تتعالى أصوات المنظمات الإنسانية محذرة من أزمة بيئية تمضي بوتيرة متسارعة ومتصاعدة نحو الأسوأ في العراق، وتكمن خطورتها في أنها بعيدة المدى، وهي بمثابة قتل بطيء لما تبقى صالحا في العراق، من أراض وأرحام قادرة على الإنتاج والإنجاب. وبقدر ما يزداد عدد ضحايا هذه الكوارث يفتقر العراق إلى إمكانيات المعالجة الآنية والفاعلية المطلوبة؛ فالعراق لا يستطيع في الوقت الحاضر، بالاعتماد على إمكانياته الضعيفة ووضعه الأمني المتأزم أن ينظف بيئته الملوثة والموبوءة.القيارة (العراق) – سيأتي يوم وتتوقف فيه آلة الحرب العسكرية عن الدوران في العراق؛ لكنها لن تتوقف عن حصد أرواح الضحايا. والإرهاب المسلح سيحل محله إرهاب بيئيّ ناتج عن مخلفات المعارك والقنابل التي زرعها الجهاديون وعن بقايا اليورانيوم المنضب الذي استخدمه الأميركيون منذ دخولهم البلاد في عام 2003.
أزمة بيئية في العراق تمضي بوتيرة متسارعة ومتصاعدة نحو الأسوأ تثير قلق المنظمات الدولية التي تدعو إلى تحرك سريع. وفي أحدث تفصيل لهذه الأزمة سحب الدخان الأسود التي خلفتها حرائق آبار نفط بعضها لا يزال مشتعلا منذ أكثر من أربعة أشهر.
تحمل هذه السحب غازات سامة تؤثّر بشكل مباشر على مناطق سكنية وزراعية واسعة، تمتد إلى الجنوب من الموصل. ويشير تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى تلقّي المئات من الحالات للعلاج إثر تعرضهم إلى مواد كيميائية بالإضافة إلى تعرض الملايين لاستنشاق الجسيمات العالقة والغازات المنبعثة من آبار النفط في المناطق الواقعة إلى الجنوب من مدينة الموصل حول آبار النفط وحيث أحرق تنظيم الدولة الإسلامية مصنعا للكبريت.
أثر الحرائق، بالإضافة إلى المياه الملوثة والمعدات العسكرية المتناثرة والمرافق المدمرة، سيمتد على المدى البعيد ويعرقل إعادة الإعمار واستئناف أكثر من ثلاثة ملايين نازح في البلاد حياتهم بشكل طبيعي
يقوم رجال الدفاع المدني العراقي بتحري الوضع عبر أجهزتهم الإلكترونية. ويقول هجار فاضل، ضابط الدفاع المدني وهو يقف على مقربة من بئر ما زالت تنبعث منها شرارات من اللهب، “نقيس مستويات كبريتيد الهيدروجين”، وهو غاز قابل للاشتعال يمكن أن يتسبب بحروق. ويضيف “نقوم بتغطية الأرض لوقف انبعاث الدخان ووقف تلويث الهواء والبيئة”.
لكن القلق يتنامى من “التأثير السلبي لهذا التلوث على القدرة في إعادة بناء بيئة نظيفة ومستدامة” تتيح إعادة النازحين إلى ديارهم، وفق جيني سباركس من منظمة الهجرة الدولية. وتضيف سباركس إن الأمر يتطلب “الانتقال من التحرك الطارئ إلى برامج لبناء القدرة على المقاومة في الأسابيع والأشهر المقبلة”.
ويشير برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن إعادة الإعمار هذه تجري في “منطقة تعاني بيئتها أصلا من التدهور جراء النزاعات السابقة واستغلال المساحات المزروعة بطرق غير مستدامة أدت إلى التصحر الخطير والى إفقار التربة”.
وكانت الغالبية العظمى من سكان هذه المناطق تعتمد على الزراعة وتربية المواشي والعمل في قطاع النفط، وهما قطاعان دمرهما الجهاديون. وتشاهد في السهل الصحراوي قطعان من الأغنام تغير لون صوفها إلى الأسود جراء الدخان الكثيف.
ويقول جابر، البالغ من العمر 16 عاما، وهو يرعى أغنامه بالقرب من بلدة القيارة الزراعية، “لقد نفقت بعض أغنامي وما تبقى منها لا أستطيع بيعه لأنها اسودّت”. وتحذر المنظمات الدولية من المزيد من الأضرار مع استمرار الصراع في المنطقة.
الصراع يلوث الأجواء
نفايات ومياه ملوثة وأوبئة
يحذر برنامج الأمم المتحدة للبيئة من المواد السامة التي يحتويها الركام وغبار المباني المدمرة وبعض مخازن الأسلحة والمواد الكيميائية، ومن تأثيرها بعيد المدى على البيئة “إذا لم يتم التحرك في مواجهة ذلك”. والأمر ذاته ينطبق على العربات العسكرية المدمّرة المتروكة لأنها تشكل خطرا على “الأطفال الذين يلعبون بها أو الرجال الذين يفككونها لبيع معدنها”.
ويقول إيرك سولهايم، المسؤول عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، إن الماء يمكن أن يشكل مصدرا للخطر. ويضيف “ألقيت في الأنهار ومجاري المياه جثث ومواد خطيرة ونفط”. رغم ذلك، مازال البعض يتمسك بالأمل. ويقول برنامج الأمم المتحدة للبيئة إنه عند الغزو الأميركي للعراق في 2003، تعرض مصنع كبريت المشراق قرب القيارة لحريق استمر شهرا، “وتعرضت النباتات والمحاصيل لأضرار جسيمة. لكن بعد مرور عامين، تعافت البيئة”.
