ربما لا يختلف اثنان في أن انتشار الإرهاب بشتى صوره، كفيل بأن يشكل حجر عثرة أمام تعزيز الممارسة الديمقراطية وترسيخ دعائمها وقواعدها بأي بلد، فهنا تتلاقى الديمقراطيات الناشئة في الدول التي لا تزال تتلمس خطاها على درب التحول الديمقراطي الوعر، مع الديمقراطيات الراسخة في نظيرتها التي لديها باع طويل وإرث ممتد من الممارسة الديمقراطية الحقيقية.
فكثيرا ما لا تتورع دول تتمتع بتاريخ ديمقراطي عتيد وموغل في القدم كالولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية عن اللجوء إلى إجراءات استثنائية لا تتماشى وقيم ومبادئ الديمقراطية، توخيا لدحر تهديد إرهابي أو التصدي لمخاطر وتحديات تتربص بأمنها القومي أو المجتمعي، وهو الأمر الذي يبدو جليا هذه الأيام من خلال ما تبنته تلك الدول من سياسات تقييدية في أعقاب أحداث مجلة “شارلي إيبدو” الباريسية مؤخرا.
وربما يزداد الأمر سوءا في دول الديمقراطيات الناشئة أو غير المترسخة كتركيا على سبيل المثال، إذ غالبا ما تتراجع الممارسات الديمقراطية القلقة أو المتعثرة مفسحة المجال أمام سطوة السياسات الأمنية وجبروت الإجراءات التسلطية القمعية التي كثيرا ما تتبناها الحكومات بذريعة مواجهة أخطار داخلية وخارجية تتربص بوحدة الدولة واستقرار نظامها أو تهدد بالنيل من ثوابتها الوطنية.
“كثيرًا ما لا تتورع دول تتمتع بتاريخ ديمقراطي عتيد وموغل في القدم عن اللجوء إلى إجراءات استثنائية لا تتماشى وقيم ومبادئ الديمقراطية، توخيا لدحر تهديد إرهابي أو التصدي لمخاطر تتربص بأمنها القومي “
وقد يبلغ الأمر من السوء مبلغا أعظم في دول أخرى نامية ما زالت تحبو على طريق التحول الديمقراطي الطويل والمستعصي كمصر مثلا، فربما تتجمد أو تتعطل مساعي ذلك التحول مرحليا أو حتى تنتكس كليا إذا ما شعر القائمون على أمر الحكم فيها بأن ثمة تعارضا أو صداما قد نشب بين الرغبة في إدراك قدر معقول من الديمقراطية من جانب، وبقاء الدولة واستمرار وحدتها واستقرار نظام الحكم القائم بها، أو إنجاح عملية التنمية المتعثرة فيها من جانب آخر.
فهنالك، تلقي بظلالها تلك الجدلية الثنائية المقيتة: الديمقراطية أم الأمن؟ الديمقراطية أم التنمية؟ وكأنه يتعذر على الدولة أن تجمع بين الاثنين معا، أو أن الشعب لا يستحق أن ينعم بكليهما في ذات الوقت.
وفي وسع المراقب تفهم أن تفضي مبررات من قبيل محاربة الإرهاب أو استعادة الدولة أو استكمال مسيرة التنمية أو التصدي لتهديدات داخلية وخارجية، إلى تعطيل أو تعليق أو إرجاء المسيرة الديمقراطية لبعض الوقت بغرض استبقاء الدولة التي تشكل المسرح أو الساحة التي تمارس فيها الديمقراطية، والتي بدونها لا يمكن أن تتأتى تلك الديمقراطية من الأساس.
غير أن ما لا يمكن تقبله على الإطلاق هو أن تقدم بعض الجهات أو الدوائر المعادية للديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان على توظيف تلك المقاصد المشروعة كأداة أو مسوغ لتقويض مسيرة الديمقراطية وإجهاضها.
