لعل الدعامة المفضلة التي يتكئ عليها دونالد ترامب هذه الأيام هي الفكرة القائلة بأنه “ورث فوضى”. ولكن، مع الاحترام للحرب المتواصلة بقيادة الولايات المتحدة ضد “داعش”، فقد ورث ترامب في الحقيقة حملة تقترب من تحقيق النجاح العسكري. وكما أشرتُ وأشار كولين كاهل في مقال سابق بعنوان “حكومة الظل”، فإن “داعش” يتراجع أمام الضربات الماحقة التي وجهها إليه الجيش الأميركي بالتعاون مع شركاء الولايات المتحدة في التحالف، والشركاء العراقيين والسوريين. وقد تراجعت المعنويات والموارد والقوى العاملة والأراضي لمجموعة “الدولة الإسلامية” المعلنة ذاتياً بحدة، بحيث أصبح التنظيم يتشبث ببقايا الحياة الغالية في معاقلة المتبقية. وباستثناء بعض سوء التقدير الكارثي في السياسة الأميركية، فإن هزيمة “داعش” -على الأقل في العراق وسورية- ربما تكون مسألة وقت فقط.
مع ذلك، سوف يخلق هذا الانتصار مآزق جديدة لإدارة ترامب. وسوف تكون هناك قضايا شائكة حول طبيعة نهاية اللعبة السياسية التي يترتب تنفيذها في سورية، وما إذا كان الأمر يستدعي الإبقاء على بقايا تواجد عسكري أميركي في العراق. وعلى نطاق أوسع، سوف يكون هناك موضوع كيفية شن حرب عالمية أوسع على الإرهاب، وهو كفاح ما يزال متواصلاً منذ 15 عاماً، والذي سيشهد بالتأكيد هزيمة “داعش”. وبعد كل شيء، لن يؤذن تحرير الموصل والرقة بهزيمة المجموعات الجهادية الأخرى مثل القاعدة وفروعها، كما أنه لن يستبعد احتمال أن يتوارى عناصر “داعش” تحت الأرض ثم يعودوا إلى الظهور مرة أخرى بعد أعوام قليلة قادمة -كما سبق وحدث مع سلفه تنظيم القاعدة في العراق. ولن يحل ذلك أيضاً المشكلة مع التطرف في العالم الإسلامي. وهكذا، ثمة سؤال رئيسي يمثُل أمام ترامب: ما هي الاستراتيجية السياسية والعسكرية التي يجب على الإدارة اتباعها في النضال المتواصل ضد التنظيمات الجهادية العنيفة؟.
في مقال حديث، وفي تقرير أطول، نجيب أنا وصديقي بيتر فيفر على ذلك السؤال بعرض وتقييم الخيارات الاستراتيجية المتوفرة لدى صناع السياسة الأميركيين. ونقول إن هناك أربعة خيارات عريضة للتعامل مع الحرب العالمية الأوسع على الإرهاب بعد “داعش” -لكل منها بعض القبول، لكن كلاً منها يتطلب مسؤوليات والتزامات حقيقية -وفي بعض الحالات معيقة.
فك الاشتباك العسكري
عند إحدى النهايات، تستطيع الولايات المتحدة محاولة فك الاشتباك العسكري، والذي يتبعه بالضرورة سحب كافة القوات الأميركية -وحتى المدربين والمستشارين- من الشرق الأوسط الكبير، على أمل تجنب تلقي “الضربة الارتدادية” الأيديولوجية التي يزعم غالباً أنها تتسبب بالتهديد الجهادي. ويلقى هذا الاقتراح التفضيل لدى المنتقدين الأكاديميين للحرب العالمية الأوسع على الإرهاب. لكن هذه الأطروحة، بينما نحن نتحاجج، تبدو غير مجدية من الناحية السياسية -على ضوء المخاوف الكبيرة عند الأميركيين من الإرهاب- ومن غير المرجح أن تخفض التهديد بشكل كبير كما يحاجج مؤيدوها. ومن الممكن أن تكون النتيجة خطرة في الحقيقة: سوف تظل الولايات المتحدة في مرمى نار الجهاديين، لكنها ستكون قد قيدت يديها في القتال ضد التهديد مرة أخرى.