لكن، هذا الأمل لا يمكن أن يتحوّل إلى واقع في غياب السبل والوسائل التي تساعد على تحقيقه. ويحذّر برنامج الأمم المتحدة للبيئة من أنه بعد انتهاء المعارك قد يؤدّي انهيار الهيئات المكلفة بإدارة البيئة إلى “تراكم النفايات المنزلية والطبية والصناعية والتسبب بمخاطر بيئية وصحية”.
ويضيف أنه قد تتكرر أعمال النهب التي حصلت في أعقاب الغزو الأميركي في 2003 ولا سيما في المصانع، حيث “سرق حينها مدنيون مواد سامة وكيميائية. بعضهم على سبيل المثال نهب براميل من مفاعلات نووية واستخدموها لخزن مياه الشرب”، وفق ويم زويننبرغ من منظمة باكس الداعية إلى إنهاء النزاعات.
وفي حال لم تنته الفوضى السياسية، وتنصرف الحكومة إلى القيام بمهامها كجهة وطنية مسؤولة على البلاد والعباد، ستبقى البيئة العراقية موبوءة، وستبقى أمراض الحرب تفتك بالعراقيين، ولن يكون اليورانيوم فقط ما سيسمم حياتهم بل بقايا الأسلحة الكيميائية التي استخدمها تنظيم الدولة الإسلامية، والمياه الملوثة والمعدات العسكرية المتناثرة وغيرها من المرافق المدمرة التي تبقى تأثيراتها على المدى البعيد وتعرقل إعادة الإعمار.
ومما يزيد الطين بلّة ويرفع من قلق المنظمات المتابعة للوضع البيئي والصحي والإنساني في العراق أن الحروب أنهكت اقتصاد البلاد، التي لم تعد قادرة، في ظل الفوضى، حتى على توفير الحاجيات الأساسية اليومية لمواطنيها من ماء صالح للشراب ومدارس وغذاء، وبقدر ما يزداد عدد ضحايا الكوارث البيئية يفتقر العراق إلى إمكانيات المعالجة الآنية والفاعلية المطلوبة. فالعراق، الذي كان من أول الدول العربية التي قضت على وباء الكوليرا، عجز عن مواجهة هذا الوباء الذي تفشى بين مدنه ومخيمات لاجئيه، السنة الماضية، بسبب المياه الملوثة.
وتلوث الهواء والتربة والمياه يقضي على ما بقي من أراض خصبة قادرة على الإنتاج. وقد سبق دخان الحرائق في قتل هذه الأراضي اليورانيوم الأميركي الذي تبين بالحجة والدليل والاعتراف أن قوات التحالف التي غزت العراق في 2003 استعملته، بل إن مأساة العراقيين مع اليورانيوم المنضب تعود إلى سنة 1991 حين استخدمت القوات الأميركية لأول مرة في التاريخ هذا السلاح المدمر ضد العراقيين.
المياه في العراق مصدر آخر للموت
فقد أطلقت الطائرات والدبابات أعدادا كبيرة جدا من هذه القذائف، ليس فقط ضد الأهداف العسكرية العراقية، وإنما كذلك الأهداف المدنية باستخدام الإطلاقات المحتوية على اليورانيوم المنضب. وأثبت التحليل المختبري والتحليل العلمي للإطلاقات أنها مصنوعة من اليورانيوم المنضب. إضافة إلى ذلك، فقد تركت الجيوش المعتدية كميات كبيرة من اليورانيوم المنضب.
وفي شهر أكتوبر الماضي، كشف باحثون عن سجلات تحتوي على تفاصيل عن إطلاق القوات الأميركية في العراق لما يقرب من 181.000 قذيفة من ذخائر اليورانيوم المنضب في عام 2003، وتمثل هذه السجلات أهم الوثائق العامة عن استخدام هذه الأسلحة المثيرة للجدل خلال الغزو الأميركي.
وكتب سام أوكفورد، وهو صحافي مستقل مقيم في نيويورك ومساهم في شبكة إيرين للإنباء الإنسانية، مبينا أن وثائق مخبأة، تم الكشف عنها لجامعة جورج واشنطن في عام 2013 ولكنها لم تُعلن حتى الآن، تقول إن غالبية الـ1.116 طلعة جوية التي نفذتها أطقم الطائرات من طراز أ-10 خلال شهري مارس وأبريل من عام 2003 كانت تستهدف ما يسمّى بـ “الأهداف السهلة” مثل السيارات والشاحنات، وكذلك المباني ومواقع القوات.
ويتوازى هذا مع روايات عن استخدام تلك الذخائر لضرب مجموعة واسعة من الأهداف، وليس فقط الدبابات والعربات المدرعة التي تصرّ وزارة الدفاع على أنها الهدف المقصود لذخائر اليورانيوم المنضب فائقة الاختراق.
واليوم، يقول سام أوكفورد إن نفس الطائرات من طراز أ-10 تحلق مرة أخرى في سماء العراق، وكذلك فوق سوريا، حيث تستهدف قوات ما يسمّى بتنظيم الدولة الإسلامية. وعلى الرغم من أن مسؤولي الإعلام العسكري الأميركي ينكرون إطلاق ذخائر اليورانيوم المنضب، إلا أنه لا توجد أيّ قيود تمنع وزارة الدفاع الأميركية من عمل ذلك، والمعلومات المتناقضة التي تم تقديمها إلى الكونغرس تثير تساؤلات حول احتمال نشرها في العام الماضي.
العرب اللندنية