كان إدوارد سعيد سباقا إلى الكشف عن الوظيفة المزدوجة للإعلام، حينما وضح بأن مفهوم التغطية الإعلامية يعني الكشف عن الأحداث وفي نفس الوقت حجب الحقائق عن الجمهور، الأول تغطية بالمعنى الاصطلاحي في علم الإعلام والثاني تغطية بالمعنى اللغوي. لكن سعيد كتب هذا الكلام في نهاية السبعينات من القرن الماضي عندما تعرض لدراسة آليات التغطية الإعلامية الأميركية لحدث الثورة الإيرانية، وفي ذلك الوقت لم تكن هناك قنوات فضائية أو شبكة إنترنت توفر مجالا أوسع أمام مختلف المناورات في ساحة الإعلام.
وقد استفادت التنظيمات الإرهابية في الألفية الجديدة من هذه التقنيات والإمكانيات الوفيرة التي تتيحها من أجل التبشير بأفكارها المتطرفة وغسل أدمغة المتلقين وإذاعة الأكاذيب التي من شأنها التأثير على معنويات الجمهور. فإذا كان تنظيم القاعدة قد واكب نشأة القنوات الفضائية وقناة الجزيرة القطرية التي مكنته من توسيع دائرة تأثيره، فإن تنظيم داعش قد استفاد بشكل قوي من الشبكة العنكبوتية، حيث فتح المئات من المواقع وأنشأ العديد من المنابر والمنشورات والمجلات، بعضها ذو طابع عسكري للتعريف بعملياته الميدانية، وبعضها ذو طابع أيديولوجي لنشر آرائه المتشددة.
في عام 2005 صرح الرجل الثاني في تنظيم القاعدة آنئذ، أيمن الظواهري، بأن نسبة خمسين في المئة من معركة التنظيم تجري على مستوى الإعلام، ذلك أن تنظيم القاعدة فهم بأن الرسالة الإعلامية تعد جزءا من سلاحه ضد خصومه، ومن ثم اندفع إلى بث أشرطة الفيديو التي كان يمررها عبر القناة القطرية التي فتحت له الباب مشرعا أمام خطابه المتطرف لكي يلج مختلف البيوت في العالم، بيد أن الذي فهم سلطة الإعلام والصورة بشكل أكبر هو أبومصعب الزرقاوي، الذي أدخل عنصرا جديدا في عملية التسويق الإعلامي للمذابح التي كان يقترفها داخل العراق عندما أسس تنظيم التوحيد والجهاد، متجاوزا بذلك ما كان يقوم به تنظيم القاعدة.
لكن تنظيم داعش يعد اليوم أكثر التنظيمات الإرهابية قدرة على المناورة داخل العالم الافتراضي، من خلال فتح العديد من المواقع واختراق بعض المواقع الأخرى، وممارسة نوع من الكر والفر في مواجهة عمليات الحصار التي تلاحق تلك المواقع، بحيث كلما أغلق موقع تابع له كلما لجأ إلى إنشاء مواقع أخرى، وكأنه بذلك يقول إن كل المعركة ـ وليس نصفها فقط كما قال الظواهري ـ تجري على مستوى الإعلام.
يعرف تنظيم داعش أن هناك ما يناهز 800 مليون شخص يستخدمون شبكة الإنترنت بشكل يومي في مختلف أنحاء العالم، وأن هذا العدد يعد بمثابة سوق مفتوحة أمام خطابه المتطرف، ولذلك فهو يستخدم تلك الوسيلة أكثر فأكثر كلما شعر بأنه يفقد زمام المبادرة على الأرض، ويدرك بأن الخسارة الميدانية قد تكون خسارة تكتيكية، لكن الخسارة على صعيد الإعلام الافتراضي تعد خسارة استراتيجية بالنسبة إليه، أو مسألة حياة أو موت، خصوصا وأن الرهان الرئيسي لدى كل جماعة متطرفة هو العمل على انتشار أفكارها بدرجة أساسية، أما نقطة الارتكاز على الأرض فيمكن أن تتغير بحسب لعبة تدافع القوى ميدانيا؛ ولذا فإن تنظيم داعش يتهيأ اليوم لكي ينقل نقطة الارتكاز إلى القطر الليبي، كأحد الاحتمالات المطروحة في حال الهزيمة في العراق وسوريا، لكنه بالمقابل لا يريد التفريط في نقطة الارتكاز الإعلامي.
حتى خصوم التنظيم من الجماعات المسلحة المتطرفة الأخرى، كجبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة في سوريا والعراق، باتوا يدركون بأن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا يوظف تقنية الإعلام الافتراضي كأداة للحرب ضدهم، حيث لجأ إلى سياسة الإغراق في ما يتعلق بعدد المواقع والمنابر التي يديرها وتتكلف بشن الهجومات الإعلامية عليهم والتأثير في معنويات أفراد تلك التنظيمات. ويروي أحد أتباع الجبهة، واسمه الحركي حسام الأموي، في أوراق له كتبها عن التحاقه في البداية بتنظيم داعش قبل التخلي عنها والعودة إلى القاعدة، بأن تنظيم الدولة أصبح “ظاهرة إعلامية ليس لها مثيل”.
التوظيف الاستراتيجي للإعلام الافتراضي لدى تنظيم البغدادي قاده إلى وضع خطة متعددة المستويات لبسط نفوذه الإعلامي في مواجهة التنظيمات المنافسة، وذلك عبر مراعاة نفسيات المتلقين، بحسب الحاجات المطلوبة أو المفترضة لدى “الزبون”. ويشرح حسام الأموي العملية كالتالي: “استطاعت (أي دولة البغدادي) أن تعرف ماذا يريد الفرد ثم تلبي له تلك الرغبة، ومن ثم تتحكم بكل خيوط تفكيره وقراراته. فالشخص الذي يحب ذبح الكفار وفرت له ما يحب، والشخص الذي يحب الشجاعة والإقدام قدمت له تلك المعارك وأنتجتها بحرفية كاملة، والشخص الذي يحب تحدي الغرب وتهديده وفرت له هذا أيضا، والشخص الذي كان يحلم بالسيطرة والتمكين صورت له المناطق التي تسيطر عليها وبعض الخدمات، وعملت على إبداء كل الإيجابيات وإن قلت، وإخفاء كل السلبيات وإن كثرت، حتى أنها تصدر ألبومات، ومثال على ذلك صور عن صناعة الليمون في ولاية الرقة ليتخيل المتابع أن الولاية في أمان ولا ينقص إلا أن تطلعه على الفواكه والورود في الولاية، ولا يعلم أن المناوشات على أطرافها”.
إنها لعبة الإرهاب مع العقول على ساحة الإعلام الافتراضي، حيث يسعى تنظيم داعش إلى خلق وهم لدى المتلقي يحجب واقعا قائما ويكشف واقعا افتراضيا قوامه الكلمة والصورة، لربح المزيد من الوقت من خلال استقطاب مؤيدين جدد لمشروع يعاكس الإرادة الإنسانية، وهو ما يعني أن جهود التصدي للإرهاب على الجبهة الإعلامية لا تقل أهمية عن التصدي المادي له على صعيد الواقع الميداني.
إدريس الكنبوري
صحيفة العرب اللندنية