اعفت الطريقة الدموية البشعة التي اعدم من خلالها الطيار الاردني معاذ الكساسبة على يد “الدولة الاسلامية” القيادة الاردنية من “حرج” كبير، وحشدت معظم الرأي العام الاردني، ان لم يكن كله، خلف مشاركتها في التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة للقضاء على هذه الظاهرة “الجهادية” المتشددة.
الشارع الاردني قبل الاعدام كان منقسما في موقفه تجاه مشاركة بلاده طائرات التحالف الامريكي الغربي في الحرب على “الدولة الاسلامية”، ومعارضي هذه المشاركة كانوا الاعلى صوتا، ولكن الصورة تغيرت كليا في اليومين الماضيين، وبدأت الدعوات لانتقام اوسع لاحراق الطيار الضحية على السنة الغالبية الساحقة من الشعب الاردني بمختلف اطيافه والوانه واصوله ومنابته.
في ظل هذا المناخ المتعطش للانتقام، لم يكن مفاجئا ان يتماهى معه العاهل الاردني الملك عبد الله الثاني الذي قطع زيارته الى واشنطن، ويتوعد في بيان رسمي شديد اللهجة، وبعد اجتماع مع كبار قادته العسكريين “الدولة الاسلامية” “برد قاس″، مؤكدا ان دم الطيار الاردني لن يضيع هدرا، ونحن هنا لا نتحدث عن اعدام السيدة الانتحارية ساجدة الريشاوي وزميلها زياد الكربولي كأول خطوة على طريق هذا الانتقام، فالمسألة اكبر واخطر من ذلك بكثير.
***
القاء نظرة متأملة لبيان الديوان الملكي الاردني تعطي انطباعا بأن القيادة الاردنية قررت نقل الحرب الى معاقل “الدولة الاسلامية” بما في ذلك ارسال قوات “برية” خاصة، او على شكل وحدات من الجيش الاردني، فالبيان الملكي تضمن نقطة على درجة كبيرة من الاهمية وهي “سنكون بالمرصاد لزمرة المجرمين، ونضربهم في عقر دارهم”.
وما يؤكد هذا الاستنتاج، التصريحات التي ادلى بها النائب الامريكي ثورنبيري ماك ثورنبيري رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الامريكي، وقال فيها “ان الولايات المتحدة تبحث في الطلبات الاردنية للحصول على اسلحة ومعدات في الحرب على “داعش” ودعا “الى ضرورة تلبيتها بشكل عاجل، وبحث كيفية التصدي لايديولوجية هذا التنظيم”.
الاردن كان منذ اليوم الاول عضوا فاعلا في التحالف الامريكي “الخمسيني” ضد “الدولة الاسلامية” وبادر بإرسال طائراته الامريكية القديمة من طراز (اف 16) لتأكيد نواياه في هذا المضمار، وكان بصدد ارسال قوات خاصة تدعم جهوده الاستخبارية الاهم التي يُشهد لها في جمع المعلومات، ومن المؤكد ان اعدام الطيار الكساسبة بالطريقة البشعة (امتنعت عن نشرها) عجل من التوجهات العسكرية الاردنية في خوض الحرب بالاسلحة كلها.
من الصعب علينا في ظل حالة الغضب الشعبي غير المسبوق، والدعوات المتصاعدة للانتقام، مناقشة الجوانب الايجابية والسلبية لمثل هذه الخطوات، فالاخطار موجودة، لا يمكن، بل لا يجب، التقليل من شأنها، او القفز عنها، فالاردن سيكون في مواجهة تنظيم دموي شرس يرابط بالقرب من حدوده، ولا يهمه خسارة الرأي العام الاردني او كسبه، ولا يلتزم بأي قواعد للاشتباك، ورأسمال الاردن هو امنه واستقراره ووحدته الوطنية، ولهذا يجب النظر الى الامور من زاوية المصلحة واجراء حسابات دقيقة، بعيدا عن العواطف والنزعات الانتقامية، فالاردن دولة تمتد جذورها لاكثر من مئة عام بينما خصمه، اي “الدولة الاسلامية” تنظيم حديث العهد لا يزيد عمره عن عامين، والفارق كبير بين الطرفين، ونأمل ان لا يفسر كلامنا هذا بطريقة خاطئة، لان غبار “الحماس″ سيهدأ بعد ايام او اسابيع حتما، وستظهر الحقائق واضحة ويمكن رصدها بالعين المجردة.
