مقدمة
لعل ما يميز جيبوتي عن محورها الجغرافي والإقليمي وما أكسبها هذا الزخمَ إقليميًّا وعربيًّا ودوليًّا، هو موقعها الجغرافي المتميز المطل على الممر الاستراتيجي “باب المندب”، الذي هو الآخر ممر للتجارة العالمية، هذا بالإضافة إلى القوة الجغرافية لجيبوتي، من حيث إنها منطلق لقواعد عسكرية أميركية وفرنسية، إلى جانب كونها مقرًّا للهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) لدول شرق إفريقيا التي تأسست عام 1996 في جيبوتي.
وباعتبارها نافذة مفتوحة على المحيط الهندي يتجاذبها كل القوى الإقليمية والدولية، حتى إنها أثارت شهية الدب الروسي، الذي سحب أرتاله العسكرية نهائيًّا من المنطقة منذ عام 1977، إبَّان الحرب الإقليمية (الصومالية-الإثيوبية).
ورغم ما تشهده منطقة القرن الإفريقي، من مجاعات وكوارث إنسانية وحروب، سيما الصومال وإثيوبيا، إلا أنها تبدو نوعًا ما مستقرة نسبيًّا، بالإضافة إلى تحسن مستواها في مجال الأمن الغذائي، رغم أن الفقر ما زال يضرب أطنابه بقوة في بعض الأقاليم، من حيث عدم توفر المياه الصالحة للشرب والمسكن الآمن لفئات عديدة من المجتمع الجيبوتي، الذي يرزح كثيرون منه تحت خط الفقر رغم كثرة ووفرة المشاريع الإنمائية التي تتلقاها جيبوتي من حلفائها، غربيًّا وعربيًّا.
وفي خضم الاهتمام العالمي بالمنطقة ككل وجيبوتي على نحو خاص، يبرز اللاعب الصيني بقوة منافسًا للقوى الغربية التي طالما تمتعت بحليف استراتيجي في المنطقة، وعلى ضوء المعطيات السابقة، نحاول قدر الإمكان أن نستشرف بإمعان أبعاد الاهتمام الصيني بجيبوتي، وما هي مرتكزاته، إلى جانب الأهمية الاستراتيجية التي تمثلها جيبوتي بالنسبة للصين، بالإضافة إلى الرؤية الغربية الأميركية للعلاقات الصينية-الجيبوتية التي تولِّدها المصالح الجيبوتية والاهتمام الصيني، وما هي مخاوف واشنطن من التمدد الصيني نحو عرينها الذي شكَّل حصنًا آمنًا بالنسبة لهم منذ عقود.
جيبوتي: الأهمية الأستراتجية
يعد موقع جيبوتي الاستراتيجي واحدًا من أهم المواقع في العالم نشاطًا وحيوية؛ إذ يشكِّل أهمية كبيرة للتجارة العالمية، بفضل احتوائه مضيق باب المندب وطريق قناة السويس التي يمر عبرها نحو عشرة في المئة من صادرات النفط العالمية وعشرين في المئة من الصادرات التجارية سنويًّا(1)؛ حيث يُقدَّر عدد السفن وناقلات النفط العابرة من مضيق باب المندب بالاتجاهين بـ 21000 سفينة، تساوي بحسب بعض التقديرات ما يصل إلى 30% من حمولات النفط في العالم. كما يعتبر المضيق مفتاحًا للملاحة البحرية في البحر الأحمر، فضلًا عن كونه يربط بين خليج عدن والبحر الأحمر(2).
كما أن ما يضفي على موقع جيبوتي الجيوبولوتيكي في القرن الإفريقي بُعدًا آخر كونه يؤوي قواعد أميركية وفرنسية؛ ما يجعل السياسة الجيبوتية منفتحة على أي اهتمام خارجي، ترى من خلاله مكسبًا سياسيًّا واقتصاديًّا ونهضة لإنماء مشاريع تدعم اقتصادها الناشئ.
أما ميناء جيبوتي فيكتسب أهمية أخرى؛ إذ إنه بات همزة وصل بين الموانئ في المنطقة حيث يقع على بُعد 133 ميلًا من ميناء عدن و413 ميلًا عن مصوع و640 ميلًا عن بورتسودان و688 ميلًا عن ميناء جدة و1398 ميلًا عن بورسعيد و2218 ميلًا عن كولومبو(3). ويعتبر ميناء جيبوتي من أهم المراكز التجارية في العالم وهو يشكِّل الداعم الرئيسي للاقتصاد المحلي في البلاد؛ حيث يؤمِّن مرورُ بواخر الشحن من مضيق باب المندب 5 بالمئة من الدخل المحلي الجيبوتي ويمثِّل 65 بالمائة من البنية التحتية في البلاد.
