شكلت الضربة العسكرية الأميركية لمطار الشعيرات تطورا مهما على صعيد تعاطي واشنطن مع الأزمة السورية. وبدأت الأسئلة تنهال حول المدى الذي يمكن أن يبلغه التدخل الأميركي في سوريا، وهل شكلت هذه الضربة انعطافة في السياسة الأميركية؟ أم إن ما جرى لا يخرج عن حدود إدارة الأزمة ووضع قواعد جديدة؟
أسباب الضربة
من الصعوبة بمكان تحديد سبب واحد وراء السرعة الأميركية في توجيه ضربة عسكرية داخل سوريا، ومن الصعوبة بمكان أيضا الاعتقاد بأن الصور المروعة الآتية من خان شيخون كانت وراء هذه الضربة.
ولفهم حقيقة الموقف الأميركي ينبغي طرح السؤال بطريقة معاكسة، ماذا يمكن أن يحدث لو أن الولايات المتحدة تقاعست في الرد على الهجوم الكيميائي؟
الإجابة بسيطة، وهي مزيد من الفوضى على المسرح العالمي، حيث ستظهر واشنطن ضعيفة جدا وغير قادرة على اتخاذ المبادرة، الأمر الذي سيفتح المجال لقوى إقليمية في مناطقها -وتحديدا روسيا– للانخراط في مشاريعها الخاصة، دون الاهتمام بالموقف الأميركي، وهذا ما لا يمكن أن تقبل به إدارة دونالد ترمب.
ومن هنا يمكن فهم السرعة الأميركية في الرد دون انتظار لجنة تحقيق دولية -أو حتى تقارير محايدة- تحدد بالضبط الجهة التي نفذت العملية، وإن كانت معظم المؤشرات تؤكد أن النظام السوري وراء الهجوم.
“لقد أرادت واشنطن من الضربة العسكرية لمطار الشعيرات السوري تحقيق أهداف عدة، بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي يتجاوز الهدف المباشر المتمثل في معاقبة النظام السوري على استخدامه الكيميائي وإخلاله باتفاقية عام 2013”
لقد أرادت واشنطن من الضربة العسكرية تحقيق أهداف عدة، بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي يتجاوز الهدف المباشر المتمثل في معاقبة النظام السوري على استخدامه الكيميائي وإخلاله باتفاقية عام 2013، ومن تلك الأهداف:
1ـ إظهار الصلابة والحزم الأميركي ضد أية محاولة لاختراق التفاهمات الدولية التي تم التوافق عليها.
2ـ استعادة الدور الأميركي الريادي على مستوى العالم، وإعلان أن مرحلة “القيادة من الخلف” التي اتبعتها إدارة باراك أوباما قد انتهت.
3ـ إيصال رسالة إلى روسيا مفادها أن اندفاعتها في أوكرانيا وسوريا ليست ناجمة عن قوة روسية فائضة بقدر ما هي ناجمة عن انكفاءة أميركية عبرت عنها إدارة أوباما، وبالتالي فإن واشنطن لن تسمح لروسيا بالاندفاع كثيرا على الساحة الدولية.
4ـ إفهام المجتمع الدولي -وخصوصا الروس- أن الولايات المتحدة قادرة على التحرك بشكل منفرد، وأن سياسة أوباما القائمة على الإجماع الدولي لن تكون سياسة أميركية ثابتة بدءا من الآن.
وهذا هو السبب في أن واشنطن لم تنتظر نتائج مداولات مجلس الأمن، ولا عادت إلى القرار الدولي 2118 بما يمنحها من شرعية التحرك، خصوصا الفقرة 21 التي تتيح “في حالة عدم الامتثال لهذا القرار -بما يشمل نقل الأسلحة الكيميائية دون إذن، أو استخدام أي أحد للأسلحة الكيميائية في الجمهورية العربية السورية- أن يفرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة“.
بعبارة أخرى، لن تسمح واشنطن بأن تتحول الأمم المتحدة إلى منصة قانونية يتساوى فيها الجميع، وأن تكون عائقا أمام التحرك الأميركي.
5ـ إيصال رسائل ترهيب إلى أطراف أخرى مثل إيران وكوريا الشمالية، من أن ما جرى في سوريا قد يمتد إليها.
