في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 وجه وزير الخارجية البريطاني اللورد آرثر بلفور، على الورق الرسمي للوزارة، رسالة إلى اللورد جيمس روتشيلد زعيم البرجوازية اليهودية الإنجليزية وراعي الحركة الصهيونية، تضمنت ما نصه: «إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وسوف تبذل قصارى جهدها من أجل تسهيل تحقيق هذا الهدف، على أن يكون مفهوماً وواضحاً أنه لن يتخذ أي عمل يجحف بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية التي تعيش الآن في فلسطين، أو بالحقوق والوضعية السياسية التي يتمتع بها اليهود في أي دولة أخرى».
وكان الرئيس الأمريكي ويلسون قد أقر مسودة وعد بلفور قبل إصداره، الأمر الذي أسهم في ترجيح كفة مؤيدي إصدار الوعد في مجلس الوزراء البريطاني على معارضي إصداره. ولقد أيد الوعد عقب إصداره كل من الحكومة الفرنسية والإيطالية. وبهذا تكون دول الحلفاء الرئيسية الأربع في الحرب العالمية الأولى قد تبنت ما استهدفه وعد بلفور. وعليه غدا وعداً دولياً يمثل التزام حكومات الدول الأربع بمضمونه.
ولما كانت الدول الرأسمالية، غير الأعضاء في التحالف الرباعي الذي أيد الوعد لم تصدر عنها معارضة بأي شكل للوعد غير الموضوعي، فإنها تكون بذلك مؤيدة له ضمنا، استنادا لقاعدة السكوت في معرض الحاجة بيان.
ولقد أضفى وعد بلفور على اليهود صفة «الشعب» برغم أنهم ينتسبون لسلالات شتى، وأوطان عديدة، وفضاءات ثقافية متعددة، ولا يملكون وحدة اللغة والثقافة والقيم وأنماط السلوك، فيما جامعهم الوحيد الانتماء للديانة اليهودية. ما يعني تناقضهم تمام التناقض مع الشروط الموضوعية المتوجب توفرها في الجماعة البشرية حتى يجوز اعتبارها شعباً كما حددها الفكر السياسي منذ قيام الدولة الحديثة. وبالمقابل وعلى النقيض تماماً تجاهل إعلان بلفور الحقوق السياسية والقانونية للشعب العربي الفلسطيني، وأسقط عنه صفة الشعب، وتجاهل هويته القومية العربية. كما أنه لم يقر للمواطن الفلسطيني أياً من حقوق المواطنة المتعارف عليها، حيث لم يعتبره مواطناً بالدلالة السياسية لمصطلح مواطن، وإنما صنفه على أنه ينتمي لطوائف غير يهودية موجودة في فلسطين ليس لها سوى حقوق دينية ومدنية. وذلك برغم أن شعب فلسطين العربي يتميز بارتفاع نسبة اندماجه على محاور السلالة التاريخية واللغة والثقافة والقيم وأنماط السلوك. ثم إن مسلمي ومسيحيي فلسطين تجمعهم وحدة السلالة واللغة والثقافة وأنماط السلوك والانتماء للعروبة.
وبرغم ما انطوى عليه وعد بلفور من تناقض ومجافاة لحقائق التاريخ ومعطيات واقع كل من عرب فلسطين واليهود، تبنته عصبة الأمم، وضمنته صك انتدابها بريطانيا على فلسطين. وقد نص صك الانتداب في مادته الثانية على أن تكون بريطانيا مسؤولة عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي، وترقية مؤسسات الحكم الذاتي. كما نص في المادة الرابعة على الاعتراف بوكالة يهودية تتعاون مع إدارة الانتداب في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وكل ما يؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين.
لقد تصدى الشعب العربي الفلسطيني زمن الانتداب لأربع قوى متضامنة ومتفاعلة جدليا: قوى الاستعمار البريطاني التي جابهها بحراك سلمي طوال خمسة عشر عاما، مطالباً بالاستقلال والسيادة الوطنية والحريات العامة، وإقامة نظام دستوري ليبرالي يؤمن للمواطنين العرب والمستوطنين الصهاينة حقوقا متساوية. الأمر الذي عارضه وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرتشل والزعيم الصهيوني حاييم وايزمان. ما دعا شعب فلسطين لاعتماد المقاومة المسلحة بدءاً من مبادرة الشيخ عز الدين القسام الاستشهادية خريف 1935، ليعقبها تفجر الثورة العربية الكبرى 1936 – 1939، وكان القساميون أبرز قادتها، في مواجهة الجيش البريطاني الذي بلغ تعداده ستون ألفا، وقد صحب الثورة إضراب وطني شامل لمدة ستة شهور كان الإضراب الوطني الأطول خلال القرن العشرين.
كما واجه شعب فلسطين الهاغاناه والأرغون وشتيرن التي اعتمدت الإرهاب، بزرع القنابل الموقوتة في أسواق الخضار بالقدس ويافا وحيفا موقعة عشرات الشهداء ومئات الجرحى، فضلاً عن أن الهاغاناه شاركت الجيش البريطاني في محاولته قمع الحراك الوطني الفلسطيني والثورة.
ويذكر إيلان بابيه أشجع المؤرخين الصهاينة الجدد وأكثرهم موضوعية، أنه برغم الانحياز البريطاني ودعم الجاليات اليهودية سياسياً ومالياً للصهاينة كانت فلسطين سنة 1947 عربية، إذ لم يحز الصهاينة سوى 5,7 % من الأرض الزراعية، ويقرر أنه لو أنصفت الأمم المتحدة بقرار التقسيم لما أعطتهم أكثر من 10 % من مساحة فلسطين استنادا لما يحوزونه من الأرض.
عوني فرسخ
صحيفة الخليج