وفي هذا السياق، تنبغي الإشارة إلى أهمية الموقع الاستراتيجي بالنسبة للصين، قبل الحديث عن أبعاد الاهتمام الصيني بالمنطقة، فتعتبر جيبوتي مدخلًا مريحًا للقارة الإفريقية التي تعتبر الصين شريكها التجاري الأول؛ إذ تصل قيمة النشاط الاقتصادي للصين في إفريقيا سنويًّا لـ300 مليار دولار، كما أن نشاطها في القارة يشمل: استثمارات ومشاريع بنية تحتية، وعلاقات سياسية وعسكرية، وعمليات لقوات حفظ السلام.
وتُقرِّب جيبوتي الصين من شبه الجزيرة العربية التي تستورد منها بكين نصف نفطها الخام. وهنا يُذكَر أن الصين في السنوات الأخيرة امتلكت ربع ميناء جيبوتي، كما أنها شريكة في إنشاء البنية التحتية للموانئ ومنشآت الطاقة والقطارات، ومسؤولة عن التجارة الحرة في جيبوتي وإثيوبيا(4).
وفي ضوء المعطيات سالفة الذكر، فإن جيبوتي بموقعها الاستراتيجي وسياستها للتوفيق بين حلفاء تقليديين وآخرين جدد تعتبر مهمة استراتيجية بالنسبة للصين؛ من حيث مكانها الحيوي بجانب مضيق باب المندب، كما أنها قريبة من خطوط سفن رئيسية تمر من البحر الأبيض المتوسط وقناة السويس والبحر الأحمر، وتصل إلى المحيط الهندي وأسواق آسيا.
كما أن موقع جيبوتي مركزي عند تقاطع مسرحيْ عمليات بارزة تخوضها فرنسا: في الساحل الإفريقـي حيث القوات الفرنسية هي في جبهة القتال الأمامية؛ وفي الشرق حيث هي قوة مساندة للتحالف الأميركي(5).
أبعاد الاهتمام الصيني بجيبوتي
يبرز الاهتمام الصيني بجيبوتي من خلال عدَّة محاور تتمثل في أبعاد مختلفة منها البُعد الاقتصادي والأمني والاستراتيجي، ونحاول أن نلخص أبعاد هذا الاهتمام الصيني بالمنطقة (جيبوتي) رغم أن العلاقات الصينية-شرق الإفريقية، تتوسع من السودان إلى أوغندا وكينيا وإثيوبيا.
– البُعد الاقتصادي
يرجِّح الخبراء أن السياسة الصينية أبدت هذا الاهتمام منقطع النظير بجيبوتي، بعد دراسة معمَّقة لمصالحها الاقتصادية في القارة الإفريقية، إلى جانب توفير الحماية لسفنها التي تعبر باب المندب، ومن خلال ذلك تعتمد الصين على أمن الملاحة في العالم، التي تنقل إليها ومنها معظم المواد الخام، والطاقة والمنتجات النهائية. خلال العقد الماضي تزايد تهديد القراصنة أمام السواحل الصومالية وتسبب في ارتباك للملاحة البحرية للصين، إضافة إلى أضرار اقتصادية، والمساس بالسمعة بعد اختطاف سفن صينية وطلب فدية لإطلاقها(6).
وتأمل الصين من خلال وجودها العسكري في جيبوتي في تعزيز صادراتها من خلال الطرق التجارية والبحرية، بالاعتماد إلى حدٍّ كبير على “طريق الحرير” التاريخي الذي يربط أوروبا بالشرق الأوسط، وهذا ما يجعل جيبوتي ذات أهمية كبيرة بالنسبة للصين في تحقيق أهدافها في تعزيز نموها الاقتصادي في القارة السمراء، ويُقدَّر حجم الصادرات الصينية اليومية المتجهة إلى أوروبا بنحو مليار دولار أميركي، وهي تجارة تعبر من خليج عدن وقناة السويس، وبهذا ينصبُّ الاهتمام الصيني على جيبوتي لتصبح واحدة مما يطلق عليه: “سلسلة اللؤلؤ”(7) الصينية في المحيط الهندي(8).