تصعيد الحرب العالمية على الإرهاب
في النهاية الأخرى، تستطيع أميركا اختيار تصعيد الحرب العالمية على الإرهاب –بمعنى استخدام نهج أثقل واستثمار أكبر مقارنة مع ماتم تبنيه في العراق وأفغانستان في أوج صراعاتنا هناك بعد 11/9 . ومن شأن هذه الاستراتيجية أن تتضمن القيام بعمليات عسكرية حاسمة، والتي تشمل نشر عشرات الآلاف من القوات الأميركية إذا اقتضت الحاجة من أجل إلحاق الهزيمة سريعاً بأخطر التنظيمات الإرهابية وتطهير ملاذاتها الآمنة. وبشكل قطعي، سيعني ذلك أيضاً بذل جهود مكثفة (من حقبة بوش”أجندة الحرية”) لمعالجة المسببات الجذرية من خلال تكريس الليبرالية السياسية والحكم التعددي في المجتمعات التي تنبع منها المجموعات الإرهابية. ومن الطبيعي أن تكمن المشكلة هنا في أن تنفيذ هذه الاستراتيجية بفعالية وبأي ثمن سيظل موضوعاً للتساؤل -ومن المؤكد أن التنفيذ لا يمكن أن يتم بثمن يرغب الشعب الأميركي وقادته بدفعه على مدار فترة طويلة تكفي لكي ينجح. وهكذا، قد تكون النتيجة فشلاً استراتيجياً بكلفة عالية جداً.
نهج خفيف
يترك ذلك خيارين في منتصف المسافة. الأول هو استخدام نهج خفيف. وسوف يشبه ذلك الاستراتيجية التي كانت إدارة أوباما قد اتبعتها بعد قتل أسامة بن لادن في العام 2011، وإنما قبل ظهور “داعش” بثلاثة أعوام. وسيتعمد هذا النهج على ضربات الطائرات من دون طيار والأشكال الأخرى من المسؤولية المحدودة للهجوم لاصطياد التنظيمات الإرهابية الأكثر خطورة في البر، بينما يتم بعناية تجنب أي عمليات برية كبيرة والاعتماد على الشركاء المحليين لتوفير قوات برية حيثما تكون هناك حاجة إليها. وخلال الفترة بين الأعوام 2011-14، أسفر هذا النهج عن نتائج عملية جيدة –لبعض الوقت- في أماكن مثل اليمن. ويتكلف هذا النهج خطراً عسكرياً وكلفة مالية أقل مقارنة بالحرب العالمية الأوسع على الإرهاب.
ومع ذلك، فإن المشكلة هي أن هذا النهج يعمل، حتى في أفضل الأحوال، عمل مجرد احتواء التهديد، ويتضمن بذلك شيئاً يشبه الصراع الأبدي -“حصد العشب” كما يقول الإسرائيليون. وكما يظهر انهيار العراق في العام 2014، قد لا يكون نهج الانخراط الخفيف قوياً بما يكفي للحيلولة دون تمكين التنظيمات الجهادية الأكثر خطورة من هزيمة قوات الشركاء المحليين ونحت ملاذات آمنة تستطيع فيها تعزيز قوتها والتخطيط لشن هجمات رئيسية. وهكذا، قد تقع الولايات المتحدة في نمط خطر يتدهور معه موقعها الاستراتيجي في الحرب العالمية ضد الإرهاب. وقد تجد نفسها، كما حدث في العراق وسورية منذ العام 2014 وما بعده، مجبرة على التدخل بشكل أكثر حسماً وتحت ظروف مُعاكسة أكثر من السابق.
التصدي لزوائد “داعش”
وذلك يترك الخيار النهائي، الذي نسميه التصدي لزوائد “داعش”. وكما يوحي الاسم، يمثل التصدي لزوائد داعش، وربما يتجاوز إلى حد ما حصيلة رد إدارة أوباما على “داعش” –بعبارات أخرى، مستوى الجهد الذي تم الوصول إليه في العراق وسورية بحلول العامين 2015-2016. ومن شأن هذه الطريقة الجمع بين الحملات الجوية الجسورة التي تتضمن منصات تدار بشريا أو آلياً، وغارات تشنها القوات الخاصة كجزء من جهد مستمر لا يهدف فقط إلى احتواء المجموعات الإرهابية الأكثر خطورة، وإنما أيضاً إلى دحرها وإلحاق الهزيمة العسكرية بها. وسوف يتراوح متطلب تنفيذ هذا الخيار بين 5000 و15000 جندي -أكثر من خيار النهج الخفيف، لكنه أقل بكثير من خيار التصعيد الشامل للحرب العالمية على الإرهاب- وسوف يعمل وفق قواعد الاشتباك المسموح بها والتي ستسمح للقوات بأخذ زمام المبادرة في مهمات العمل المباشر وفي دعم القوات الشريكة على حد سواء.
