تحلّ، في نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، الذكرى الستون لبداية العدوان الثلاثي على مصر، أو ما تعرف بحرب السويس، حين هاجمت إسرائيل سيناء، ولحقتها قواتٌ بريطانيةٌ وفرنسيةٌ بعدوانٍ في بورسعيد. لا يمكن إغفال أهمية تلك الحرب تاريخياً بالنسبة للعرب والعالم، حتى مع الإهمال المتعمد لذكراها من الإعلام العربي في أيامنا، إذ فتحت الباب للعرب للاستقلال عن الاستعمار، ثم امتلاك الثروات الوطنية، كما أنها سرَّعت نهاية النفوذ البريطاني والفرنسي في المنطقة، لصالح صراع الأميركيين والسوفييت. ولم يبقَ أمام الإمبراطوريتين، البريطانية والفرنسية، سوى الالتحاق بالمعسكر الأميركي، بعد أن ساهمت أميركا بإنذارها في إنهاء مغامرتهما في مصر.
لا بد من ملاحظة مسار الأحداث، وما اتخذه نظام الرئيس جمال عبد الناصر من قراراتٍ، وصولاً إلى العدوان. مع توقيع اتفاقية جلاء المستعمر البريطاني عام 1954، دفع عبد الناصر بمصر نحو إيجاد موقعٍ مستقل، فذهب إلى مؤتمر باندونغ عام 1955، وأصبح جزءاً أساسياً من تكتل دول عدم الانحياز، القائم على الابتعاد عن الصراعات الكبرى، وضمان حق شعوب العالم الثالث في الاستقلال وإنهاء الاستعمار.
في العام نفسه، قام عبد الناصر بخطوة مهمة، تمثلت في كسر احتكار السلاح الغربي، بصفقة سلاح سوفييتية عن طريق تشيكوسلوفاكيا، بعد عدم تجاوب أميركا مع طلبه من السلاح، في ظل سعيه إلى إنشاء جيشٍ وطني قوي. أقلق هذا الانعتاق من احتكار السلاح الغربي، ومن الانضواء تحت مظلة المعسكر الغربي في الحرب الباردة، الدول الغربية كثيراً، لكن مصر لم تدخل في نزاعٍ مع الولايات المتحدة حتى ذلك الوقت، وقد حاولت أميركا احتواء قيادة ثورة يوليو بعدة طرق، بما فيها عرض تمويل مشروع السد العالي في أسوان، بالشراكة مع البنك الدولي، ضمن الشروط الأميركية، ومنها عدم حصول مصر على أي قروض خارجية، إلا بموافقة البنك الدولي.
كان الغرض من عرض تمويل السد العالي الهيمنة على الاقتصاد المصري. وبالتالي، رسم الحدود للحركة السياسية لمصر، كما كان يحصل عادةً مع الدول التي تخضع لمشاريع تمويل من مؤسساتٍ دوليةٍ تتحكم فيها الولايات المتحدة. وقد قوبل الرفض المصري للاشتراطات
بسحب أميركا مشروع التمويل في يوليو/ تموز 1956، فجاء الرد بتأميم قناة السويس، استكمالاً لمشروع الاستقلال وامتلاك الثروات الوطنية من جهة، ورغبةً في الاستفادة من دخل القناة لتمويل مشروع السد العالي.
وهكذا، كان لكل طرفٍ في العدوان أسبابه، فإسرائيل منزعجةٌ من صفقة السلاح التشيكية، ومن انسحاب بريطانيا، وطموحات نظام عبدالناصر وموقفه تجاهها، وبريطانيا رافضةٌ تأميم القناة وإخراجها من قاعدة حيوية لوجودها في المنطقة. أما فرنسا، فهي غاضبة من امتداد النزعة الاستقلالية عند عبد الناصر إلى الوطن العربي، وتحديداً في الجزائر، حيث دعم عبد الناصر الثورة الجزائرية ضد الفرنسيين. لعب الإنذار السوفييتي ثم الأميركي دوراً أساسياً في وقف العدوان، وإعلان فشله، وكان الأميركيون رافضين لتصرف حلفائهم من دون إعلامهم، وبهذا الشكل، لكنهم خلفوا بريطانيا وفرنسا لاحقاً في الحرب على عبد الناصر والقوى التحرّرية العربية.
أثمر مسار الاستقلال الذي خطَّه عبدالناصر هزيمة للعدوان، وانتصارَ الإرادة السياسية، وامتلاك القرار الوطني. ما تقوله لنا الحرب، بعد ستين عاماً، إن الاستقلال ليس أمراً هيناً، وإن الاستعمار يحاول العودة من النافذة، حتى بعد خروجه من الباب، ولا يتسامح مع الخروج عن هيمنته. ويمثل العدوان الثلاثي رداً مهماً على خطاب الواقعية السياسية العربية الذي يؤكد ضرورة الخروج من الصراع مع الصهيونية وقوى الهيمنة الغربية، من أجل تحقيق التنمية والرخاء الاقتصادي، فيما تقول قصة حرب السويس إن التنمية التي أرادها عبد الناصر في مشروع السد وتأميم القناة حوربت بشراسة، إذ تُحارب التنمية المستقلة من قوى الهيمنة، والمواجهة تُفرَض في حالة التفكير الجدّي بالاستقلال السياسي والتنموي.
وعلى الرغم من المواجهة، حقق عبد الناصر قفزاتٍ تنمويةً في مصر، ليس فقط بتأميم القناة وبناء السد العالي، بل أيضاً بتعليم المصريين وتدريبهم، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإنشاء المصانع، والسعي إلى التحول نحو الإنتاج، فيما كان النهج الخاضع للهيمنة الغربية واشتراطاتها ووصفاتها الاقتصادية، الذي خَلَفَ عبد الناصر، فاشلاً بكل المقاييس، ومدمّراً لكل مُنجَز. هذا فارق أساسي بين مشروعٍ يستنهض طاقات الناس، ويحمل رؤيةً وطموحاً، وحالةً يغيب فيها المشروع والرؤية.
تحكي قصة العدوان الثلاثي جانباً آخر أساسياً، يتمثل بتعريف مصر لدورها وحضورها، بوصفها جزءاً من أمتها العربية، وسعيها إلى الوحدة والتكامل العربيين، فدعم ثورة الجزائر، ودفع الأثمان لأجل ذلك، جزء من استراتيجيةٍ لا ترى مصر معزولةً عن محيطها العربي. وهذا أفاد مصر بدورٍ ووزنٍ في الإقليم والعالم، كما أفاد العرب بوجود قيادة عربية تقود مشروعاً وحدوياً، وتتسامى بهم عن صراعات الهوية الطائفية والعشائرية. حين تخلى أنور السادات عن هذا المشروع، قزَّم الدور المصري، وسَمَحَ غيابُ هذا المشروع في معظم الأقطار العربية، وتكلُّس الأنظمة، بتهديد وجود الأقطار العربية، بفعل الصراعات الداخلية بين الجماعات الأهلية.
العدوان الثلاثي حكاية مشروع سياسي، يرنو إلى الاستقلال، وتقرير مصير الأمة العربية، وتحقيق التنمية، بعيداً عن كل وصاية. الحكاية لا بد أن تُروى في واقعنا المرير، لنستلهم عِبَراً تساعد في رسم طريق الخلاص.
بدر الإبراهيم
صحيفة العربي الجديد