مع تصاعد الحملة العسكرية لاستعادة مدينة الرقة السورية من “داعش” بوصول القوات الأميركية إلى سورية، ومع بلوغ المعركة الدائرة لاستعادة مدينة الموصل العراقية مراحلها الأخيرة، أصبح تفكيك “خلافة” مجموعة “داعش” المعلنة ذاتياً وشيكاً. وفي هذه الفترة التي تسبق فصل “داعش” الختامي، ما يزال يُكتب الكثير عما سيبدو عليه كل من العراق وسورية في أعقاب ذهاب حكم المجموعة الجهادية المتشددة. ومع ذلك، وفيما عدا النقاش الدائر حول الشتات الإرهابي الذي سيهبط على الولايات المتحدة وأوروبا مع عودة الآلاف من المقاتلين الأجانب إلى أوطانهم، توجه القليل من الانتباه إلى الطموحات المستقبلية في الأراضي بالنسبة للنواة المركزية لـ”داعش”. وفي أيلول 2014، في أوج قوة “داعش”، شكل العراقيون والسوريون المحليون 90 و70 في المائة على التوالي من الكوادر العسكرية للتنظيم في دولته الإسلامية المعلنة ذاتياً. ولكن، عندما تسقط الخلافة، ما هو المكان الذي سيختاره هذا الجزء المركزي من المقاتلين –المنبوذين لدى مجتمعاتهم الأساسية، والماهرين في الصنعة العسكرية والأيديولوجية للمنظمة الجهادية، ليكون مسرحهم التالي؟
قد يكون من المغري إثارة هذا السؤال من منظور عسكري فقط -خاصة على ضوء تعزيز الرئيس ترامب موازنة الدفاع الأميركية بعدة مليارات من الدولارات. لكن فهماً للبنية التحتية الأيديولوجية لتنظيم “داعش” يمكن أن يوفر دليلاً إرشادياً أكثر دقة. والملاحظ أن الوكالات الأميركية المختلفة غالباً ما تقوم بتحليل المعتقدات الأيديولوجية والنشاط العسكري لمجموعة “داعش” على نحو منفصل، وترشد جهود نزع التطرف التي تستهدف الأيديولوجية والنشاط العسكري طبيعة الرد الأميركي في ميدان المعركة. ومع ذلك، فإن قراءة أقرب لبيان “داعش” المؤثر تظهر أن هذه الطريقة المنفصلة عن الآخرين قد تفضي إلى تضليل توجيه الحملة الأميركية الأوسع ضد الإرهاب. وسوف يساعد إقران المعتقدات الرئيسية لأيديولوجية “داعش” مع النشاطات العسكرية السابقة للمجموعة في التوصل إلى فهم أفضل للأهداف العملية للتنظيم ولاختياره الأيديولوجي للأهداف، وللتكتيكات التي يستخدمها لضمان استمراريته. وباستخدام هذه العوامل الثلاثة في محاولة التنبؤ بالبلد الذي سيتخذه “داعش” مكاناً لغزوه التالي، تظهر أفغانستان كهدف جذاب يمكن الاحتفاظ به والدفاع عنه.
إدارة التوحش
في حين أنه غير معروف نسبياً للعالم الغربي، ثمة كتيب يدعى “إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة”، والذي يتبناه العديد من قادة “داعش” “كجزء من منهاج التنظيم” كان قد نشر على شبكة الإنترنت في العام 2004 باسم المؤلف المستعار، أبو بكر ناجي. وكان كتيب إدارة التوحش قد وضع أصلاً لتنظيم القاعدة، لكن زعيمه، أيمن الظواهري، رفضه لأنه متطرف جداً. وتتناغم استراتيجيته مع الجذور البعثية لكبار قادة “داعش”، كما أنه أصبح لاحقاً مصدراً إرشادياً لحملة التنظيم لتعزيز العالم الإسلامي إقليمياً وأيديولوجياً.
كتيب إدارة التوحش مدهش لأنه يمثل خطة عسكرية شاملة أكثر مما يطرح أيديولوجية إسلامية محددة: فهو يبين سلسلة من الحملات العسكرية مع الهدف النهائي الكامن في استعادة الخلافة وتأسيس الدولة الإسلامية. أولاً، في “شوكة النكاية والإنهاك”، يخبر ناجي المتشددين بكيفية استنزاف الدولة المختارة والإطاحة بالسلطات الحاكمة، وخلق التوحش والفوضى العارمة، من أجل إجبار المجتمع المستهدف على المعاناة بسبب غياب الأمن. ثانياً، تصف “مرحلة إدارة التوحش”، أي إدارة المتشددين للمناطق الوحشية، التي إذا نجحت، فستمكنهم من تعزيز السيطرة على كل المنطقة التي غزوها.
