كانت مجموعة الدولة الإسلامية “داعش”، تخسر مساحات شاسعة من الأراضي في العراق وسورية منذ شهور. ومع ذلك، تترك هذه المجموعة وراءها عندما تذهب العبوات الناسفة المموهة القاتلة -وبذور تفجر حرب طائفية.
* * *
يقف الموت دائماً هناك فقط، على بعد ثلاث عبوات مياه؛ وهي عبوات صغيرة بسعة نصف لتر، بعضها نصف فارغ بينما لم تتم إزالة الختم عن أخريات. ومن الممكن العثور عليها أمام أبوابكم وبوابات حدائقكم وفتحات أسواركم: تحذيرات صامتة وضعها مقاتلو الميليشيات الشيعية للتحذير من وجود ألغام. ويقول المقاتلون الذين كانوا سينعمون بالهدوء لولا ذلك، والذين لا يتركونك تغيب عن الأنظار ثانية واحدة: “لا تخطُ خطوة أخرى. الجحيم قابع في الانتظار هناك”.
يمكن العثور على زجاجات المياه هذه على طول الطريق المدمر أمام المباني القليلة غير المدمرة المتبقية في بلدة البشير، التي تم تحريرها في بداية شهر أيار (مايو) من مقاتلي “داعش”. ومع ذلك، تبقى هذه المنشآت غير المدمرة أكثر خطورة من كل شيء آخر.
يقول المتحدث باسم المليشيات الشيعية التي ما تزال تلتزم -بعد أسابيع من الاستيلاء على البشير- بالبقاء في الطرق الآمنة في البلدة: “كل شيء ملغم، كل منزل وساحة ومقبض باب ومفتاح إنارة. لم نفقد مقاتلاً واحداً في هجومنا الأخير. لكننا فقدنا أربعة مقاتلين مباشرة بعد ذلك عندما ذهبوا لتفتيش المنازل ورؤية ما إذا كان هناك مقاتلون من داعش مختبئين في داخلها”.
مع الوقت الذي دهمت فيه قوات “داعش” بلدة البشير في 17 حزيران (يونيو) 2014، كان معظم سكانها (الشيعة) هربوا قبل ساعات. ولمدة عامين تقريباً، عاش مقاتلو المجموعة الإرهابية هنا وحولوا المكان إلى حصن، حافرين أنفاقاً وزارعين الألغام في كل المنازل باستثناء نحو دزينتين من المنازل التي استخدموها لأنفسهم. وقد استغرقت عملية استعادة البشير أكثر من عام، وكان الهجوم المضاد في نهاية المطاف ناجحاً في الجزء الكبير منه بفضل الدور الذي لعبته الطائرات الأميركية التي قصفت مواقع “داعش”.
وكان الوضع مماثلاً، ولو على نطاق أكبر، في مدينة الفلوجة؛ حيث أمضت القوات العراقية أسابيع شاقة في طريقها إلى داخل المدينة في هجومها لتحريرها من “داعش”. ومع استكمال الكثير من العمل هناك الآن، بما في ذلك استعادة مستشفى ضخم كان مقاتلو “داعش” يستخدمونه كمقر رئيسي وكمصنع لصناعة القنابل، ما تزال الحالة الأمنية متوترة. فبالإضافة إلى الألغام المفخخة في عموم المدينة، هرب عشرات الآلاف من المدنيين من الفلوجة في الأسابيع الأخيرة؛ حيث تبينت صعوبة تزويدهم بالطعام والمأوى.
من منظور عسكري صرف، يمر “داعش” الآن بحالة تراجع في عموم العراق وفي أجزاء من سورية، بل وحتى في ليبيا حيث هاجمت قوات من مصراتة مؤخراً معقل الدولة الإسلامية في سرت بدعم صريح من ضربات جوية من الائتلاف الأميركي، وهو ما أفضى إلى الحد من حركة “داعش” وحرمان المجموعة الإرهابية من معظم العوائد التي كانت تجنيها من حقول النفط التي تحت سيطرتها. ومع إغلاق الحدود التركية مع سورية، أصبح من الأصعب على المقاتلين الأجانب الانضمام إلى “داعش”. وتتقدم القوات المدعومة من الغرب وإيران ضد المجموعة في كل مكان. وقد خسر “داعش” في العراق حوالي 45 في المائة من الأراضي التي كان يسيطر عليها ذات مرة، وفق تقدير لوزارة الدفاع الأميركية، بينما خسر في سورية ما يصل إلى 20 في المائة من مناطقه.
