تسابق الأحزاب العراقية الوقت لتمرير مسودة قانون الحشد الشعبي في مجلس النواب العراقي قبل أن تنتهي معركة الموصل ضد تنظيم داعش تحسباً من أن يؤدي طرده داعش من محافظة نينوى إلى انتفاء المبررات التي تشرّع لاستمرار الإنفاق الحكومي على الميليشيات الشيعية. لذلك ناقش ذلك المجلس يوم الأربعاء الماضي خلال جلسته 25 مشروع قانون الحشد الشعبي، وهو ينص على اعتبار الحشد تشكيلاً يتمتع بالشخصية المعنوية وجزءاً من القوات المسلحة ويرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة، كما نص على شمول منتسبي التشكيل بالقانون بدءاً من 13 حزيران (يونيو) 2014.
ويمنح مشروع القانون الذي يتبناه التحالف الوطني (الشيعي)، مقاتلي الحشد الشعبي امتيازات موازية لتلك التي يتقاضاها منتسبو وزارة الدفاع العراقية، وهي امتيازات عالية نسبيا قياسا برواتب المؤسسات المدنية. ويلزم مشروع القانون الحكومة بتسليح الحشد الشعبي، وتأمين جميع مستلزماته اللوجستية، ومنحه صلاحية تحرير المحافظات الواقعة تحت سيطرة داعش، ما يعني إضفاء شرعية على انتشاره في المناطق السنية، وما يتبع ذلك من تجاوزات وانتهاكات ذات بعد طائفي ضد السكان المحليين. لا يهدف مشروع القانون إلى استيعاب مقاتلي الحشد في الجيش أو القوات العراقية، ولكن إلى الاعتراف بالميليشيات كجهاز عسكري مستقل عن بقية الأجهزة وتتولى الحكومة العراقية الإنفاق عليه على أن يحتفظ الحشد باستقلالية إدارته وأجنداته.
وقد أثار مشروع قانون الحشد الشعبي المعروض على مجلس النواب العراقي، جدلا واسعا وخلافات حادة، بين التحالف الوطني الشيعي المصر على تمرير القانون وبين القوى الاخرى التي لديها تحفظات ومخاوف .وقد اتفقت الكتل السياسية في النيابية على التصويت في جلسة الـ26 من الشهر الحالي، على مشروع قانون الحشد الشعبي، قبل بدء العطلة التشريعية للفصل الحالي نهاية هذا الشهر. وتصاعدت الخلافات الحادة على بعض مواد مشروع القانون المثير للجدل وسط اعتراض الاكراد واتحاد القوى العراقية على اعتبار أنه يمنح الحصانة القانونية لمنتسبيه وسط اتهامات بارتكابهم انتهاكات في المناطق المحررة، اقرت الحكومة العراقية بوقوع بعضها. وتشير خارطة النواب المعترضين، إلى إجماع سني نادر على معارضة مسودة القانون.
وليس صحيحاً أن الحشد الشعبي الذي تأسس في 13 حزيران/يونيو عام 2014م ،بناء على فتوى المرجع الشيعي السيد علي السيستاني لمواجهة تنظيم داعش أنه يضم كل طوائف العراق وأبناء شعبه كما يدعي حاكم الزاملي رئيس لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب العراقي ففي دراسة أعدها مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية عن الحشد الشعبي ونشرت في 28 آب/أغسطس من العام الحالي، والتي جاءت نحت عنوان” الحشد الشعبي في العراق.. النشأة والمستقبل”دراسة استقصائية” بينت الدراسة أن الحشد الشعبي ينحدر معظم عناصره من محافظات جنوبية ذات الطابع الشيعي ويتكون من 76 فصيل مسلح جُلها مرجعيته الدينية مرشد الثورة الإيراني علي خامئني. وأن 80% في المئة من جهده العسكري يقع على عاتق سرايا السلام، وفيلق بدر، وكتائب حزب الله العراقي، وعصائب أهل الحق وهي فصائل مرجعيتها الدينية أيضاً علي خامئني، باستثناء فصيل واحد مسيحي وهو “كتيبة بابليون”. إذن فالحشد الشعبي ليس كما قال حاكم الزاملي بأنه يمثل كل أبناء العراق وإنما يمثل طيف طائفي”شيعي” واحد من المجتمع العراقي.
