كشفت وكالة بلومبرغ الأمريكية، أمس الخميس، أن الولايات المتحدة والسعودية تقتربان من «إبرام اتفاق تاريخي» سيوفر للمملكة ضمانات أمنية، وهو تطور جديد يمكن اعتباره «خطة بديلة» عن المشاريع الأمريكية السابقة التي كانت تسعى لاستخدام تلك الضمانات الأمنية كشرط تلتزم الرياض مقابله بالتطبيع مع تل أبيب.
معنى هذه التوقعات هو أن القيادة السعودية، عبر توظيف الأوضاع السياسية الجارية في المنطقة، قد نجحت في تغيير الشروط الأمريكية – الإسرائيلية السابقة واستبدالها بشروط تعمل في صالحها فتستثني عبرها دولة الاحتلال بجعلها الصفقة ثنائية بين الرياض وواشنطن، لا ثلاثية تضم إسرائيل.
من المتوقع أن يحصل هذا التطور (إذا حصل) خلال أسابيع، وبغض النظر عن نجاح هذه الخطط أو فشلها فالوقائع تقول إن ثلاثة عناصر ساهمت في جعله ممكنا.
الأول، هو الحرب الهمجية التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة، والفلسطينيين عموما.
مسّت هذه الحرب استراتيجيات أمريكا السياسية والحربية بشكل كبير فاعتبرتها القيادة الأمريكية أولوية تفوق أهمية الحرب الروسية على أوكرانيا، ومن ثم فقد سارعت، إثر اندلاعها، في العمل على ضبط تداعياتها الإقليمية الجسيمة المحتملة. تصاعد حشد الأساطيل الأمريكية في البحرين المتوسط والأحمر إلى حد غير مسبوق، وكان لهذه الأساطيل دور كبير في صد الهجمة الإيرانية بالصواريخ والمسيرات على إسرائيل، كما في المشاركة المستمرة في محاولات صد هجمات الحوثيين في اليمن، وفي رصد وإسناد القوات الإسرائيلية في هجماتها على لبنان وسوريا والعراق.
مسّت هذه الحرب أيضا السعودية بشكل مباشر، فبعد تقاربها الشهير مع إيران، وسيرهما في طريق إنهاء الصراع في اليمن، والاتجاه، في الوقت نفسه، إلى تقبّل المقترحات الأمريكية لحدوث تطبيع مع إسرائيل، تناثرت الأوراق السياسية والعسكرية والخطط سواء مع إيران أو مع إسرائيل، وخلقت حرب غزة، والمواجهة الإيرانية ـ الإسرائيلية، حسابات جديدة للرياض.
تضاربت حسابات الحقل والبيدر في الاتجاهين، ووجدت إدارة الرئيس جو بايدن، أن الطريق التي سلكتها، والتي تتابع فيها عمليا ما فعلته إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، من فرض التطبيع على دول المنطقة من دون حساب للشعب الفلسطيني، كانت أحد أهم الأسباب التي دفعت المنطقة للانفجار بالشكل الذي نراه الآن.
العنصر الثاني، هو الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، والتي تدخلها إدارة بايدن وهي في وضع حرج يحتاج إلى إنجازات دبلوماسية مهمة تستطيع الاستعانة بها لتوسيع الفارق مع المرشح الجمهوري ترامب. منع التعنّت الإسرائيلي «البيت الأبيض» حتى الآن، من إنجاز اتفاق يوقف إطلاق النار ويطلق الرهائن، وأضعف كذلك، أوراقها، التي كانت تستخدمها لإقناع الرياض بالانضمام إلى «الركب الإبراهيمي» الذي بدا، خلال العدوان الإسرائيلي، في أضعف أحواله، وانكشف تسرعه وتهالكه على التطبيع من أجل التطبيع.
ساهمت الاحتجاجات الطلابية التي انطلقت في الجامعات الأمريكية، بدورها، في إظهار امتداد آثار الإبادة الجماعية الجارية في غزة على الجسم الطلابي، مما انعكس مشاهد فظيعة من هجمات الشرطة، ومؤيدي إسرائيل، على المحتجين، وهي وقائع تسهم في تآكل الديمقراطية الأمريكية، وفي كشف العلاقة البائسة بين المؤسسة السياسية الأمريكية وإسرائيل.
العنصر الثالث، هو القلق الأمريكي من نجاح الهجمات الروسية في أوكرانيا، وكذلك محاولة احتواء الصين، والتصاعد في الحملة الأممية، («الجنائية الدولية» و«محكمة العدل الدولية» ومؤسسات الأمم المتحدة) والدولية، ضد إسرائيل، والتي كان آخرها إعلان كولومبيا قطع العلاقات مع إسرائيل. تشير هذه الوقائع كلها إلى اتساع الخرق (الإسرائيلي) على الراقع (الأمريكي) والإحساس المتزايد، حتى داخل وسط حكومة الإرهاب الإسرائيلية، بأن الكفّة لا تميل في اتجاه تل أبيب.
تحقق هذا الاتفاق، بناء على السياقات الآنفة، سيشكل ضغطا على إسرائيل، وهو ما لمسناه أمس عبر حديث الإعلام العبري عن دراسة الحكومة الإسرائيلية لخيارات بدل اجتياح رفح، والحديث المتزايد ضمن الأوساط الإسرائيلية عن أن الرياض أهم من رفح.
سيشكل الأمر أيضا ضغطا على إيران، بالضرورة، فالاتفاق الأمريكي ـ السعودي سينتج وضعا سياسيا وعسكريا جديدا في المنطقة، ما كان ممكنا لولا حرب غزة، والمواجهة الإيرانية ـ الإسرائيلية الأولى، وسيؤدي هذا الوضع إلى معادلات جديدة في اليمن والخليج العربي ستنعكس على المنطقة.