على الخريطة، تتقلص “الخلافة” باطراد. أما على الأرض، فيتصاعد خطر احتمال أن تصبح الفلوجة وغيرها من المدن السنية أهدافاً للانتقام الشيعي بمجرد تحريرها. وفي الحقيقة، اختارت واشنطن عدم تقديم دعم جوي للعمليات التي تشارك فيها ميليشيات شيعية. وفي الرد على ذلك، بدأ الشيعة بإرسال وحدات الجيش العراقي أو الأكراد في المقدمة، ثم الاندفاع خلفها.
“غير مؤمنين”
اتخذ اجتياح الفلوجة بالمثل خصائص الحرب الطائفية؛ حيث كتبت الميليشيات الشيعية اسم نمر النمر، الواعظ الشيعي الذي أعدم في العربية السعودية، على القذائف التي تقوم بإطلاقها على المدينة. وفي رسالة على شريط فيديو، حث قائد كتيبة أبو الفضل العباس مقاتليه على “القضاء على النمو السرطاني للفلوجة من أجل تطهير العراق. لا يوجد وطنيون هناك ولا يوجد مؤمنون”.
والمدينة مقطوعة؛ ولا يمكن جلب الطعام والماء والإمدادات الطبية إليها. وقال أحد المواطنين العالقين في مكالمة هاتفية نادرة مؤخراً: “أصبح الكيلوغرام الواحد من الأرز يكلف حالياً 48 دولاراً. وقد نصب داعش حواجز طرق والكمائن في كل مكان لمنع الناس من المغادرة”.
مع ذلك، تمكنت آلاف عدة من الناس من الهرب؛ حيث غادر الكثيرون منهم سيراً على الأقدام خلال الليل عبر قنوات الري أو حتى عبر قطع نهر الفرات سباحة في الأيام الأخيرة. ومنذ يوم الجمعة الذي أعلنت فيه الحكومة العراقية عن تحرير المدينة، ازداد عدد المدنيين الذين يغادرون بشكل كبير مع استمرار عملية استعادة المدينة. وقدرت المنظمة الدولية للهجرة عدد الذين غادروا المدينة بأكثر من 80.000 شخص منذ بدء القتال في أيار (مايو) الماضي، وفق تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال”.
في المراحل الأولى من الهجوم، قال خطباء “داعش” صراحة إن المدينة لن تسلم من دون قتال. وقالوا للناس: “سوف نبقى وسوف تبقون. وإذا هوجمنا فسنموت معاً”! وفي الأيام الأخيرة، بذل “داعش” قصارى جهوده للوفاء بتعهده عندما كانت القوات العراقية تكافح لتطهير وسط المدينة من متشددي التنظيم. ويوم السبت، جرح قناص من “داعش” جندياً حكومياً بينما كان هو وآخرون يتفاخرون بجزء محرر من المدينة.
وأشارت تقارير أخيرة إلى وجود جيوب مقاومة شرسة يبديها مقاتلو “داعش” الذين ظلوا في المدينة، وأوضحت التقارير أن هولاء الإسلاميين المتشددين يطبقون نمطاً من الدفاع شوهد في المدن التي تم انتزاعها من “داعش” منذ العام 2014. سواء في جيب كوباني الكردي في سورية أو في المعقل الأزيدي في سنجار، أو في بلدات تكريت والرمادي وبيجي أو في البلدات الأصغر مثل بلدة البشير في العراق -والتي سويت كلها بالأرض. وبالإضافة إلى ذلك، يقوم “داعش” بحفر الأنفاق تحت المدن التي يحتلها. بل وجد المحررون في بلدة البشير طرقاً تحت الأرض، والتي صمم معظمها للربط بين مواقع القتال. وقد امتد أحدها مئات الأمتار في اتجاه الموصل. وقال ناطق عسكري متحدثاً عنه: “كان كبيراً بحيث يستوعب سيارة”. وبالمثل، كانت الشوارع والجسور والمنازل ملغمة قبل وقت طويل من الهجمات الوشيكة. وإذا اقتربت القوات البرية، فإن قناصة “داعش” هم الوحيدون الذين يتبقون في مركز المدينة ويطلقون النار على الجنود المتقدمين من دون أن يكشفوا عن أنفسهم. وفي الأثناء، يقود مفجرون انتحاريون شاحنات مدعمة بقضبان فولاذية ومحملة بأطنان عدة من المتفجرات إلى داخل المواقع المعادية.