6ـ وأخيرا، تفتح الضربة العسكرية عودة الولايات المتحدة إلى الساحة السورية بعد أن كانت طرفا ثانويا في المشهدين الميداني والسياسي.
ويُعتقد أن العودة الأميركية إلى الواقع السوري ستتجاوز مسألة الكيميائي إلى تفاصيل أخرى مرتبطة ليس فقط بحجم إلقاء البراميل المتفجرة، وإنما أيضا بطبيعة سير المعارك على الأرض التي تتخطى مسألة محاربة المنظمات الإرهابية.
غموض سياسي
ربما تكون التداعيات أو مترتبات “اليوم التالي” الذي يلي الضربة العسكرية أهم بكثير من الضربة ذاتها، بمعنى هل سينتهي أثر الضربة بحدودها الجغرافية أم إن الولايات المتحدة ستحافظ على زخم الضربة لاستثماره على المستوى السياسي في الأزمة السورية؟
“رغم ارتفاع منسوب الخطاب الأميركي تجاه الأسد، فإن السياسة الأميركية لا تزال غامضة، ولا يعتقد أن تُقدم واشنطن على اتخاذ خطوات درامية حيال إسقاط النظام، وأغلب الظن أن إدارة ترمب ستعتمد سياسة خطوة.. خطوة، وتهيئة الشروط الكفيلة بإجراء التغيير السياسي المنتظر”
من الصعب الإجابة عن هذا السؤال في الوقت الحالي، فما هو واضح أن الضربة العسكرية تأتي في إطار “إدارة الأزمة” لا في إطار “حل الأزمة”، وتصريحات المسؤولين الأميركيين المتباينة توضح ذلك.
فعلى مدى اليومين اللذين أعقبا الضربة العسكرية؛ كانت تصريحات المسؤولين الأميركيين متباينة جدا، فبينما كانت تصريحات المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة نِكي هيلي ذات سقف سياسي عالٍ بقولها إنه “لا سلام مع بشار الأسد، والتوصل إلى مخرج سياسي متعذر بوجوده”، وإن “تغيير النظام في سوريا من أولويات إدارة الرئيس دونالد ترمب”.
وفي المقابل؛ كانت تصريحات وزير الخارجية ريكس تيلرسون ومستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي هاربرت ماكمستر أقل حدة، حيث ركزا على أولوية محاربة “تنظيم الدولة”. وذهب وزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس في نفس المسار، حين أكد أن “سياسة الجيش الأميركي في سوريا لم تتغير وما زالت تركز على هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية“.
لكن بعد هذه التصريحات بيومين، بدأ الخطاب السياسي للمسؤولين الأميركيين يتخذ صبغة التماسك والتماهي، فقد أعلن تيلرسون أنه “يجب تمكين الشعب السوري من اتخاذ القرار حول الأسد، وتثبيت الاستقرار للانتقال إلى الحل السياسي”.
وذهب تيلرسون عشية زيارته إلى موسكو إلى أبعد من ذلك بإعلانه أن “عهد أسرة الأسد يقترب من نهايته”، كما أعلن ماكمستر أن “هدف أميركا مزدوج: هزيمة تنظيم الدولة وإزاحة الأسد من السلطة”.
ورغم ارتفاع منسوب الخطاب الأميركي تجاه الأسد، فإن السياسة الأميركية لا تزال غامضة، ولا يعتقد أن تُقدم واشنطن على اتخاذ خطوات درامية حيال إسقاط النظام، وأغلب الظن أن إدارة ترمب ستعتمد سياسة خطوة.. خطوة، وتهيئة الشروط الكفيلة بإجراء التغيير السياسي المنتظر، مع الانتقال من مبدأ القوة الناعمة إلى مبدأ الضربات الناعمة.
أما مصير الأسد فمؤجل زمنيا لا سياسيا، بمعنى أن إزاحته من سدة الحكم وفق القاموس الأميركي تتطلب تهيئة المناخ السوري الداخلي لذلك. وهي عملية طويلة ومعقدة تبدأ أولا بالقضاء على المنظمات الإرهابية، لحصر الأزمة لاحقا بين الثنائي نظام/معارضة، وكلام ترمب واضح في هذا الشأن بتأكيده أن الوقت حان لإنهاء الحرب الأهلية في سوريا.
