تبدو مفارقةً تنطلي على الكثير من عناصر التراجيديا، حين يطالب كرد سورية بحكم لا مركزي يضمن حقوقهم ككرد سوريين عانوا أمداً طويلاً من الظلم والاضطهاد وسياسات المحو القومي، في مقابل تراجعهم عن شرط اللامركزية، ككرد سوريين، حيال الأحزاب الكردستانية المتنفّذة داخل المشهد الكردي السوري، وتحديداً حزبي العمال الكردستاني والديموقراطي الكردستاني (العراق). ما يضعهم في داخل مركزيات حزبية كردستانية تحدد لهم مآلات حالهم. والتراجيديا تكمن في فكرة تبديل المركزيات لا نيل اللامركزية!.
لحزبي العمال والديموقراطي حواضن شعبية ضاربة في تاريخ الحركة الكردية السورية. فالحزبان، فضلاً عن أحزاب كردستانية أخرى، كانا يحظيان برضا متفاوت من نظام حافظ الأسد الذي كان يجيد لعبة تصدير مشكلاته الداخلية إلى الجوار، إرباكاً لأنظمة الجوار. والأحزاب الكردستانية كانت تسعى إلى تغليب مصالحها على مصالح كرد سورية وإن بنسبٍ متفاوتةٍ بين حزب وآخر.
ذلك أن طبيعة النضال السلمي الذي خاضته الأحزاب الكردية السورية والتي تعرّضت بدورها لانقسامات كان للنظام والأحزاب الكردستانية دورٌ بالغ فيها، تختلف عن النضالات المسلحة التي خاضتها بقية الأحزاب الكردستانية الكبرى، الأمر الذي لم يمنحها سحر النضال المسلّح وقدراته على التعبئة وكسب المؤيدين. لذلك لم تسفر فكرة البعد الوطني لقضية كرد سورية عن أي شيء ملموس، في ظل غياب معارضة وطنيّة سوريّة تمنح كرد سورية الحضور والشخصية المطلوبين. فليس بخافٍ على أحد أن النظام كان سبباً في تغييب المعارضة ومحقها، وبالتالي عدم تحقق هذا الشرط، أي أنه لم تكن ثمة رافعةٌ وطنية تستطيع منح كرد سورية دوراً وحضوراً موازياً للدور الذي حظيت به الأحزاب الكردستانية داخل المشهد الكردي السوري.
مع الثورة السوريّة، وفي مهدها، أخرج النظام ما في صندوقه من أوراق لعب، وعاد إلى الاحتكام إلى سياسته الأثيرة «فرّق تسد». بدا الأمر مستحيلاً في البداية بينما الشبيبة الكردية تهتف «الشعب السوري واحد»، لكن مع الجرعات القومية الكردية والنزوع نحو خطاب الخصوصية الكردية، ومن حيث لا يدري الكرد ما يُصاغ لهم، نجح النظام في تفكيك ذلك ليُصار إلى خطاب قومي كردي منفصل عن مساره الوطني العام. ومهّد لذلك الخطاب الخشبي للمعارضة السوريّة ومبالغتها في المخاوف على وحدة سورية وسيادتها، وإصرار النظام على فكرة تحييد الكرد عن مجرى الصراع الكبير.
في صورةٍ من فوق للمشهد الكردي الحالي، يبدو الانقسام البيني كبيراً بين مجلسٍ وطني كردي مدعومٍ من الحزب الديموقراطي الكردستاني، وإدارة ذاتية تدين بالولاء والشراكة العضوية لحزب العمال الكردستاني، وهذا الانقسام لم يكن ليتعزز لولا غياب الطرف الوطني الكردي وضعفه، إذ غابت خلال السنوات القليلة الماضية الأحزاب الكردية السورية التي طالما تغنّت بالخصوصية الكردية السورية، وتمتعت بشعبية محدودة، لكن مطلوبة، للفصل بين التخوم الوطنية الكردية السورية وتلك الكردستانية.
يتهم المجلس الوطني غريمه حزب الاتحاد الديموقراطي، من خلال التظاهرات والأنشطة في الداخل والخارج، بأنه حزب «إرهابي» وغير ذلك من اتهامات، وهذا ما لا يقوله من يقف خلف المجلس الكردي، أي الديموقراطي الكردستاني وزعيمه مسعود البرزاني. لكن مثل هذا الاتهام يروق للأتراك الذين يناصبون الاتحاد الديموقراطي العداء، سيما أن المجلس يقيم علاقة شراكة مع تركيا عبر انضوائه في الائتلاف السوري المعارض. واتهامات كهذه تجعل الاتحاد الديموقراطي أكثر انفعالاً وفقداناً للتوازن في ما خص طريقة التعامل مع مخالفيه في الديار الكردية السوريّة، حيث بلغ الغيُّ أوجه حين أقدمت تنظيمات تمثل الطليعة العنفيّة للاتحاد الديموقراطي، كـ «منظمة الشبيبة الثورية» (جوانن شورشكر) على أعمال حرق وتكسير مكاتب المجلس الوطني والحزبين الديموقراطي الكردستاني- سورية، ويكيتي الكردي، وسبقت ذلك حملات اعتقال طاولت محازبي أحزاب المجلس الكردي، ثم استُصدر قرار كيديّ من الإدارة الذاتية بوجوب ترخيص الأحزاب خلال مدّة محددة، في خطوة ترمي إلى حمل الأحزاب الرافضة لإدارة الاتحاد الديموقراطية على الإذعان والخضوع لسياسة الاتحاد الديموقراطي الهادفة إلى شطب وإلغاء الأصوات المخالفة له. وقد أتى كل ذلك على هدي الخلاف والصدام بين حزبي الديموقراطي الكردستاني والعمال الكردستاني في سنجار العراقيّة.
تبدو مسألة تشكيل قطب كردي سوري مكافئ للقطبين الكردستانيين المتحكمين بتضاعيف السياسة الكردية السورية عملاً بالغ الصعوبة، في ظل غياب اتفاق سوريٍّ عام ينصف كرد سورية ومطالبهم، ويعيد رسم هويةٍ سوريّةٍ جديدة. فبين وجوب تشكيل قطب سوريّ وطني (فوق قومي) يحدُّ من شدة الانقسام الكردي – العربي الحاصل، والشعور الكردي بالامتنان والمديونية للأحزاب الكردستانية، وما يستتبعه ذلك من تَرك كرد سورية مادة قابلة للاقتسام وكأنهم إرثٌ وجب تقاسمه، يقف كرد سورية في موقفٍ قابلٍ للانفجار في كل لحظة.
ليس الوضع الكردي السوري على ما يرام، كما يتصوّره مراقبو المشهد الكرديّ والسوريّ، ذلك أنه بات رهين محبسي العلاقات الكردستانية وخلافاتها من جهة، والأزمة السوريّة من جهة أخرى، وبين الجهتين سيبقى كرد سورية متروكين بين حجري الرحى هذين!
شورش درويش
صحيفة الحياة اللندنية