شتم “الدولة الاسلامية” واتهامها بالارهاب والوحشية والبشاعة من قبل الكثير من الكتاب والمحللين السياسيين في الاعلام العربي، يعطي نتائج عكسية تماما، لانه يصب في خانة “المدح” وليس “الذم”، لان استراتيجية هذه الدولة تقوم على “الصدمة والرعب” و”ارهاب” الخصوم، وارباكهم عسكريا وسياسيا، الامر الذي يسهل عملية تجنيد المزيد من الشباب المحبط في صفوفها وتبني ايديولوجيتها الدموية.
من تابع شريط الاعدام للطيار الكساسبة والطريقة التي انتج واخرج بها، يعتقد انه يتابع فيلما هوليوديا لافلام العنف من اعداد خبراء كبار في الحرب النفسية، كان مبتغاهم الاساسي احداث اكبر قدر ممكن من التأثير في المشاهد، مما يؤكد الرواية الاردنية شبه الرسمية التي تقول بأن الطيار الضحية اعدم قبل شهر على الاقل.
نشرح اكثر ونقول ان وضع الطيار الضحية في قفص، واغراق جسده بالبنزين، وهو في بدلة الاعدام البرتقالية، ووقوف شخص ملثم حاملا شعله “مضمخة” بالبترول يشعلها ببطئ، امام الكاميرا، ثم يستخدمها لاشعال الفتيل المؤدي الى القفص يتحول الشاب الضحية بعدها الى كتلة من اللهب بطريقة بشعة وغير انسانية، هذا الاعدام غير المسبوق لا يمكن ان يكون وليد الساعة، ولا يمكن ان يكون من انتاج تنظيم همجي متخلف، وانما يعكس عملا مؤسساتيا متقدما لا يضاهيه اي عمل رسمي عربي، وهذا ليس مدحا وانما توصيفا عمليا مهنيا.
هذه هي المرة الاولى التي يستخدم فيها التنظيم هذه الطريقة البشعة في اعدام اسراه، فحتى جنود الجيشين السوري والعراقي الذين يوصفوا بـ”المرتدين” في ادبياته، لم يعدما بهذه الطريقة، ولا الرهائن الاجانب ايضا، وسمعت من يقول على احد الشاشات ان استخدام اسلوب الحرق في اعدام الطيار الكساسبة جاء بسبب كونه عسكريا وليس مدنيا، وهذا تفسير يتنافى مع الواقع، فلم نر التنظيم “الدولة” يحرق جنودا، او مقاتلين من الجبهات العسكرية المعارضة الاخرى التي خاض حربا ضروسا في حلب ودير الزور والرقة ضدها واعدم المئات ان لم يكن الآلاف من منتسبيها الذين وقعوا اسرى في قبضته.
***
طريقة الحرق البشعة هذه كان الهدف منها ارسال رسالة ترهيب الى الدول المشاركة في التحالف الخمسيني الامريكي لحثها على الانسحاب من هذا التحالف اذا ارادت تجنب المصير نفسه لطياريها او جنودها، ويبدو ان هذه الرسالة وصلت بسرعة بالنظر الى التقرير الذي نشرته صحيفة “النيويورك تايمز″ اليوم الاربعاء، واكدت فيه ان دولة الامارات العربية المتحدة اوقفت طلعاتها الجوية لقصف مواقع “الدولة الاسلامية” منذ اسر الطيار الكساسبة.
الاردن قرر “الانتقام” والذهاب في حرب ضد “الدولة الاسلامية” حتى الشوط الاخير ويجد دعما من الغالبية العظمى من مواطنيه، ناهيك عن قواته المسلحة، والولايات المتحدة، الدولة الاعظم في الوقت الراهن، ونأمل ان يكون قد قرر تبني هذا الخيار بعد دراسة وتمحيص جيدين ومتعمقين.
عبد الباري عطوان
رأي اليوم