ويُتوقع أن تشهد جولة “جنيف 6″ المقبلة حضورا أميركيا كثيفا مقارنة بالجولتين السابقتين، حيث كانت الولايات المتحدة غائبة تماما عنهما.
سيناريوات مفتوحة
من الواضح أن روسيا وإيران لن تستسلما بسهولة، وستعملا على تمتين تحالفهما واستخدام لعبة تبادل الأدوار لمواجهة الهجمة الأميركية. وهنا ستجد واشنطن نفسها في مأزق إن لم تقدم على اتخاذ خطوات عملية في سوريا للمحافظة على الزخم العسكري والسياسي الجديدين، ومن الخيارات التي يمكن أن تتخها:
“روسيا وإيران لن تستسلما بسهولة، وستعملا على تمتين تحالفهما واستخدام لعبة تبادل الأدوار لمواجهة الهجمة الأميركية. وهنا ستجد واشنطن نفسها في مأزق إن لم تقدم على اتخاذ خطوات عملية في سوريا للمحافظة على الزخم العسكري والسياسي الجديدين”
1ـ تشكيل جبهة دولية/إقليمية لعزل روسيا سياسيا كخطوة أولى، قبيل الانتقال إلى تفعيل العقوبات الاقتصادية.
2ـ هيمنة الولايات المتحدة من خلال قواتها وقوات حلفائها على معظم الشمال السوري من أقصى الحسكة شرقا إلى أقصى محافظة الرقة غربا، مع بعض المناطق المتفرقة في الريف الشمالي لحلب، إضافة إلى منطقة “درع الفرات” الخاضعة للسيطرة التركية، والتي تشير تطورات الأحداث إلى أنها ستكون جزءا من الفلك الأميركي لا الروسي وإن بطريقة غير مباشرة.
من شأن هذه الخطوة أن تصبح الحدود الجغرافية بين سوريا وتركيا وجزء من الحدود بين سوريا والعراق بأيدي حلفاء الولايات المتحدة، مع ما تكتنزه هذه المناطق من ثروات زراعية ونفطية وغازية يمكن أن تشكل ورقة ضغط على النظام. كما أن واشنطن قد تقيم مناطق عازلة بالشمال السوري وتخضعها لترتيبات دولية.
3ـ العمل على توحيد فصائل المعارضة المسلحة، وإن كان الهدف أولا محاربة المنظمات الإرهابية. وقد بدأت واشنطن عمليا هذه الخطوة قبل نحو أسبوعين، وسيتطلب هذا الأمر الانفتاح أكثر على تركيا، حيث هي الدولة الوحيدة التي تملك القدرة على دفع عملية التوحيد قدما إلى الأمام.
وفي حال نجحت عملية توحيد فصائل المعارضة السورية، فسينشأ واقع جديد لم تعرفه السنوات الماضية، حيث سيتشكل لأول مرة ما يمكن تسميته كتلة عسكرية معارضة ووطنية تكون قادرة على إحداث الفرق.
4ـ محاولة تفعيل الجبهة الجنوبية عبر التنسيق مع الأردن وإسرائيل بغية فصل العاصمة دمشق عن درعا، عبر إقامة منطقة آمنة لا تخلو من سمة عسكرية. ولا ينفصل إصرار الفصائل الجنوبية على الاستمرار في خوض معركة حي المنشية عن خطة إقامة المنطقة الآمنة.
والغرض من فتح معركة الجنوب تحقيق هدفين: الأول، تثبيت وتقوية فصائل المعارضة في مواجهة قوات النظام. والثاني، القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية” في المناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية من سوريا.
وفي حال نجحت واشنطن في تحقيق هذه الخطوات، فإنها ستخلق وقائع عسكرية على الأرض في الشمال والجنوب السوري، مما يسمح لها بممارسة ضغوط كبيرة على النظام السوري، والانتقال إلى تنفيذ خطوات عملية على الأرض. وستساعدها في ذلك مناطق هيمنتها الشاسعة في الشمال والجنوب، إن رفض النظام وروسيا المضي قدما في الحل السياسي.
حسين عبدالعزيز
الجزيرة