استراتيجية حملة “داعش” تطبق في أفغانستان
تعتبر أفغانستان هدفاً مناسباً لأن هدف المرحلة الأولى من “النكاية والإنهاك” للدولة قد أنجزه أصلاً لاعبون محليون. فطالبان في طور الانبعاث في أفغانستان، كما أن التواجد العسكري الأجنبي دائم، لكنه متذبذب. وعلى هذه الخلفية، تسبب العنف السياسي والفساد والاقتصاد الراكد في انهيار الفضاء السياسي في أفغانستان. وفي عين “داعش”، يجعل هذا الوضع من أفغانستان هدفاً عملياتياً سهلاً، لأن افتقار البلد إلى الديمقراطية والأمن يساعد “داعش” على مفاقمة الانقسامات المجتمعية الموجودة. وكان فرع “داعش” في أفغانستان، الذي يعرف باسم “إمارة خراسان”، قد مارس بنجاح تكتيكه في كسب أراضٍ في سبع محافظات أفغانية على الأقل. ومن المهم الإشارة إلى أنه على نحو مشابه لتكتيكات “داعش” القائمة على الاستيلاء على منطقة ذات مغزى تاريخي على النحو الذي يقوض سيادة حدود الدولة في العراق وسورية، حيث تدّعي إمارة خراسان سيادتها على “منطقة تاريخية تضم أجزاء من أفغانستان وباكستان الزمن الحاضر”. وبتحديد الأراضي استناداً لأهميتها التاريخية بالنسبة للإسلام، على عكس حدود الدولة-الأمة، يتعزز هدف “داعش” المتمثل في نزع الشرعية عن مؤسسات أفغانستان وزرع البذور لاستيلاء مخطط له تنفذه نواة “داعش” المركزية.
ثانياً، تعكس إدارة التوحش، بالإضافة إلى سجل “داعش” من الهجمات في جميع أنحاء العالم، سعي المجموعة إلى القضاء على ما تعتبرهم مسلمين مرتدين، بالإضافة إلى الكفار الأجانب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن القوات الأجنبية في أفغانستان، التي نشرها حلف الناتو والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وأستراليا، تظل تشكل هدفاً مطلوباً لانتقام “داعش” ممن يعتبرهم كفاراً. وبالإضافة إلى ذلك، ومثل طالبان، ينظر “داعش” إلى الكثير من أفغانستان على أنه خاضع لاحتلال مسلمين مرتدين، في ضوء تركيز حكومة البلد المتجدد على التعليم -وخاصة تعليم النساء- في بدايات الألفية الثالثة. ويتعزز سرد الردة بحقيقة أن الانتماءات العرقية والقبلية تشكل الهوية الأفغانية بشكل أكثر عمقاً مما يشكله انتماؤها للإسلام. وهكذا، فإن دور أفغانستان كمضيف لمن يدعون بالمرتدين يجعلها مسرحا جذاباً لـ”داعش” لكي يستهدف كل المجموعات العدوة في ميدان معركة واحد.
أخيراً، وبالنظر إلى احتواء المناطق التي سيطر عليها “داعش” من الناحية الفعلية على أتباع ووكلاء متعاطفين معه فيها -مصر وليبيا وباكستان- فإنه فعل ذلك لأنه استوعب المتشددين الإسلامويين المحليين الموجودين في صفوفه. وفي أفغانستان، تبنى “إمارة خراسان” أصلاً على الصراعات التاريخية بين الفصائل الإسلامية والقبلية. وبينما يتنافس مع طالبان —التي تستفيد من جذورها الديوباندية والباشتونية من السكان المحليين- استغل “داعش” المعاناة الشخصية والفصائلية في داخل الشبكات المتشددة القائمة، بالإضافة إلى استخدام الرشوة، للحث على الانشقاق. وكان قائد طالبان السابق ومعتقل خليج غوانتنامو، عبد الرؤوف عليزا، قد انشق عن طالبان وأصبح نائب قائد إمارة خراسان. وبالإضافة إلى ذلك، انشق العديد من القادة والمسؤولين علناً عن طالبان باكستان وأعلنوا الولاء لإمارة خراسان. ومن خلال استيعاب أعضاء طالبان وغيرهم من المتشددين الإسلامويين في صفوفه، زاد “داعش” من رأسماله البشري بينما يكتسب ناشطين على دراية بالتواريخ والجغرافيات والبيئات المجتمعية والسياسية الفريدة لأفغانستان وباكستان. ومما يستدعي الملاحظة أن هذه الطريقة تجسد قدرة “داعش” في “الإشراف على وإدارة التوحش”.
بينما لا نستطيع معرفة ما إذا كان “داعش” سيحاول صناعة خلافة أخرى بعد سقوط العراق وسورية من قبضته، فإن ترويج التنظيم للسيطرة الأرض كمكون مركزي من ماركته يجعل من المرجح أن يحاول “داعش” على الأقل إعادة الادعاء بأنها هبة له من الله. وعلى ضوء أن المجموعة الدولية عمي عليها بمفهوم الخلافة الأولى لـ”داعش”، يجب على الولايات المتحدة والحالة هذه أن تعول على أيديولوجية “داعش” فيما هو أكثر من معركة خطابية حول مصطلحات الإرهاب. ومن خلال توسيع التكتيكات المبينة في “إدارة التوحش” إلى ميدان المعركة، ربما تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها الحيلولة دون أن تصبح أفغانستان هي “الدولة الإسلامية” التالية.
جاكلين سذرلاند
صحيفة الغد