وسائد متفجرة
في بيجي، موطن مصفاة نفط، اشتكى مقاتلو الميليشيات الشيعية في الصيف الماضي من أنهم فقدوا رجالاً على مدار أسابيع عدة من دون حتى أن يشاهدوا قناصاً واحداً من “داعش”. كما تداول المقاتلون الأكراد قصة خبيرين في نزع القنابل، واللذين اعتقدا بعد ساعات من البحث في داخل منزل بأنهما وجدا كل المتفجرات المخبأة خلف الأبواب وفي جهاز التلفاز وعلى النوافذ وفي الخزائن. وبعد شعورهما بالإرهاق، جلسا على وسادتين -فانفجرتا فيهما.
كان “داعش” بدأ مبكراً في تصنيع الألغام بكميات صناعية. وباستخدام وسطاء، استوردت المجوعة كيلومترات من فتائل التفجير وآلاف الأطنان من المواد المتفجرة من الهند وبلدان أخرى إلى تركيا. ومن هناك، تم جلب الإمدادات عبر الحدود إلى داخل شبكة لامركزية لإنتاج الألغام المفخخة. وتوجد مصانع المتفجرات بالقرب من خطوط المواجهة من أجل جعل خطوط الإمداد قصيرة.
تكشف درجة تلغيم “داعش” مقدار تقييمه للمكان المعني. ففي البشير وسنجار –”مدن الكفار”- تحول كل منزل تقريباً إلى حفرة مميتة. وفي الموصل، يقول شهود عيان إن اسطوانات أكسجين بحجم الإنسان كانت تعبأ بالمتفجرات وتدفن تحت طرقات الدخول. لكن البلدات الأصلية لقادة “داعش” الكبار، مثل الحويجة، التي تقع إلى الجنوب الغربي من كركوك، وتلعفر إلى الغرب من الموصل، لم تلغم على الإطلاق كما يبدو.
ربما تكون حقيقة استمرار “داعش” في خسارة الأراضي رغما عنه أفضت إلى تنامي الخوف داخل إمبراطوريته المنكمشة. ومن الصعب جمع معلومات من داخل “الدولة الإسلامية”؛ حيث يعرض كل مصدر للمعلومات حياته للخطر. وكقاعدة، يتم تجنب استخدام الهواتف والبريد الإلكتروني ويتم تهريب التفاصيل عبر استخدام مراسلين -الأمر الذي يستغرق أياماً للإجابة عن الأسئلة. ويكتب أحد المخبرين: “يعامل أعضاء داعش كل شخص معه هاتف على أنه جاسوس”. ويعدد طرق الإعدام التي تنتظر الناس من أمثاله: “يلقى المتهم بالتجسس من أعلى سطح بناية، أو يعدم رمياً بالرصاص، أو يلقى به في حفرة من الأسيد”.
وفي إشارة إلى نقص السيولة المالية بشكل أسوأ من السابق لدى “داعش”، يقول المخبر: “هناك أشياء غريبة تحدث هنا”. ففي وقت سابق، كان “داعش” يدفع لمقاتليه ما يعادل 400 دولار في الشهر، لكن ذلك الرقم هبط إلى 150 دولاراً، والآن إلى مجرد 10 دولارات. ويقول المخبر: “الآن تستطيع دفع النقود لتخلص نفسك من كل انتهاك ما عدا التجسس. أما الفقراء جداً فيؤمرون بالتوجه إلى الجبهة لحفر الأنفاق. ويستطيع المدخنون بشكل خاص التخلص من العقاب بدفع 3.50 دولار عن كل سيجارة. وأصبحت أسعار السجائر أغلى بـ16 مرة، ويسيطر داعش على تهريبها”.
“لدينا خطة”!
يقول مصدر آخر متحدثاً عن الموصل: “المزاج هنا منذر. في كل يوم يمكن سماع واعظي داعش عبر مكبرات الصوت وهم منفتحون كلية. يقولون: “نحن نعرف أنكم تكرهوننا! إنه خطأكم أنكم خسرتم العديد من المدن! لقد خنتموننا حتى بالرغم من أننا جئنا لدعمكم ضد الشيعة، وأنتم لا تريدون القتال إلى جانبنا””. ويستمر المخبر: “يقر بعض رجال داعش في أحاديث جانبية بأنه لم يعد ينضم إلى المجموعة أي مقاتلين جدداً لا في سورية ولا في العراق. وذلك يقلقهم”.