وتثير مشروع قانون الحشد الشعبي في حال تمريره في مجلس النواب العراقي مخاوف أطياف عراقية مختلفة لأنها تضفي شرعية على ميليشيات لديها أجندات غير عراقية، من حيث ارتباطها بالنظام الإيراني،وتخطيطها لخوض حروب بالوكالة لفائدتها، مثل إعلانها الانتقال إلى سوريا للقتال إلى جانب قوات الرئيس السوري بشار الأسد بعد الانتهاء من معركة الموصل. إذ يعلن قادته منذ الآن أن «الحشد» ضرورة تقتضيها التهديدات التي تواجه العراق ويلوّحون منذ الآن بضرورة قتال داعش في سورية. ولا يكتفي نوري المالكي، وهو واجهتهم السياسية في قمة الهرم الحكومي، بالهتاف «قادمون يا رقّة» بوصفها عاصمة داعش، بل يلحقه بـ «قادمون يا حلب». وقال مراقبون عراقيون إن إضفاء شرعية قانونية على ميليشيات طائفية سيجعل الحكومة مطالبة بإضفاء شرعية على مكونات أخرى عرقية وطائفية مثل وحدات البيشمركة الكردية والحشد الوطني السني، أو أنها ستعلن انحيازها لطائفة دون أخرى وتفقد صفتها كحكومة عراقية جامعة.
ان استمرار الحشد الشعبي في عراق ما بعد داعش قد يزيد من أزمات العراق الداخلية والخارجية، فعلى المستوى الداخلي يمكن الحديث هنا أن استمراره سيزيد من أعباء العراق المالية لاسيما وأن الدولة العراقية منذ سنوات وهي تعاني من أزمة مالية خانقة جراء تراجع أسعار النفط عالميا الأمر الذي انعكس بشكل مباشر على قطاعها الحكومي إذ أصبحت الحكومة العراقية عاجزة عن دفع الرواتب لنصف موظفيها، و مما لاشك فيه سيتضاعف هذا العجز الحكومة مع إضافة أكثر من 100 ألف عنصر من الحشد الشعبي في مؤسسات العراق. فالأمر هنا لا ينحصر فقط على رواتب تلك العناصر وإنما ما تحتاجه أيضاً من مستلزمات عسكرية ومخصصات مالية لقنواتهم الإعلامية أيضاً. وقد يصاحب هذه الأزمة المالية أزمة أمنية في العراق، فالفصائل التي يتكون منها الحشد الشعبي وإن تم دمجها في مؤسسات الدولة العراقية إلا إنها من الناحية الفعلية ستستمر تتلقى أوامرها من قيادتها التنظيمية وليست الحكومية فكل يعلم أن تلك الفصائل وخاصة “سرايا السلام، وكتائب حزب الله العراقي، وعصائب أهل الحق، وفيلق بدر” يسيطرون على مناطق معينة في العاصمة العراقية بغداد والمحافظات العراقية ذات المكون الشيعي، وهذه الفصائل تملك من العتاد والسلاح مما يجعل سيطرتها يبدو تقسيماً فعلياً للمناطق التي يسيطرون عليها وكأننا أمام حالة “ملوك الطوائف التي سادت في دولة الأندلس إذ أدت النزاعات والحروب بينهم إلى سقوط دولة الأندلس وهذا الأمر قد يتكرر في العراق ما بعد داعش وعالم ما بعد الحداثة إذ يصبح زعماء الفصائل في العراق أمراء طوائف بينهم خلافات ونزاعات قد تذهب بالعراق إلى حافة الهاوية، والذي يدلل على صحة هذه الفرضية إذ الفصائل المسلحة سبق وإن خاضت صراعات مسلحة فيما بينها في جنوبي العراق.
أما على المستوى الخارجي أن استمرار الحشد الشعبي في عراق ما بعد داعش وما له من ثقل سياسي وعسكري وأمني وإعلامي واقتصادي وارتباط أهم فصائله كما هو معروف بالنظام الايراني وتحكم هذا النظام في العراق منذ عام 2006م وإلى يومنا هذا، قد يجعل من الحشد الشعبي جيشاً رديفاً للنظام الإيراني في العراق ويكون أداة لهذا النظام للتدخل في الشؤون العربية لزعزعة استقراره، فليس من المستغرب أن يتم ارسال بعض فصائل الحشد الشعبي بعد قضاء على داعش في العراق إلى سوريا لدعم بشار الأسد، وقد ترسله أيضاً إلى بعض دول الخليج العربي، وهنا تكون الكارثة قد حلت على العراق أولاً والعرب ثانيا فالنظام الايراني بهذه الحالة يضرب العرب بالعرب وهو المستفيد من هذا الضرب. وهذا ما لا نرجوه.