وتعتمد الصين على استقرار الاقتصاد العالمي وتدفق منتجات الطاقة والمواد الخام في ممرات ملاحة آمنة. ويتجلَّى سعي الصين للربط البنيوي والاقتصادي والتجاري بين آسيا وأوروبا وإفريقيا أيضًا في الرؤية الاقتصادية-الاستراتيجية “حزام واحد، طريق واحد” “”OBOR الذي تم تدشينه قبل عامين بغرض استثمارات واسعة للصين في منشآت الموانئ على طول سواحل المحيط الهندي(9).
– البُعد الأمني
ويتجلى البعد الأمني في الحرص الصيني على مكافحة القرصنة في منطقة شرق إفريقيا، والتي قد تعرض للخطر السفن الصينية التجارية المارَّة في خليج عدن ومضيق باب المندب؛ فهذه السفن تحتاج إلى محطة “ترانزيت” من أجل عملية التزود بالوقود، وهنا تنبع أهمية جيبوتي، التي تعد مع كينيا، بمثابة بوابة الصين لشرق إفريقيا(10). وتقوم الصين حاليًّا بإقامة ميناء لتصدير نفط جنوب السودان عبر كينيا، بدلًا من ميناء بورسودان في السودان، يضاف إلى ذلك أيضًا رغبة بكين في مزاحمة كلٍّ من فرنسا، والولايات المتحدة، اللتين تحتفظان بقاعدتين عسكريتين تابعتين لهما في جيبوتي.
ومنذ عام 2008، كانت البحرية الصينية تصول وتجول في منطقة القرن الإفريقي، للتصدي لأعمال القراصنة؛ إذ أرسلت الصين للمرة الأولى قوة بحرية لمنطقة خليج عدن، في إطار مساع دبلوماسية لتأمين سفنها من خطر القراصنة، ومنذ ذلك الوقت استخدمت أكثر من 20 قوة عمل تضم أكثر من 60 قطعة بحرية عسكرية، ترافق سفنًا تجارية من الصين ودول أخرى. هذه المهمة تسمح للصين بحماية مواطنيها، وسفنها ومصالحها التجارية-الاقتصادية، كما أن المصلحة الصينية في تأمين ممرات الملاحة تجعل الصين تركِّز اهتمامها على المعابر المائية الضرورية مثل مضيق تايوان وملقا وهرمز وقناة السويس(11).
– البُعد الاستراتيجي
من خلال العودة إلى الفكر العسكري الاستراتيجي الصيني لم يكن لدى بكين أية قواعد عسكرية في الخارج، كما لم يكن اهتمامها منصبًّا على استراتيجية “لفت الأنظار” تجاه نموها الاقتصادي والعسكري، وهي سياسة اعتمدت عليها واشنطن وتُعنى بسياسة “التمدد ومنطق القوة”، لكن بكين يبدو أنها تخلت عن سياسة “الابتعاد عن الأنظار”، وذلك بدخولها في الخط الموازي مع أميركا وفرنسا في الحصول على حصة من الممر المائي “باب المندب”، وتوثيق صلات وشراكة وتعاون اقتصادي مع جيبوتي التي كان الغرب فقط يتمتع بمفاتيح الدخول إليها.
ومن بين أهداف بكين من مزاحمة “رامبو” الأميركي في القرن الإفريقي، هو إرسال رسالة مفادها، أن المنطقة لم تعد عرينًا أميركيًّا خالصًا، بل تريد من خلال توجهها الجديد أن تتبنَّى استراتيجية جديدة مبنية على الحضور عالميًّا، وإبراز أن نفوذها العسكري في القارة ككلٍّ وجيبوتي على نحو خاص يتنامى شيئًا فشيئًا.
ويشكِّل التحاق الصين بتلك القوى الكبرى ثروة فاعلة، تمنحها نفَسًا طويلًا للمهام في البحر والبر، إلى جانب الهيبة السياسية. إضافة إلى ذلك، السيطرة على القسم الغربي للمحيط الهندي تُحسِّن من مكانة الصين أمام الهند، المنافِسة الآسيوية الرئيسية لها، فيما يتعلق بمدى التأثير فيه.
