ليس هناك مجال للشك في أن المحصلة العسكرية لمعركة الموصل ستكون الانتصار على داعش وهزيمته لسبب بسيط، هو أن محصلة مثل هذا التحشيد العسكري العالمي لستين دولة بقيادة الولايات المتحدة والدول الغربية أمام مجموعة متطرفة لا تزيد عن خمسة آلاف عنصر، لن تكون سوى هزيمته العسكرية بالموت أو الهروب إلى الصحراء.
لكن الأهم من ذلك كله السؤال: من ينتصر على من؟ وهل الانتصار العسكري يعني الانتصار السياسي على كل مسبباته؟ وإن هذا العدو الطارئ على البشرية والمصنوع فكريا في دواوين واشنطن وبمعاونة دول أخرى تدعي الحرب على داعش بعد أن جرى تسويقه منذ عقود في أفغانستان والعراق وسوريا لنشر الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط، وخلالها يتم استنزاف القوى البشرية والثروات إلى أقصى الحدود لدرجة تحويل أغنى بلد في المنطقة وهو العراق إلى بلد مسكين فقير تتوسل حكومته القروض، لكي تتقبل الشعوب ما يملى عليها من إملاءات لا تكتب بالمواثيق التي سميت بمعاهدة سايكس بيكو، هل يمكن أن تكون الموصل بعد تخليصها من داعش هي المدخل لتوزيع الغنائم على الكبار والصغار في منطقة الشرق الأوسط، وهي عنوان تاريخي لتقاسم من نوع جديد للنفوذ في المنطقة؟
ليس غريبا أن تصبح الموصل عنوانا لآخر مناظرات هيلاري كلينتون ودونالد ترامب على الرئاسة الأميركية الجديدة، وهي كذلك شاغلة الأوروبيين ونظرائهم من العرب في مؤتمر باريس قبل عدة أيام. فالجميع يعلم أن داعش لن ينتهي بنهايته في العراق، لكن رأسه سيسحق على يد العراقيين أولا، وهم الذين سحقوا قبله القاعدة في الأنبار عام 2006 من دون مؤتمرات عالمية ولكن بهمّة وسواعد أهل العراق في الأنبار الذين ألصقت بهم، ظلما تهمة بأنهم “حاضنة الإرهاب”.
هناك كثر يحاولون استثمار الانتصار العسكري على داعش في الموصل لنيل المكاسب وخرائط النفوذ الجديدة.
وهناك من يسعون إلى مرامي وأهداف سياسية داخل العراق فيعتقدون أن مهرجان الانتصار العسكري سيوفر لهم امتيازات لا تستطيع توفيرها لعبة الاستناد على المرجعيات المذهبية أو اللعبة الطائفية.
ما ستجنيه الدول الكبرى وفي مقدمتها أميركا وروسيا ليس كثيرا الآن قبل حسم الملف السوري، لكن الأميركيين يعتقدون أن الانتصار على داعش في الموصل سيجنون ثماره داخليا، تكتيكيا على مستوى الانتخابات، واستراتيجيا لتكريس وتعزيز سياسة محاربة الإرهاب التي ستستمر في عهد الرئيس الأميركي المقبل قبل روسيا المنشغلة بسوريا، وقد تستفيد أوروبا التي تستثمر الرخاوة الأميركية الحالية لكي تتقدم ولديها إمكانيات تسمح بذلك.
لا يهم العراقيين كثيرا ما ستكون عليه المنطقة، فالذي يهمهم ما سيكونون عليه وما سيكون عليه وطنهم العراق بعد أول إعلان لهزيمة داعش العسكرية وسحقه في الموصل، وهل ستفتح المداخل للمزيد من التفكيك السياسي والاجتماعي في العراق والتمسك بما قبل الدولة الوطنية، إلى المزيد من الانهيارات في العملية السياسية بفعل هيمنة الطائفية السياسية، وأن تتقدم مشاريع عسكرة السياسة بمشروعية “الميليشيات” وهيمنتها لكي تزيح دينصورات الطائفية التقليدية بنمط جديد تصبح فيه دعوات التعايش السياسي مراثي قديمة للطائفية المهزومة أمام إباحية تفوق تلك الميليشيات التي “قدمت مأثورات النصر على داعش” ولا يتمكن أحد من المساس “بقدسيتها” لإحلال دولة “العدل الإلهي بدل دولة الخلافة المزعومة”، وفي وقت تصم الآذان بعبارات “الالتزام بالدستور” المريض في حل المعضلات السياسية التي ستفرزها معركة الموصل.
