انتقد البعض صورة غلاف العدد الأخير من مجلة “دير شبيغل”، لكن الرمز الذي تحمله الصورة خطير: التهديد الحقيقي جداً الذي يشكله الرئيس دونالد ترامب على الديمقراطية الليبرالية.
* * *
في نهاية المطاف، تكون اللامبالاة قاتلة. الفتور. الشعور بالعجز. والصمت المقرون بعدم التصرف الذي يتبع. ويشرع الناس، بمن فيهم الصحفيون، بالتفكير بأنهم لا يستطيعون فعل أي شيء عموماً. وقد أثبت هذا أنه واقع الحال في تركيا وهنغاريا، ولطالما كان واقع الحال في روسيا والصين أيضاً. فهل ستكون هذه هي الحالة في الولايات المتحدة أيضاً؟
عندما تبدأ الديمقراطية في التآكل، فإن ذلك نادراً ما يحصل بسرعة كبيرة. وبالنظر وراءً، يستطيع المرء غالباً أن يحدد اللحظة التي تصبح فيها الحالة خطيرة -عادة ما كانت انتخابات. كيف استطاعت تركيا انتخاب أردوغان، وروسيا بوتين، وهنغاريا أوربان، وكيف استطاعت أميركا اختيار دونالد ترامب بضمير مرتاح؟ عندما يقود الخطاب السياسي إلى حالة يستبدل فيها الخطاب نفسه بالديموغاجية، وعندما يتم جلت تلك الديموغاجية إلى السلطة من خلال عملية ديمقراطية، عندها يكون من الممكن أن تستبدل الديمقراطية نفسها بالأوتوقراطية.
ثم يحدث كل شيء آخر على مهل. وفي الأثناء، تواصل بعض وسائل الإعلام أحلام اليقظة، وتصبح بذلك أكثر هوساً بنعت أي شخص يحذر من التهديد بأنه مصاب بالهستيريا.
وإذن، ها نحن قد وصلنا: دونالد ترامب، رجل الأعمال المعادي للنساء والعنصري والذي أدلى بـ87 تصريحاً كاذباً أمكن التحقق منها على مدار خمسة أيام من الحملة الانتخابية، لم يعد مرشحاً. إنه يجلس الآن في البيت الأبيض. وفيما يلي ثلاث أفكار عن هذا الرئيس الأميركي الذي تولى الرئاسة منذ 20 كانون الثاني (يناير) الماضي.
• أولاً، في الأسبوعين والنصف منذ ألقى خطاب تنصيبه المنفر، أوضح ترامب أنه سيفعل ما قال إنه سيفعله: إنه يأمر ببناء سور على الحدود مع المكسيك، وهو يصدر المراسيم الكارهة للأجانب؛ وهو يضايق حلفاء أميركا والمؤسسات الدولية، ويضايق بفعله ذلك كل سياسة عالمية. وقد هدد فعلاً إيران وكوريا الشمالية. ولا يأتي من هذا كأمر مفاجئ لأنه حتى الذين صوتوا لترامب كانوا يعرفون أن المستشار ستيفن بانون هو رجل يعتبر الحروب مفيدة.
• ثانياً، يُظهر ترامب أيضاً أنه سيفعل الكثير مما لم يفصح عنه في حملته. فقد أمر العلماء بعدم إجراء أو نشر أي أبحاث عن مواضيع لا يقرها هو. وهو يقول إن التغير المناخي غير موجود، وهو يعني ذلك جدياً. ولم يحرك ساكناً عندما اخترع أحد أقرب ثقاته مصطلح “حقائق بديلة” لخلق واقع مواز. ويجلب ترامب أولاده معه إلى الاجتماعات رفيعة المستوى، ووظف زوج ابنته كمستشار في البيت الأبيض واستثنى بلداناً يدير فيها أعمالاً تجارية من حظر السفر الذي فرضه على مواطني دول ذات أغلبية إسلامية، ولم يسحب نفسه من استثمارات مقتنيات شركته، ولم ينشر ملفاته الضريبية (على الرغم من تعهده بفعل ذلك)، بل إنه جعل مستشارته كليان كونووي تدعي أن المقترعين لا يهتمون بذلك. وهو الآن يريد إبطال بعض القوانين البنكية بحيث يستطيع “أصدقاء لي” الحصول على وصول أيسر إلى الأموال. فهل يمهد الطريق للحصول على المزيد من المال وإثراء نفسه بينما هو في البيت الأبيض؟
• ثالثاً، أثبت ترامب أصلاً بعض الأشياء التي نعرفها عنه. فهو يعتبر انطباعات الناس عنه أكثر أهمية من أي شيء آخر. ولا شيء كان أكثر أهمية بالنسبة له في الأسبوعين ونصف الأسبوع منذ توليه الرئاسة من حجم الحشود التي تجمعت لحضور حفل تنصيبه. ولا يغيب عن البال أن ترامب كاذب مزمن، ويثبت هو هذه الحقيقة في تغريدة بعد أخرى على “تويتر”. ويأنف ترامب من الإعلام، (ويسميه الحزب المعارض، ويقول: “كما تعرفون، أنا في حرب متواصلة مع الإعلام”)، وكذلك مع الفرع القضائي في شكل “هذا الذي يدعى قاضي”، لأنه لم يقض بالطريقة التي أرادها حاكمه. وفي الأثناء، يدعي ترامب بأن الناس الذين يحتجون ضده “دُفع لهم”.
ليس من الغريب افتراض أنه إذا لم تتصاعد المقاومة، فإن كل هذا سيستمر.
ثمة عدد أقل وأقل من الناس يحضرون الاحتجاجات، لأن الناس بدأوا رويداً ورويداً بفقدان الاهتمام، وحيث تغلغل في أوساطهم إحساس بأن الاحتجاج بلا قوة. وسوف يتحول الإعلام إلى قضايا أكثر نعومة وأكثر ترفيهاً لأنها تتسبب بمشاكل أقل. وسوف يلاحظ الساسة الذين كانوا قد أقسموا على المقاومة أن الحياة ستكون أسهل إذا خضعوا. وسوف تحصل الشركات على عقود عندما تخنع. وسوف يصبح العديد من الناس أثرياء ويرتقون في المجتمع عندما يخنعون. وإذا لم يفعلوا، فسيراقبون كما يفعل الآخرون. وهذه هي الطريقة التي تعمل من خلالها الأوتوقراطيات -“ليس عبر الإملاء والعنف”، كما كتب ديفيد فرام في مجلة “الأتلانتيك”، وإنما من خلال “عملية إحباط المعنويات عبر الفساد والمخادعة”.
في مجلة “دير شبيغل”، حذرنا في البداية من ترامب في قصة غلاف في بداية العام 2016. ثم أتبعناها بقصة غلاف أخرى، “خمس دقائق لترامب” قبل سبعة أسابيع من الانتخابات. صحيح أننا نرتكب أخطاء، لكن الحط من قدر دونالد ترامب لم يكن واحداً من تلك الأخطاء. ويوم السبت نشرنا قصة غلاف تحمل رسماً كاريكاتورياً رسمه إيديل رودريغز، المهاجر الكوبي الذي يعيش في نيوجيرسي. وتظهر الصورة رجلاً يصرخ من دون عينين أو أنف، وإنما يمكن بسهولة التعرف عليه على أنه ترامب، والذي يحمل رأساً مقطوعة لتمثال الحرية بإحدى يديه وسيفاً مدمى باليد الأخرى. ويقول “أميركا أولاً” -وما من شيء آخر لرؤيته أو قراءته- وأي شيء آخر، كما هو الحال في كل ضروب الفن، يكون مسألة تأويل.
علقت صحيفة “الواشنطن بوست” على صورة الغلاف بقولها: “صادمة”. ووصفت المجلة السياسية “موذر جونز” الصورة بأنها “بيان ملحوظ للغاية”، كما استخدم متظاهرون صورة الغلاف على ملصقات في احتجاجات في شوارع مدن في عموم أميركا. وكتب لنا الروائي أيرين ديستشيه من نيويورك، قائلاً: “صورة الغلاف المشهودة تشكل الحلقات هنا في الولايات المتحدة وكل الناس يحبونها”. كما غمرتنا رسائل تعاطف من قراء هنا في ألمانيا وبردود تذهب نمطياً في اتجاهين -فإما أنها “رائعة” أو “هذا مرض، يجب ان تعرضوا نفسكم على طبيب نفساني”، واشتكى البعض من أن الصورة كانت قاسية جداً.
من جهته، لجأ موقع “ذي أوثوريتي لفنغ بيلد دوت دي” الإخباري لأكبر صحيفة تابلويد في ألمانيا إلى وسيلة التواصل الاجتماعي “تويتر” لينتقد بذكاء “دير شبيغل”. ولم يضيع الموقع أي كلمات على التنفير وعلى الكاريكاتير أو حرية الرأي. وادعى بدلاً من ذلك بأن “دير شبيغل” صورت ترامب كإرهابي في “داعش”، كما لو أنه كان نوعاً من منتجة الصورة. ومهد هذا التأويل المنحرف الطريق أمام موجة سريعة من الغضب. لكن ثمة زميلات أكثر جدية في الإعلام، مثل “سايدتشي زايتونغ” و”فرانكفورتر أليمانيه” كتبتا أيضاً أن “دير شبيغل” ذهبت شوطاً بعيداً جداً. فإلى أين نستطيع الذهاب من هنا؟
في “كريس”، نشرة تجارة صناعة الإعلام البارزة في ألمانيا، كتب فرانز سمرفيلد: “إذا كان ترامب حالة طارئة، فعندها تكون مهمة الإعلام قرع الجرس بأعلى صوت ممكن ومعبر تماماً، مثلما فعلت قصة علاف مجلة دير شبيغل. ومن الطبيعي أن يكون ذلك متضمناً للكاريكاتورات والأشكال الأخرى من المواجهة الصحفية”.
فماذا الذي يجب أن ننتظره بعد كل شيء؟
أن يظهر ترامب أنه يقصد العمل التجاري؟ إنه يفعل ذلك أصلاً. انتظار شروعه في أول حرب له؟
أن تتضاءل الولايات المتحدة، وأن يفقد شعبها الصبر على ترامب ويسمح لعملية بأن تبدأ والتي تصبح في نهاية المطاف غير قابلة للانعكاس؟
لم يقطع دونالد ترامب رأس شخص على غلاف “دير شبيغل”، بل قطع رأس رمز. فتمثال الحرية يعمل كرمز للحرية والديمقراطية منذ العام 1886 -وهو واحد يرحب باللاجئين والمهاجرين والمشردين والذين عصفت بهم الأنواء”، وفقاً للنقش المكتوب عليه. ويأنف دونالد ترامب من الديمقراطية الليبرالية ويهددهما، وهو يحتقر ويهدد النظام العالمي، وهو أقوى رجل على وجه البسيطة. لقد حلت بنا حالة الطوارئ أصلاً.
كلاوس برينكبومر
صحيفة الغد