فلطالما أثبتت تجارب التاريخ -بما لا يدع مجالا للشك- أن توجها من هذا النوع كفيل بأن يفضي إلى نتائج معاكسة تماما، حيث مزيد من التطرف والإرهاب والتهديد لوحدة الدولة واستقرار النظام كما للسلم والأمن المجتمعيين.
فمن شأن الإحباط الناجم عن تراجع الديمقراطية وما قد يتمخض عنه من تيبس للوسائط السياسية وانسداد لأقنية التعبير والتمثيل السياسي وانحسار للمجال العام، أن يوفر بيئة حاضنة للتطرف والانحراف ويفرز أجواء مواتية لنمو العنف والإرهاب.
فتحت وطأة ذلك الجمود السياسي، قد تلجأ بعض فصائل الإسلام السياسي التي طالما وُصفت “بالمعتدلة” لكونها تقبل بالنهج السياسي الديمقراطي وتؤمن بمدنية الدولة وحقوق المرأة والأقليات، إلى الكفر بجدوى وصدقية العمل السياسي السلمي من خلال الانخراط في العملية الديمقراطية وفقا لشروطها ومتطلباتها المتعارف عليها، ومن ثم ترتمي في أحضان تنظيمات وحركات إسلامية راديكالية متطرفة تسوق خطابا براقا وتدعي تبني مرجعية إسلامية وتزعم العمل من أجل إصلاح الدولة والمجتمع توطئة لبلوغ الدولة الإسلامية أو بناء المجتمع الإسلامي الأفضل، على شاكلة تنظيمات “القاعدة”، أو “تنظيم الدولة الإسلامية” أو “جبهة النصرة”.
وبدوره، قد لا يجد الشباب المحبط من تأميم السياسة وانحسار المجال العام إثر انسداد سبل التعبير الديمقراطي السلمي عن الرأي وجفاف روافد الفعل السياسي، بُدًّا من الانضواء تحت لواء ذات التنظيمات الراديكالية التي غالبا ما تنجح في إغرائه واستمالته عبر إتاحة الآليات والسبل التي تمكنه من تفريغ شحنات الغضب والحماس والشعور بالغبن والإقصاء والتهميش والحصار والظلم، وحينئذ يتحول العنف المقيت إلى وسيلة لكسر القيود وتحرير النفس من أغلال التهميش وربقة اليأس والقهر، بينما يغدو الإرهاب المدمر جهادا ونصرة للدين والحق والأمة.
“من شأن الإحباط الناجم عن تراجع الديمقراطية وما قد يتمخض عنه من تيبس للوسائط السياسية وانسداد لأقنية التعبير والتمثيل السياسي وانحسار للمجال العام، أن يوفر بيئة حاضنة للتطرف والانحراف ويفرز أجواء مواتية لنمو العنف والإرهاب”
وفي تقرير نشرته مجلة “شؤون خارجية” الأميركية الواسعة الانتشار بعددها الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أبدى كاتباه جينزمايور يتتازكور وصبري سفتسي دهشتهما من تنامي أعداد الأتراك المنضوين تحت لواء تنظيم الدولة وجبهة النصرة والتي قدرت بنحو ثلاثة آلاف شخص، لا سيما أن المعروف عن الأتراك عزوفهم الملفت عن الانضمام بأعداد غفيرة إلى صفوف التنظيمات الجهادية.
فبينما أفضت أجواء الاستبداد والقمع التي درج على ممارستهما الحكم العسكري العلماني في تسعينيات القرن الماضي، إلى ظهور مجموعات إسلامية عنيفة وقتذاك، وإن لم تستقطب جموعا شعبية واسعة، يبدو جليا أن تركيا اليوم تفتقر إلى الدوافع التي غالبا ما تزج بالشباب في أتون مآلٍ كهذا، مثل الشعور بالحرمان الناجم عن اتساع هوة الفوارق الاجتماعية، والافتقار إلى طبقة وسطى نشطة أو شبكات اجتماعية تمد الجسور بين الشباب المسلم والمجتمع الأوسع، أو قمع سلطات حكومية. ذلك أن عددا كبيرا من الداعشيين الأتراك ينحدرون من أسر متماسكة البنية ولحمتهم قوية بجماعاتهم، كما لم يعان هؤلاء الشباب نير قمع سلطوي شديد.
وعلى خلاف دول المنطقة، يشهد الاقتصاد التركي توسعا ملفتا انتشل عددا ضخما من الأتراك من مستنقع الفقر، حتى إن كثيرا ممن التحقوا بصفوف المجاهدين في سوريا كانوا من بين الذين تحسنت أحوالهم الاقتصادية والمعيشية.
وبعدما ارتأى الكاتبان أن تفاقم أعداد المنضمين إلى تنظيم الدولة وجبهة النصرة من الأتراك لا يتفق وصورة تركيا التي تجسد تجربة ملفتة في الديمقراطية، منذ إجرائها أول انتخابات عامة تعددية تنافسية عرفها الأتراك عام 1950، ونموذجا ملهما في التنمية الاقتصادية، أرجعا ظاهرة إقبال الأتراك على الالتحاق بصفوف مثل هذه التنظيمات الراديكالية إلى توسع رجب طيب أردوغان وحزبه في إفساح المجال لمنظمات المجتمع المدني ذات التوجه الإسلامي، والتي يتبنى بعضها أجندات متشددة أو يتواصل مع منظمات أو حركات إسلامية متطرفة.
هذا في الوقت الذي يتم فيه تقويض المؤسسات والوسائط السياسية المدنية، بالتوازي مع تنامي نهم أردوغان للاستئثار بالسلطة، واستشراء نزعاته الاستبدادية وسياساته القمعية بما انعكس سلبا على حرية الصحافة واستقلال القضاء، مع تفاقم وتيرة استخدام الأجهزة الأمنية لقمع الاحتجاجات السلمية على نحو رصدته ونددت به منظمات حقوقية ومؤسسات أوروبية وأميركية معنية بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو الأمر الذي أفرز بيئة حاضنة للتطرف وأجواء مواتية للإرهاب إلى الحد الذي أسفر عن تعرض أردوغان وحزبه لاتهامات بالتواطؤ مع تنظيم الدولة.
وكنتيجة لهذه المعطيات، إلى جانب اعتبارات أخرى تتصل بتفاقم المكون الأمني والعسكري في سياسة أنقرة حيال الاضطرابات المحلية والتحديات الأمنية الإقليمية، بدأ الدور السياسي للجيش التركي يطل برأسه من جديد بعدما أخذ يتوارى تدريجيا خلال السنوات العشر المنقضية.
وبناء عليه، شدد باحثون أتراك على أن نجاح التجربة التركية التي أثبتت أن التحولات الديمقراطية ممكنة في بلد ذي تركيبة إثنية وسياسية معقدة وخصوصية حضارية وثقافية وبنية جيوإستراتيجية فريدة مثل تركيا، يبقى مرتهنا بانتهاء ضغوط سيادة الدولة التي تمارسها هيئات غير منتخبة -كالجيش مثلا- على سيادة وإرادة الشعب المعبّر عنها بواسطة ممثليه الشرعيين المنتخبين ديمقراطيا.
ولعل احتمالات انبعاث الدور المتعاظم للجيش التركي جاءت في سياق توجه عالمي بهذا الصدد، إذ يبدو أن تفاقم التهديدات الأمنية والإستراتيجية حول العالم بشكل ملفت خلال الآونة الأخيرة بالتزامن مع عجز الدول والحكومات عن التصدي لتلك التهديدات بالآليات القانونية والسياسية التي ارتضاها العالم مرجعية ومنهاجا، قد أفضى إلى بروز اتجاه عالمي -حتى في أعتى الديمقراطيات- لعسكرة السياسة عبر زيادة المكون الأمني والعسكري في العملية السياسية، وتكريس الاعتماد على الجيوش في حفظ الأمن الداخلي ومحاربة الإرهاب.
وفي مصر، ونتيجة لحالة الانحسار التي طالت الفضاء السياسي والمجال العام مؤخرا، بدأ تنظيم الدولة يشهد إقبالا من شباب مصري محبط آثر الانضمام إلى صفوفه كملاذ من حالة الاغتراب والتيه، كما تقاطرت التغريدات والتصريحات من قبل كوادر وقيادات “داعشية” تدعو إلى انتشار التنظيم في مصر، وتحض على تنفيذ عمليات إرهابية في ربوعها واستهداف جيشها وشرطتها، حتى إن هناك تغريدات لشاب “داعشي” مصري توعد في أكثر من موضع بإعادة فتح مصر ونشر الإسلام فيها على الطريقة “الداعشية”. كما نشرت حسابات منسوبة لتنظيم الدولة على شبكات التواصل الاجتماعي صورا لشعارات مؤيدة للتنظيم على حوائط منشآت عامة وفي بعض الشوارع المصرية.
“على جميع دول العالم وخاصة الديمقراطية منها، أن تؤمن بأن أفضل وسيلة لمحاصرة الإرهاب وتقويضه هي إعمال دولة القانون التي تعزز قبول الآخر وترسخ احترام ثقافته ومعتقداته، كما تراعي القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان”
ومع تتابع ظهور الأدلة على وجود علاقات عسكرية ولوجستية وفكرية وثيقة بينه وبين تنظيم الدولة، لم يتورع تنظيم “أنصار بيت المقدس” الذي يمارس الإرهاب في سيناء المصرية ضد قوات الجيش والشرطة وكذا المدنيين، عن التنصل من مبايعته السابقة للظواهري ولتنظيم القاعدة، وإعلان بيعة جديدة يؤكد فيها الولاء لتنظيم الدولة و الاعتراف بالبغدادي خليفة للمسلمين. كما غيّر التنظيم المصري اسمه من “أنصار بيت المقدس” إلى “ولاية سيناء” التابعة للخلافة الجديدة، داعيا سائر التنظيمات الإسلامية في أفريقيا والمغرب العربي إلى أن تحذو حذوه.
وانطلاقا مما سبق، وحتى لا تغدو الديمقراطية ضحية للإرهاب، يتعين على جميع دول العالم -لاسيما الديمقراطية منها- أن تؤمن بأن أفضل وسيلة ناجعة لمحاصرة الإرهاب وتقويضه إنما تكمن في إعمال دولة القانون التي تعزز قبول الآخر وترسخ احترام ثقافته ومعتقداته، كما تراعي قيم الديمقراطية وتلتزم بمبادئ حقوق الإنسان.
فلطالما كانت الديمقراطية قادرة على تصحيح نفسها بنفسها من خلال تحري المزيد من الديمقراطية، وليس اعتماد مستويات مبالغ فيها من القمع والاستبداد والتمييز، في ظل دولة بوليسية ونظام تسلطي إقصائي ومجتمع عنصري.
وحسنًا فعل رئيس وزراء فرنسا السابق دومينيك دوفيلبان حينما عبر في مقال نشره بصحيفة “لوموند” الفرنسية يوم 9 يناير/كانون الثاني الجاري، عن استيائه من البوادر التي لاحت في الأفق لانزلاق فرنسا إلى غياهب الخروج على مبادئ وقيم الديمقراطية عقب أحداث “شارلي إيبدو” التي هزت باريس مؤخرا، بذريعة محاربة الإرهاب مثلما انزلقت الولايات المتحدة من قبل حينما سنت قانون باتريوت وشرعت في التعذيب والاعتقال التعسفي، واتبعتها في تلك الردة الديمقراطية دول غربية عديدة.
وطالب دوفيلبان الفرنسيين بضرورة عدم السماح للإرهاب بتقويض الديمقراطية الفرنسية بدعوى مواجهته، وناشدهم نبذ العنف والإقصاء والعنصرية والتمييز والاعتصام بمحاربة الإرهاب من خلال التسامح والديمقراطية.
بشير عبد الفتاح
المصدر: الجزيرة