تدخل الاستخبارات الروسية في الانتخابات الرئاسية الأميركية أصبح الآن مسألة مسلّم بها في الأوساط السياسية الأميركية، وخاصة بعد أن أكد 17 جهازا استخباراتيا في أكتوبر الماضي هذه الحقيقة، مع التأكيد بأن مثل هذه النشاطات الاستخباراتية لا يمكن الموافقة عليها إلا من قبل كبار المسؤولين الروس. ما لم يكن موثوقا به هو الهدف الأساسي لنشاطات الاستخبارات الروسية المباشرة وغير المباشرة لهذا التدخل. التحليلات تراوحت بين من يقول إن الهدف هو خلق الشكوك في صدقية وشرعية العملية الانتخابية الأميركية لإحراج الولايات المتحدة في العالم، وبين من يقول إن ضحايا هذا التدخل: الرسائل الإلكترونية للحزب الديموقراطي، ولرئيس حملة المرشحة هيلاري كلينتون، ونشر هذه الاتصالات علنا عبر منظمة ويكيليكس لإحراج حملة كلينتون، يبين أن الروس يريدون مساعدة المرشح الجمهوري دونالد ترامب على الفوز بالانتخابات. الثناء السخي لترامب على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – بمناسبة ودون مناسبة- ودعوته العلنية لروسيا في الصيف الماضي للتجسس على البريد الإلكتروني لكلينتون وكشف رسائلها، كلها عمقت هذا الاستنتاج.
وقبل 25 يوماً من استلام الرئيس المنتخب ترامب لمنصبه رسميا، كشفت شبكة التلفزيون أن بي سي أن هناك “مستوى عال من الثقة” في الأوساط الاستخباراتية بأن الرئيس بوتين شخصيا كان يشرف على نشاطات الاستخبارات الروسية في الولايات المتحدة. المصادر أشارت إلى أن هناك أكثر من سبب وراء قرار بوتين، بدءا مما هو معروف وما كتب عنه الكثير، أي رغبة بوتين بالثأر من هيلاري كلينتون التي كانت قد شككت بشرعية الانتخابات النيابية الروسية في 2011 حين كانت كلينتون وزيرة للخارجية.
ولكن موقف بوتين تطور لاحقا ليشمل إظهار العملية الانتخابية الأميركية على انها فاسدة أو غير شرعية، مع ما يحمله ذلك من إحراج للولايات المتحدة ومكانتها القيادية في العالم، وأيضا لأن بوتين معجب بمواقف ترامب العلنية تجاه روسيا.
ومع مرور كل يوم تتوضح أكثر معالم النفوذ أو الحضور الروسي في حقبة ترامب الجديدة. وفي الأيام الماضية تركز الاهتمام السياسي والإعلامي على قرار ترامب تعيين ريكس تيلليرسون رئيس شركة ايكسون العملاقة للطاقة وزيرا للخارجية والذي أثار جدلا كبيرا نظرا لقربه من الرئيس بوتين الذي أسبغ عليه وأعطاه أعلى جائزة روسية تعطى لأجنبي، نظرا لاستثمارات وعمل شركته في روسيا. ردود فعل موسكو السياسية والإعلامية على تعيين تيلليرسون كانت احتفالية. ولكن المشهد الأميركي بعد تيلليرسون مختلف ومعقد أكثر، ليس فقط لقربه من بوتين، ولكن أيضا لأنه لم يعمل في حياته المهنية في أي شركة خارج ايكسون، ولأنه يفتقر إلى خبرة عملية في السياسة الخارجية، الأمر الذي يرفضه ترامب الذي يقول إن عمل تيلليرسون كرئيس لشركة عملاقة تنتج الطاقة يؤهله لمهام وزير الخارجية.
وفور تعيينه – يجب أن يصدق مجلس الشيوخ على التعيين بأكثرية بسيطة- برزت أصوات نقدية قوية لتيلليرسون ليس فقط في أوساط الديموقراطيين، ولكن أيضا من قبل عدد من الشيوخ الجمهوريين من بينهم السناتور ماركو روبيو منافس ترامب في الانتخابات الأولية، والسناتور جون ماكين الذي أهانه ترامب خلال الانتخابات الحزبية حين شكك بأهمية دور ماكين العسكري خلال حرب فيتنام حين أسر وقضى 5 سنوات في السجن وتعرض للتعذيب، إضافة الى السناتور ليندزي غراهام . الاعتقاد السائد في أوساط معارضي وزير الخارجية المعين هو أنه سيواجه أسئلة صعبة للغاية خلال جلسات الاستماع التي ستعقدها لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ للنظر بتعيينه. وإذا رفضه الديموقراطيون فإن كل ما يحتاجونه هو دعم 3 أعضاء جمهوريين لتقويض تعيينه، وهذا العدد على الأقل متوفر الآن.
ولكن التحدي الأكبر الذي سيواجهه ترامب حتى قبل دخوله الى البيت الأبيض هو وجود رغبة ديموقراطية قوية، مدعومة من قيادات جمهورية من بينها السناتور ميتش ماكونال رئيس الأكثرية في المجلس، إضافة إلى ماكين وغراهام بأن يقوم الكونغرس بالتحقيق الشامل بكيفية نجاح الاستخبارات الروسية في اختراق الحسابات الإلكترونية لمؤسسات وشخصيات ديموقراطية. وسوف يكتسب التحقيق أهمية ضخمة إذا كشف أن هناك دعما روسيا لفوز ترامب.
ولا تزال هناك اجتهادات مختلفة في الكونغرس حول شكل التحقيق وهل ستقوم به اللجان المختصة في الكونغرس، أم يجب تشكيل لجنة خاصة.
ويعارض ترامب مثل هذه التحقيقات الخاصة لأنها ستركز أيضا على البعد الروسي النافر في حملته بما في ذلك الدور المحتمل للمال الروسي. وعلى الرغم من قول الرئيس المنتخب إنه ليست لديه مصالح اقتصادية في روسيا وإنه لم يتلق أي قروض من موسكو، إلا أن نجله الذي يحمل اسمه أيضا قال في مؤتمر حول العقارات عقد في نيويورك في 2008 أن “الروس يمثلون جزءا كبيرا من مصالحنا وممتلكاتنا” وأضاف “ونرى الكثير من المال الذي يتدفق إلينا من روسيا”. المشكلة هي أنه لا يمكن الجزم بشكل لا لبس فيه، ما هو حجم استثمارات ترامب في روسيا، أو في أي مكان آخر في العالم، لأنه يرفض الكشف عن سجله الضرائبي.
هشام ملحم
العربية