وهذا يعني أن النفق المظلم الذي دخله العراق لن ينتهي بنهاية تنظيم داعش وإنما قد تكون بداية جديدة لصراعات عراقية منها ما يتعلق بالحشد الشعبي والتأكيد على المحاصصة الطائفية في حكم العراق، وصراعات بين غالبية سكّان الموصل السنّة الراغبين في إدارة مدينتهم بقدر من الاستقلالية وبين الحكومة الاتحادية ذات اللون الشيعي الغالب التي ستسعى إلى استعادة سيطرتها المركزية على المحافظة، وصراعات بين الأكراد الذين سيسعون إلى اقتطاع أجزاء من المحافظة وضمّها إلى كردستان وبين الحكومة الاتحادية، وصراعات بين عرب الموصل والأكراد حول الشأن نفسه، وصراع المحتمل بين تركيا والعراق الذي لا بد أن يشهد إعادة اصطفاف قوى عراقية مع كل من البلدين المتنازعين وهي عملية قائمة منذ الآن، إذ تتبنى تركيا جناح رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني من القيادة الكردية وتياراً عربياً موصلياً درّبته.
فضلاً عن وجود فوضى سلاح مستشرية في العراق فالحشد الشعبي الذي يمتلك كمّا هائلا من السلاح لم يعد من الممكن نزعه تحت أي ظرف، كما أتاحت حرب داعش لقوات البيشمركة الكردية المزيد من التنظيم والتسلّح حتى أصبحت جيشا مرهوب الجانب. ومن جهتها تحاول مجموعات عشائرية سنية أن تلحق بـ”سباق التسلّح” في العراق والمشاركة في الحرب الدائرة ضدّ تنظيم داعش ومسك الأرض التي تستعاد من مقاتليه.وفي جنوب العراق كشفت صدامات مسلّحة شهدتها بعض المناطق في فترات متقطّعة في نطاق خصومات وثارات عائلية وقبلية عن امتلاك العشائر الشيعية لكم كبير من السلاح الخفيف والمتوسّط.
ويتوقّع أن تظلّ قضية فوضى السلاح قائمة في العراق، وأن تتحوّل في مرحلة ما بعد داعش إلى خطر وجودي مهدّد لكيان الدولة العراقية التي بلغت درجة غير مسبوقة من الضعف الذي مسّ مختلف مؤسساتها بما في ذلك المؤسسات الأمنية والعسكرية التي داخلتها الاعتبارات الطائفية وظهرت قوى شيعية مسلّحة منافسة لها بل عاملة على إضعافها ومنع إعادة بنائها بعد حالة شبه الانهيار التي بلغتها خلال السنوات الماضية. وبحسب متابعين للشأن العراقي، فإن لفوضى السلاح تشعبات تتجاوز مظهرها الأمني إلى الوضع السياسي في البلاد وما يميزه من صراعات شرسة على السلطة. ويؤكّد هؤلاء أنّ السلاح المنسوب لفصائل الحشد الشعبي هو في النهاية سلاح تابع لشخصيات وأحزاب متصارعة ويمتلك كل منها ميليشيا معروفة تعمل لحسابه.ويحذّرون من أنّ ما آلت إليه الحياة السياسية في العراق من خلافات وصراعات حادّة ينذر بأنّ الصراع على المناصب والمكاسب قد يتحوّل إلى صراع مسلّح، خصوصا إذا انتهت الحرب على تنظيم داعش وأصبح عشرات الآلاف من المقاتلين بكلّ ما بين أيديهم من أسلحة وذخائر في حالة تفرّغ.
ناهيك عن التنافس الذي قد يصل إلى مستوى الصراع بين النظام الإيراني وتركيا على العراق بشكل عام والسيطرة على مدينة الموصل الاستراتيجية لكليهما على وجه الخصوص. ليس بعيداً اليوم الذي سيصوّت فيه مجلس النواب العراقي، إن اقتضى الأمر، على قانون تأسيس «الحشد الشعبي» بوصفه قوة مستقلة عن القوات المسلّحة. انتظار الانتخابات النيابية بعد عامين؟ إن لم تحصل مفاجآت غير محسوبة في عراق المفاجآت فسيحقق ممثلو «الحشد» انتصارات كبيرة تؤمن سيطرتهم على التحالف الوطني الشيعي الحاكم، ولذا فليس العراقي الطامح لبناء دولته المدنية وحده من يخشى هذا الكابوس. وليس السنّي وغير العربي وحدهم من يخشونه. لعلّ أكثر من يخشى الكابوس هم قادة التحالف الوطني الشيعي إذ ينقلب توازن القوى داخل تركيبتهم. وكأن قدر الدولة العراقية منذ عام2003م وحتى يومنا هذا، تعيش حالة الدولة المأزومة والمجتمع الآيل للسقوط بفعل أزماته التي لا تنتهي.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية