ذلك كان سيعني تراجع نفوذ الدول دائمة العضوية وصاحبة سلطة النقض (الفيتو)، ومنها التحمس لقضية ضبط التسلح، وبالذات النووي، مع الاستمرار في استخدام القوة العسكرية، انتشارًا وسلاحًا وحربًا، لتحقيق أهداف وتنمية مصالحها(10). ويضاف إلى عناصر الاستمرارية استمرار مشكلات الحدود بين الدول، واستمرار حلف شمال الأطلنطي، بل وذهابه إلى مناطق جغرافية أخرى غير منطقته التقليدية التي نشأ عليها، فضلاً على لجوئه، لأول مرة، إلى التدخل العسكري المباشر في البوسنة والهرسك وأفغانستان والعراق، وهو ما لم يتم خلال مرحلة الحرب الباردة التي كان يوجد فيها حلف وارسو المناهض له.

ومن علامات الاستمرارية في النظام الدولي، رغم مؤشرات التغير، ما يتعلق باستمرار الصراع العربي الإسرائيلي دون حل، وعدم استقلال فلسطين(11)، بل ويبدو، أن كل ما يتعلق بإسرائيل لم يخضع لأي تغير جوهري، وهو ما يعكس استمرارا لتوجهات النظام الدولي من تلك القضية، مع استمرار الخلل في ميزان القوة الإقليمي في المنطقة لصالح إسرائيل التي تستمر في وضع الأمر العسكري كأولوية قصوى حاكمة لسياسات قوى وأطراف ودول معينة تأتي إسرائيل في مقدمتها.

وفيما يتعلق بمستقبل هيكل النظام الدولي تتعدد الاتجاهات النظرية بين اتجاه يرى أن مرحلة ما بعد الحرب الباردة وانهيار القطب السوفيتي أنتجت نظامًا دوليًا أحادي القطبية، حيث توجد الولايات المتحدة منفردة على قمة هيكل ذلك النظام، خصوصًا مع تحالف القوى الدولية الأوربية مع القطبية الأمريكية، وعدم رفض الصين، أو عدم قدرتها على رفض الأحادية القطبية الأمريكية نظرا لتعدد وضمان المصالح الاقتصادية المتبادلة بين الطرفين.

ولكن ثمة رأيًا ثانيًا يرى أن هيكل النظام الدولي يقوم الآن على تعدد الأقطاب. فإلى جانب الولايات المتحدة توجد روسيا الاتحادية والصين والاتحاد الأوربي واليابان كقوى دولية مؤثرة.

أما الاتجاه الثالث فيرى أن عملية التحول في هيكل النظام الدولي ما زالت قيد التشكيل، وأنها لم تصل إلى وضع محدد بعد، وأن الأمر فيما يتعلق بتطور هيكل النظام الدولي أمامه سنوات بعد الآن(12). وهكذا فإن ثمة اتجاهات ثلاثة يرى أحدها أن النظام الدولي يعيش الآن مرحلة قطبية أحادية، ويرى الثاني أنه يعيش مرحلة قطبية تعددية، أما الثالث فيرى أن هيكل النظام الدولي ما زال قيد التشكيل في هذه المرحلة الانتقالية التي قد تستغرق سنوات (13).

ويواجه النظام الدولي الراهن تحديات من بينها وجود مسافة لا تزال طويلة بين القطب الأمريكي والقوى الدولية الأخرى التي تسعى إلى الاقتراب من مستواه وردم الفجوة التي تفصل كلا منها عنه سواء في مجال القوة العسكرية التي لا تزال أطول وأضخم الفجوات القائمة بين الطرف الأمريكي والقوى الكبرى الأخرى باستثناء روسيا الاتحادية، أو في مجال القوة الاقتصادية وفيها بتحقيق أكبر نجاحات القوى الدولية الأخرى في الاقتراب من مستوى القوة الأمريكية، أو في القوة العلمية- التكنولوجية.

ومن التحديات أيضًا أن للعولمة جوانب وأبعادًا، ومن ثم آثارًا سلبية، كما لها آثار إيجابية. وسيكون على النظام الدولي قيد التشكيل في هيكل قوته أن يواجه آثار العولمة السلبية خصوصًا في مجالات البيئة والثقافة والاستخبارات. أما التحدي الثالث فيتمثل في تفاقم ظاهرة الإرهاب والعنف الدولي الذي بلغ ذروته عالميا في سبتمبر 2001 ثم امتد جغرافيًا ليشمل العديد من مناطق العالم ودوله، وهو تهديد ما زال قائمًا، بل ومتزايد بما يفرض ضغوطًا ثقيلة على الدولة وغيرها من الكيانات الدولية، بل وكثير من الأفراد. وكذلك، فإن اتساع الفجوة التكنولوجية الضخمة بين المتقدمين والمتخلفين، دولا كانوا أو شركات أو أفرادًا، ستظل تمثل تحديًا لتطور النظام الدولي في المرحلة المقبلة(14).