ويرجِّح الخبراء أن القاعدة الصينية في جيبوتي يمكن أن تعكس تطلُّع بكين نحو استراتيجية البسط والتمدد في المنطقة، وأن تتفوق عسكريًّا على المارد الأميركي؛ ففي يناير/كانون الثاني من 2016، بدأ جيش التحرير الشعبي الصيني تدريبات مكثفة ولمدة 72 ساعة تتضمن الآلاف من القوات البحرية وقوات العمليات الخاصة بالبحرية الصينية(12).
مكاسب جيبوتي من الأهتمام الصيني
تعقد السياسة الخارجية الجيبوتية آمالًا عريضة على التواجد الصيني في المنطقة في إحلال السلام والأمن في منطقةٍ عانَتْ –ولا تزال- من ويلات الصراع والتدخل الأجنبي والحرب بالوكالة بين دول المنطقة، وهذا ما تعتبره جيبوتي مكسبًا مهمًّا بالنسبة للمنطقة بشكل عام فليست جيبوتي وحدها من يستفيد من الاهتمام الصيني لمنطقة القرن الإفريقي.
ففي يناير/كانون الثاني عام 2014، أبرم وزير الخارجية والتعاون الدولي، محمود علي يوسف، مع السفير الصيني لدى جيبوتي، فو هوا تشيانغ، اتفاقية للتعاون الاقتصادي والتجاري تتضمن منحة مالية بقيمة 100 مليون يوان أي ما يُقدَّر بنحو 16 مليون دولار. ويُخصَّص هذا المبلغ لتمويل مشاريع إنمائية للحدِّ من معاناة الجيبوتيين من غياب فاعلية المؤسسات الخدمية وخاصة الصحية والتعليمية(13).
وفي مقابلة مع الرئيس الجيبوتي بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية للمرة الرابعة على التوالي، أكد أن حكومته تسعى لتقليص معدل البطالة المتفشية في أوساط جيبوتي، إلى جانب تشييد نحو 10 آلاف وحدة سكنية تموِّلها بكين. لفت رئيس الجمهورية الانتباه إلى ابتعاث مجموعة من الشباب لتلقي تدريبات فنية في جمهورية الصين الشعبية من أجل تشغيل وإدارة هذا الخط الحديدي.
ومنذ عام 2015، ضخَّت الصين نحو 14 مليار دولار على جيبوتي، تتضمن مشاريع إنمائية لإصلاح البنى التحتية(14)، علاوة على ذلك اشترت الصين في السنوات الماضية نحو ربع ميناء جيبوتي، وهي ضالعة في إقامة بِنى تحتية للموانئ، والطاقة والقطارات والصناعة والتجارة الحرة في جيبوتي نفسها وفي الجارة إثيوبيا، بقيمة مليارات الدولارات(15).
وفي الإجمال، هناك أكثر من 14 مشروعًا في البنى التحتية في جيبوتي تُقدَّر كُلفتها بـ14,4 مليار دولار ممولة بشكل رئيسي من مصارف صينية، وهي استثمارات عملاقة قد تصل إلى حدِّ المغالاة بالنسبة لبلد يقل تعداده السكاني عن مليون نسمة(16).
اللاعبون التقليديون: كيف ينظرون إلى العلاقات الصينية – الجيبوتية؟
أثارت استراتيجية بكين نحو التطلع إلى مزاحمة الكبار في منطقة القرن الإفريقي، هلعًا ومفاجأة للإعلام الدولي، بقدر ما تمثِّل استراتيجية تتبناها الصين، من أجل إحداث تغيير في فكرها السياسي والاستراتيجي نحو الحفاظ على مصالحها الاقتصادية وحماية مواطنيها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وعلى ضوء المعطيات السابقة نحاول أن نسرد -قدر الإمكان- رؤية الغرب تجاه الرغبة الجامحة للصين في إرساء قواعد عسكرية لها تمكِّنها من مجاراة منافسيها التقليديين.
– الوضع الأميركي
تعد أميركا الحليف الأجنبي الأقرب بالنسبة لجيبوتي، التي تضم قاعدة كامب ليمونييه بصفتها القاعدة الأميركية الوحيدة في إفريقيا منذ عام 2001، وتضم القاعدة 4000 فرد عسكري ومدني، وهي المركز الرئيسي لست محطات لإطلاق الطائرات دون طيار في جميع أنحاء القارة، والتي شنَّت هجمات على أهداف مترامية مثل تنظيم الشباب في الصومال وبوكو حرام في نيجيريا والقاعدة في شبه الجزيرة العربية في اليمن(17).