ويقول المخبر إن الوعاظ يعترفون في خطب يوم الجمعة بأن قيادة “داعش” تعتقد أنها ستخسر الأراضي التي ما تزال تسيطر عليها. ويضيف: “ولكن، عند ذلك تأتي أهم نقطة عندهم: “سوف نعود ثانية أقوى من ذي قبل! لدينا الخطة للقيام بذلك”! لكنهم لا يقولون أبداً ما هي الخطة”.
لدى “داعش” خبرة مع الهزيمة التي تعقبها عودة مظفرة. ففي نهاية العقد الماضي، كانت المجموعة قد منيت بهزيمة مريرة وظلت ساكنة ومحافظة على ظهور منخفض الوتيرة في الموصل. ثم بدأت بعد ذلك في التمدد مرة أخرى في العام 2012، مستفيدة من حالة الفوضى العارمة في شمالي سورية. وهذا في الحقيقة هو الشعار الرسمي للمجموعة: “عِش وتوسع”.
ومن الممكن تلخيص الاستراتيجية التي تنتهجها قيادة “داعش” بالوضوح نفسه: إنهم يذكون عن قصد نار الكراهية لأعدائهم. وفي منتصف أيار (مايو)، استخدم قادة “داعش” هجمات مريعة في بغداد بشكل رئيسي ضد الضواحي الشيعية من أجل استدراج الهجوم على الفلوجة، حتى على الرغم من أنهم لن يكونوا قادرين على الاحتفاظ بالمدينة المعزولة كما هي عن أراضي “الدولة الإسلامية”. وهم لا يسمحون لدائرة مؤيديهم الخاصة بمغادرة المدينة.
وليس هدفهم هو جلب يوم قيامة، وإنما إثارة حرب طائفية شاملة: إنهم يريدون أن يُقمع السنة ويلاحقوا ويقتلوا بحيث لا يعود لديهم أي خيار آخر سوى العودة إلى “الدولة الإسلامية” لتكون حامية لهم.
طرد تحت التهديد
أصبح من المستحيل فعلياً تجاهل الكراهية التي يحس بها الشيعة في العراق. وقد أصبحت المدن والأراضي السنية التي تمت استعادتها خالية بشكل كبير من الناس؛ حيث طرد سكانها -إلى جانب آلاف الذين اعتقلوا واختفوا. وتظهر صور الأقمار الاصطناعية ذلك بالقرب من تكريت وفي داخلها؛ حيث تم نسف مئات المنازل بعد طرد “داعش” منها في نيسان (أبريل) من العام 2015.
وحتى مصفاة بيجي التي نجت من القتال في المنطقة من غير أن تلحق بها أضرار، قام المتشددون بتفكيكها على مدار أسابيع عدة. وانتهى المطاف بقطع صغيرة ومولدات منها في السوق السوداء، بينما نقلت عناصر أخرى إلى إيران. وتم طرد وفد من وزارة النفط العراقية كان سافر إلى بيجي للاطلاع على حالة المصفاة بعد انتهاء القتال، تحت تهديد السلاح.
وفي الأثناء، بدأت الميليشيات الشيعية في بلدة البشير بالحديث عن يد الله الحامية التي تحميهم من قذائف “داعش” المتخندق على بعد كيلومترات قليلة. ويزعم رجل دين يتجول في المدينة المدمرة: “لقد فتح تحرير البشير صفحات القرآن… وصلت نفحات الجنة” -مع أن الرائحة الوحيدة في المكان هي تلك المنبعثة من الجثث التي لم تجمع من وسط النفايات.
وينظر قائد شيعي من بلدة البشير بتوجس إلى بقايا مدينته. ويقول: “لقد استعدناها، وإنما بأي حال؟”، ويضيف بصوت متهدج: “لقد شاهدت الكثير: ثلاجات ومصاحف وأبواب وأرائك ملغمة. لكن هناك شيء جديد هذه المرة؛ لقد لغموا حتى مغاسل المياه”.
كريستوف ريوتر
صحيفة الخليج