خاتمة

وهكذا تتعدد وتتنوع التحديات التي تواجه النظام الدولي في مرحلته الراهنة. ولذلك انعكس ذلك الأمر على رؤية الاتجاهات النظرية للتغير، أو التطور، في النظام الدولي. فثمة اتجاه معارض لفكرة تأسس نظام دولي جديد، وهو اتجاه يوجد أساسًا في بلاد العالم الثالث. أما في الولايات المتحدة فيتجه الفكر إلى الأخذ باتجاه أحادي يضع الولايات المتحدة، بالطبع منفردة، على رأس النظام الدولي. ويرى اتجاه ثالث أن بنية النظام الدولي لم تتغير، لأنه ظل ثنائيًا، ولكنه تغير من ثنائية الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي، إلى ثنائية الشمال المتقدم والجنوب المتخلف. والاتجاه الرابع يرى أن النظام الدولي أصبح متعدد الأقطاب، نتيجة تنافس عدد من القوى الكبرى، الأمر الذي أنهى مرحلة القطبية الأحادية(15).

أما الاتجاه الخامس والأخير، فيرى أن التوجه الرئيسي هو التوجه نحو العالمية، من حيث القضايا (أجندة النظام) أو القديم والقواعد المحركة له، أو الاعتماد المتبادل كأساس لحركة العلاقات الدولية الاقتصادية والثقافية.

هوامش الدراسة

  1. . – أحمد يوسف أحمد، ومحمد زيادة، مقدمة في العلاقات الدولية، جامعة صنعاء، 1985.
  2. – عبد المنعم المشاط، النظام الدولي والتحول إلى التعددية التوافقية، القاهرة، مؤسسة الأهرام، مجلة السياسة الدولية العدد 178، أكتوبر 2009.
  3. – إسماعيل صبري مقلد، أصول العلاقات الدولية: إطار عام، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2007.
  4. – مصطفى علوي، من صدام السياسات إلى حوار الحضارات، صحيفة الأهرام، 17/11/2013.
  5. – بهجت قرني، من النظام الدولي إلى النظام العالم، القاهرة، مؤسسة الأهرام، مجلة السياسة الدولية، العدد 161، يوليو 2005.
  6. – إسماعيل صبري مقلد، العلاقات السياسية الدولية: النظرية والواقع، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، الطبقة الأولى، 2001.
  7. – مصطفى علوي، إستراتيجية حلف شمال الأطلسي في منطقة الخليج العربي، أبو ظبي- مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2008.
  8. – أحمد إبراهيم السيد سيد أحمد، التغير في النظام الدولي بعد الحرب الباردة ودور مجلس الأمن في حفظ السلم والأمن الدوليين جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، رسالة ماجستير في العلوم السياسية، 2009.
  9. – وليد محمود عبد الناصر، المعادلات الجديدة: تحولات موازين القوى في النظام الدولي، القاهرة، مؤسسة الأهرام، مجلة السياسة الدولية، العدد 187. يناير 2012. وكذلك كاترين أبو الخير، عالم بلا أقطاب، القاهرة، مؤسسة الأهرام، مجلة السياسة الدولية، العدد 189، يوليو 2012.
  10. – وليد محمود عبد الناصر، مرجع سابق.
  11. – بهجت قرني، مرجع سابق.
  12. – إسماعيل صبري مقلد، العلاقات السياسية الدولية: النظرية والواقع، مرجع سابق.
  13. – عبد الناصر جدلي، أثر الحرب الباردة على الاتجاهات الكبرى للنظام الدولي، القاهرة، مكتبة مدبولي، 2011.
  14. – إسماعيل صبري مقلد، مرجع سابق.
  15. – رباحي أمينة، تأثير التحولات الإستراتيجية في النظام الدولى على التنظير في العلاقات الدولية، جامعة الجزائر كلية العلوم السياسية والإعلامية، المجلة الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية، 2011.

د. مصطفى علوي

المركز العربي للبحوث والدراسات

http://www.acrseg.org/36519