وتدفع واشنطن نحو 63 مليون دولار لجيبوتي كـ”إيجار” لقاعدتها العسكرية، ومدته عشر سنوات مع إمكانية التمديد لعقد آخر، والرقم تضاعف من 38 مليونًا خلال العقد السابق، فيما لا يُعلَن عن إيجار القواعد الأخرى ويتوقع أن تكون الأرقام متشابهة، أو تُقابَل بعقود واستثمارات داخل جيبوتي(18).
من الواضح أن التقارب الصيني-الجيبوتي، أحدثَ تغيرًا في العلاقات الأميركية-الجيبوتية؛ حيث تدرس الولايات المتحدة، إمكانية إقامة قاعدة بحرية جديدة بالقرب من السودان، بدلًا من قاعدة جيبوتي، على الرغم من أن هذا التحول الأميركي لم يجد قبولًا داخل الكونغرس الأميركي، وهناك من يعتبر أن هذا القرار سيضر بالمصالح الأميركية في المنطقة، خاصة في ظل عمليات القرصنة البحرية في تلك المنطقة، والابتعاد شمالًا يحدُّ من قدرة القوات البحرية الأميركية على مكافحة القرصنة.
وتُبدي واشنطن بشكل عام مخاوف من أن يؤثِّر وجود القاعدة العسكرية الصينية في جيبوتي سلبًا على مصالحها في هذا البلد وخصوصًا على قاعدتها العسكرية التي تنطلق منها العمليات السرية ضد القاعدة في الصومال واليمن، وأشار مسؤولون أميركيون إلى وجود مخاوف أميركية جدية من أن تفرض الحكومة الجيبوتية قيودًا على وصول الجنود الأميركيين إلى القاعدة وعلى حركة الأفراد العسكريين داخلها بالإضافة إلى تقييد العمليات العسكرية التي تقوم بها القاعدة الأميركية المتمثِّلة في العمليات الاستخباراتية والضربات الجوية.
ورغم ما تحظى به العلاقات الأميركية-الجيبوتية، من مستويات طيبة، إلا أن دخول الصين في الثنائية الأميركية-الجيبوتية، ربما سيحدِّد مستقبلًا مصير العلاقات بين هذين البلدين، كما أن جيبوتي التي يعتمد إنتاجها المحلي وبشكل واسع النطاق على ما تجنيه من الاتفاقيات السياسية والاقتصادية مع حلفائها التقليديين، تمضي اليوم بين خيارات سياسية صعبة، فهل تحسن جيبوتي الاختيار؟ تلك هي مسألة تحالف مستقبلي أدَّت إلى تدمير علاقات سياسية واستراتيجية مهَّدت الطريق أمام دول كثيرة نحو سقوط مدوٍّ كانت السياسات المتعجرفة وراءه، والصومال خير دليل على ذلك.
– الوضع الفرنسي
قبل قرن ونصف، كانت جيبوتي محطة توقف السفن الفــــرنسية في طريقها إلى الهند الصينية.. ومنذ استقلال جيبوتي في 1977، يستضـيف البلد هذا أكبر قاعدة فرنسية فــــي الخارج، ومع أن عدد الجنود الفرنسيين في تراجع (من حوالى ألفين في 2014 إلى 1350 في 2017) تبقى جيبوتي القاعدة الفرنسية الرئيسة في إفريقيا.
وتفيد أرقام رئاسة أركان القوات الفرنسية العاملة في جيبوتي أن المساهمة الاقتصادية لعناصر هذه القوات وأفراد عائلاتهم في هذا البلد الصغير تمثِّل قرابة 130 مليون يورو، أي نحو 25% من إجمالي الناتج المحلي، وما يساوي 65% من موازنته.
وتشير بعض المصادر وخاصة الفرنسية إلى أن حكومة جيبوتي اتخذت إجراءات صاحبت إبرام اتفاقياتها مع يكين بحق مستثمرين وحلفاء اقتصاديين مثل شركة “توتال” الفرنسية التي تعرَّضت لغرامات مالية، من دون الكشف عن ملابسات وحيثيات هذه الخطوات التصعيدية التي تنتهجها جيبوتي نحو حلفائها السابقين(19).
ومع أن جيبوتي لها صلات سياسية وثقافية مع فرنسا، إلا أن دخول الصين في خطوط العلاقات الجيبوتية من جهة والفرنسية والأميركية من جهة ثانية، يشكِّل مجازفة كبيرة لجيبوتي؛ لأنه يمكن أن يزعزع علاقاتها مع حلفائها التقليديين وخصوصًا الولايات المتحدة.