كما هو واقع الحال اليوم، لن تتضمن هذه الاستراتيجية جهوداً عسكرية لإعادة تشكيل المجتمعات الشرق أوسطية، ولو أنها ستتضمن انخراطاً دبلوماسياً يهدف إلى إضفاء تحسين متواضع على نوعية الحوكمة في بلدان مثل العراق. ومن حيث الجوهر، فإن التصدي لزوائد “داعش” لا يهدف إلى التعافي من المرض وحسب، وإنما إلى معالجة أسوأ أعراضه أيضاً -الملاذات الآمنة والتآمر غير المنقطع الذي يستطيع أن يفضي إلى هجمات تسفر عن خسائر عالية.
من المؤكد أن تملي هذه الاستراتيجية الكثير من الالتزامات. فهي تعرض خطر التسبب بخسائر أكبر مما يسفر عنه النهج الخفيف. وهي تتطلب كمية كبيرة من الوقت والصبر لإفراز النتائج. ولنا أن نشاهد الوتيرة البطيئة، وإنما المؤلمة للحملة المعادية لـ”داعش” منذ العام 2014. لكن هذا الخيار يمثل على الرغم من ذلك أفضل السيئ. ليست متطلبات الموارد قليلة، وإنما من المؤكد أنها قابلة للنهوض بها مالياً، إذا كانت هناك أي دلالات للحملة الراهنة -التي تكلف نحو 6.2 مليار دولار في أول 18 شهراً منها ومن المقرر أن تكلف 7 مليارات دولار أخرى للسنة المالية 2017. ولهذه الاستراتيجة أيضاً سجل في النجاح العملياتي عندما تم استخدامها بجرأة، كما حدث في عهد إدارة بوش في أفغانستان مباشرة بعد 11/9، وفي عهد إدارة أوباما ضد “داعش” منذ العام 2014. وإذا تم توظيف هذا النهج بجسارة اليوم، فإنه سيجلب قدراً كبيراً من الزخم القتالي لمهمة تدمير التنظيمات الإرهابية واجتثاث قياداتها وإدارتها الوسطى وقتل جنودها المشاة وحرمانها من الملاذات الآمنة. وأخيراً، ربما تكون هذه المقاربة هي أكثر الخيارات المتوفرة اليوم قبولاً من الناحية السياسية. وهي تتضمن القيام بعمل عسكري قوي ضد تهديد خطير، وبذلك يمكن تفنيد الاتهامات بأنكم “لم تفعلوا شيئاً” أو “فعلتم القليل جداً”، لكنها لا تتطلب تسامحاً غير قابل للإدامة سياسياً للتكاليف الاقتصادية والعسكرية الباهظة.
النقطة الرئيسة هنا -وربما قطعة الدليل الأكثر أهمية لفريق ترامب- هي أنه يجب على الولايات المتحدة أن تختار استراتيجة الحرب العالمية ضد الإرهاب بعيون مفتوحة على وسعها. من المغوي التفكير- وكثيراً ما قاد ترامب جمهوره إلى الاعتقاد- بأن هناك استراتيجية طلقة فضية سوف تسمح للولايات المتحدة بهزيمة أعدائها الجهاديين بشكل نهائي وبكلفة يمكن تحملها. لكن هذا ربما لا يكون واقع الحال.
لن تفضي الخيارات التي تمكن دفع كلفتها إلى نصر نهائي؛ فالخيارات التي تقدم الوعد بهزيمة التهديد مرة واحدة وإلى الأبد لا يمكن أن تنفذ بسعر مقبول. ولعل أفضل شيء تستطيع أي إدارة عمله هو انتهاج استراتيجة جسورة لإدارة الأعراض، استراتيجية تتطلب صبراً ومثابرة كبيرين لتحقيق نتائج مقبولة مع الوقت. وحتى التصدي لـ”داعش” وزوائده لن يتيح للولايات المتحدة بالتأكيد إعلان تحقيق النصر في الحرب العالمية على الإرهاب في أي وقت قريب –وسوف يرتكب ترامب خطأً فادحاً إذا ما اعتبر ما يلوح في الأفق عن هزيمة “داعش” فرصة ليفعل ذلك. لكن هذه الاستراتيجية هي المناسبة أكثر ما يكون للسماح للولايات المتحدة بالدفاع عن نفسها بكلفة محتملة في عصر الإرهاب الدائم.
هال براندز
صحيفة الغد