انتصار العراقيين العسكري في الموصل يتحقق لأن الدماء تقدم من أجل الوطن وهو المعيار الكبير والمقدس الذي سخر منه السياسيون بعد العام 2003 عند الاحتلال الأميركي، وأهل الموصل لديهم ميراث أصيل لم يُدنّس بلعبة السياسيين داخل العملية السياسية حتى أولئك الذين دخلوها كانوا يخشون أهلها، وعاشوا مرارة الابتعاد عن مطالب أهلهم وبعضهم لم يعد للموصل قبل 2014 خوفا من أن يشار إليه بالخنوع وعدم الرجولة، وبعضهم اليوم (موصلي) يلعب من أجل أن يجد له موقعا على محنة أهل الموصل وهو خارجها ويعتقد أن دوره الانتهازي مطلوب في هذه اللحظة المهمة من صناعة تاريخ العراق لصالح اللعبة الطائفية، ويسيل لعابه بالعطايا كالجاه والمال في بغداد وعواصم أخرى لتقسيم العراق عرقيا وطائفيا، فيلعب اللعبة الجديدة لنقل الطائفية من بغداد إلى الموصل لتمزيقها في وقت مبكر، لكن مثل هؤلاء معزولون عن أهل الموصل وأعيانها أصحاب القامات الكبيرة وجموع الموصليين الذين ينتفضون ضد داعش ويتحولون إلى كتائب مقاومة مسلحة ضد هذا المجرم الظلامي. وستكشف الأيام المقبلة دور هؤلاء المقاومين الذين سيضعون معادلة جديدة تبطل الفكرة الرخيصة القائلة بأن أهل “السنة” حاضنة لداعش.
هؤلاء الأبطال لم تدخل الطائفية والتعصب أبوابهم الداخلية، وهم يمتلكون من الحصانة ما يدرأ عنهم تلك الأمراض. أهل الموصل قساة في الحفاظ على ميراثهم الوطني، أليس من بينهم قادة عسكريون سطروا الملاحم في التمسك بالعروبة والوطن حتى الشهادة أمثال عزيز العقيلي وحسين العمري وسعيد الشيخ وسعيد حمو وعبدالجبار شنشل وسلطان هاشم وغيرهم كثر. المحاولات الخبيثة الجديدة تستهدف محو تلك الثوابت وإحلال لعبة “داعش” كحصان طروادة لاختراق هذا السور الأخير للعراق بعد وهم تهديم أسوار بغداد والبصرة وكربلاء وصلاح الدين بهيمنة قوى الطائفية.
أخطر ما يواجه نتائج الانتصار العسكري في الموصل ما يمكن أن يحدث من تخريب ودسائس ذات طابع ثأري بإلصاق التهم ضد كثيرين بأنهم كانوا موالين لداعش، ويتم اقتناص الكثير من الرموز العسكرية والسياسية والفكرية وتساق إلى الموت الجماعي أو السجون، وهذه أخطر التداعيات التي قد تحصل خلال المعارك أو نهاياتها. وفرض واقع أمني جديد أكثر قساوة ضد أبناء الشعب الموصلي من ليلة الاقتحام الداعشي المريب في يونيو 2014، وكذلك لعبة السياسيين في بغداد المنخرطين في العملية السياسية عن طريق تفكيك اللحمة الموصلية وبناء نسيج تخريبي جديد يرسم خارطة مدمرة للموصل، يزيل عنها تماسك جميع أطيافها عبر التاريخ بهوية عراقية أصيلة، وإقامة مشروع التفتيت القومي والطائفي.
وهناك من يبدو متفائلا من بعض البرلمانيين المنتمين إلى المكون العربي السني من محاولي تجديد أدوارهم، يعلنون كذبا بأن الانتصار العسكري في الموصل سيؤدي إلى الوحدة الوطنية، وهؤلاء إما من أركان العملية السياسية وقادتها التقليديين وإما من بعض من قطعوا تذكرة السفر بلا عودة من العرب السنة. ولعل إفرازات معركة الموصل هي التي ستحدد معالم الصورة السياسية لهذه المدينة، حيث ستنكشف أكثر الوجوه التي راهنت على ما حققه داعش خلال السنتين الماضيتين من تخريب لمعالمها التاريخية، ومن قتل للكثير من الموصليين البواسل، ليدخل العرضيون على أهل الموصل في لعبة مطاردة رجال الموصل ووصمهم بالتعاون مع داعش، وهي لعبة سبق تنفيذها في باقي المحافظات التي حررت من داعش، من سينهزم ومن سينتصر سياسيا في ملحمة الموصل التاريخية؟
المهزومون بعد معركة الموصل هم دعاة التطرف الطائفي حتى وإن اعتلت بنادقهم على أكتافهم من الداعشيين أعداء العراق وأعداء الإنسانية، ومن المتطرفين على الضفتين الطائفيتين. أما المنتصرون فهم أهل الموصل، فالعنقاء ستنطلق من بين الرماد في دورة نهضة جديدة، وأهل العراق سيجعلون من ملحمة الموصل بداية لنهضة جديدة.
د.ماجد السامرائي
صحيفة العرب اللندنية