العلاقات الصينية-الجيبوتية: اّفاق المستقبل
السؤال الأهم الذي يضع العلاقات الصينية-الجيبوتية على المحك، هو: هل سيستمر شهر العسل بين بكين وجيبوتي أم أن الضغط السياسي من حلفائها القدامى سيضع سياسة اقتصادية واستراتيجية أمام الطاولة الجيبوتية، التي من المحتمل أن تضرب بعرض الصين السخي عرض الحائض، لأن احتمال تضييق الوجود الصيني محتمل كضغط سياسي كالذي حصل ضد إيران، التي قطعت جيبوتي علاقتها معها على خلفية أزمتها مع الرياض؟
لكن التفسيرات المرجَّحة حاليًّا وفي المستقبل القريب هي إمكانية تزايد التقارب الصيني-الجيبوتي؛ وذلك على حساب واشنطن، التي تناور جيبوتي أو ربما قررت انسحابها من قاعدتها في المنطقة إثر موجة خلافات عصفت بالعلاقات الأميركية-الجيبوتية، مطلع العام الجاري إثر انتقادات وُجِّهت للرئيس، إسماعيل عمر جيلي، حول سياساته التسلطية ضد المعارضة الجيبوتية، إلا أن عودة “جيلي” مجددًا إلى العرش والسلطة في جيبوتي، دفعته وبشكل أكثر صرامة في المضي نحو التحالف مع خصم أميركا التقليدي، الصين، التي تبدو أكثر التزامًا في الإيفاء بوعودها بالنسبة للقيادة الجيبوتية التي سئمت على الأقل عدم الاستجابة الأميركية لتلبية تطلعات الجيبوتيين، المتعلقة بإحداث ثورة ونهضة اقتصادية في المنطقة، وهو الأمر الذي تعهدت الصين بالالتزام به، وأن ترقى جيبوتي إلى مصاف الاقتصادات الناشئة في المنطقة، وإقامة ما يُعرف اختصارًا بـ”دُبَي” القرن الإفريقي.
وعلى الرغم من أن اليابان وواشنطن وباريس، أبدت مخاوفها من هذا التقارب، ومدى تأثيره مستقبلًا على السياسات الجيبوتية القائمة حاليًّا على “لغة المصالح”، وهي المصالح السياسية التي ستؤثِّر حتمًا وبلا شك على سياسات جيبوتي المستقبلية، وخصوصًا حول مع من ترتبط في المدى القريب أو البعيد، سواء مع الصين أو الحلفاء التقليديين (أميركا وفرنسا واليابان)، فهنا يبرز وبشكل قوي دور الصين المتعاظِم في جيبوتي، من حيث حجم الاستثمارات الصينية فيها، مقارنة بالاستثمارات الأميركية والفرنسية في المنطقة، وهو الأمر ذاته الذي سيدفع قادة المنطقة إلى تشبيك علاقات قوية والاستفادة من التنين الصيني عوضًا عن سياسات ووعود غربية، تكاد تكون في معظمها مثل مواعيد “عرقوب”.
في نهاية المطاف، لا يمكن التنبؤ بما سيؤول إليه المستقبل السياسي لجيبوتي التي تجمع بين الأضداد في منطقة واحدة، فضلًا عن دول متباينة الرؤي والمواقف الاستراتيجية في عالم عربي تشتعل نار الحرب فيه من الخليج إلى المحيط، بسبب السياسات الدولية التي باتت شريكة في ترسيم سياسات العديد من دول المنطقة، ناهيك عن تلك الدول التي تتصارع من أجل الهيمنة اقتصاديًّا على مصادر الدخل ومنافذ إفريقيا الحيوية النابضة بالحياة، فالعلاقات الصينية-الجيبوتية مرهونة بمدى حنكة السياسة الجيبوتية في التوفيق بين مصالح دول عظمى متعارضة ولا تجتمع عند نقطة واحدة، فالخيارات السياسية ستكون صعبة بالنسبة لها في المرحلة المقبلة لتحديد مستقبلها ووضعها السياسي، فإما أن تنجح سياسيًّا واقتصاديًّا أو تنطبق عليها المقولة الصومالية الشهيرة: “على كل امرئ سيُذبح معرفة أين يضع نفسه”.