على خلاف معظم البرامج التلفزيونية المتصدية لمعركة تحرير الموصل من «داعش»، تكرس قناة «آر تي»، الفرنسية- الألمانية، برنامجاً وثائقياً لأطفال المدينة، تستقصي من خلاله أحوالهم وما تركته تجربة وجودهم خلال عامين تقريباً تحت حكمها. ولا يكتفي الوثائقي بذلك، بل يستغل فرصة خلاص بعضهم بلجوئهم مع أهلهم إلى معسكرات موقتة، معظمها تحت إشراف إقليم كردستان العراق، لمعاينة الآثار النفسية المدمرة التي ما زالوا يعانون منها وما هي المساعدات المقدمة لهم للتخفيف منها.
ينطلق البرنامج التلفزيوني «العراق: أطفال في الموصل» من اللحظة التي بدأت عائلات موصلية التوجه إلى المعسكرات بعد انطلاق عمليات تحرير الموصل نهاية العام الفائت. الفوضى كانت سائدة في مخيم «أسنانشان» والشكوى من قلة الطعام وسوء توزيعه غلبت على أحاديث الوافدين إليه مع فريق العمل التلفزيوني. والغريب أن موظفيها شاطروهم شكواهم، فالأوضاع فيه سيئة حقاً، بخاصة للواصلين إليه مباشرة من المناطق القريبة من خطوط القتال. وبعضهم لم يذق، بسبب شدتها، الطعام منذ أيام. ولأنه عني بالأطفال بالدرجة الرئيسة فقد توجه لسؤال بعض الناجين منهم عما يحس به؟ بدأوا بالحديث عن المشاهد المخيفة التي وقعت أمام أعينهم والخوف المتبقي في نفوسهم من احتمال إعادة «داعش» لهم ثانية إلى الأمكنة التي هربوا منها. أحدهم وعمره 12 عاماً وصف لمعد البرنامج عملية قطع الرؤوس بالسكاكين بالتفصيل الدقيق وبعد الانتهاء من كلامه أجهش بالبكاء! آخرون نقلوا له الطريقة التي أخذوا فيها «الدواعش» أهلهم وما زالوا غائبين حتى اللحظة لا يعرفون عنهم شيئاً. فيما عرضت سيدة «حجة وفاة» صادرة من التنظيم تؤكد وفاة زوجها وحين سألتهم عن مكانه قالوا لها: «اذهبي وابحثي عنه في المقابر الجماعية بين الجثث».
كل كلام الأطفال انصب حول الخوف من «داعش» ومن المشاهد المرعبة التي ما زالت راسخة في أذهانهم. وكثيرون منهم يعانون من أرق دائم بسببها. شهادات أولياء أمورهم كلها تقريباً اتفقت على ظهور أعراض مشابهة عند أطفالهم مثل؛ صراخهم أثناء نومهم والركون إلى الصمت خلال النهار مع ميل شديد للعزلة وقلة تركيز واضحة. يصف الأطباء النفسيون المتطوعون تلك الأعراض بـ «حالة ما بعد الصدمة»، ويؤكدون أن نحو خمس الأطفال الهاربين من مدينة الموصل مصابون بها وهم بحاجة لرعاية نفسية جيدة لا يتوافر المعسكر عليها.
في معسكر باهركا القريب من مدينة أربيل يوجد مركز نفسي يشتكي من قلة الأطباء، ومع ذلك يستقبل حالات كثيرة يعاني أصحابها من مشكلات نفسية سببها ممارسات «الدواعش» البشعة وخسارتهم لأهلهم وأصدقائهم، أو لتعرضهم شخصياً لممارسات عنيفة مثل الضرب على الرأس أو التخويف والتهديد بالقتل.
يشخص الأطباء الحالات لكنهم يعجزون عن معالجتها لتشعب وتعقيد أسبابها. فمن بين ما أشار إليه النفساني عميد قادر طه تعرض «الأمهات» إلى هزات نفسية شديدة، وكثيرات منهن يعانين من غياب الزوج ويجدن أنفسهن في وضع نفسي صعب ينعكس على أطفالهن سلباً». واحدة من الأمهات وخلال وجودها في عيادته سردت قصتها: «نحن عائلة مسيحية أخذونا الدواعش وساوموا زوجي بين إطلاق سراحنا أو إشهار إسلامه. طلب مني زوجي أخذ الأطفال ومن وقتها لم أعرف شيئاً عن مصيره». وعن آثار ما تعرضت له تتابع: «لا أستطيع السيطرة على مشاعري، فالحزن والقلق يدفعاني لضرب أولادي».
من تجاربهم لاحظ الأطباء انسحاب أطفال الموصل إلى دواخلهم وخوفهم من البوح حتى أمامهم، لهذا يستعينون بأولياء أمورهم لتشجيعهم على الكلام. ومن أجل ذلك تنشط بعض المنظمات المدنية لخلق بيئة نفسية ملائمة للأطفال بإمكانات بسيطة مثل تلك التي تقدمها منظمة «أمل» في أربيل. في عمارة سكنية من طوابق عدة، أوت المنظمة 60 عائلة موصلية وخصصت مساحات من الأرض المحيطة بها لإقامة «حدائق» يلعب أطفالهم فيها. في تجربة أخرى يشرف عليها راهب مسيحي يحاول توفير إمكانات أفضل للأطفال في مركزه ويراهن على عامل الزمن لتخليصهم من عقدهم النفسية، فقد لاحظ أن إشغال الأطفال باللعب يخفف حدة سلوكهم بالتدريج وبدلاً من «العدوانية» يميلون للصداقة في ما بينهم. لكن هذا لا يكفي برأيه لشفائهم تماماً من أمراضهم، التي بحاجة إلى اختصاصيين نفسيين يعرفون الأساليب الصحيحة لمعالجتها.
يشهد مخيم ديباني تجربة «الباص الصحي» حيث يأتي النفسانيون ويقابلون فيه الأطفال خلال فترات متباعدة، لكنهم وعلى بساطتها يجدونها نافعة، فمن خلالها يمكن إقناع الأطفال الخائفين من زيارة المستشفيات للدخول إليها والحديث مباشرة مع العاملين فيها. المدارس واحدة من المشكلات الجدية التي تواجه أطفال الموصل لا لصعوبة دخولهم إليها فحسب، بل لميلهم إلى الانعزال والاكتفاء بالبقاء في الخيم الموقتة وتجنب تذكر تجربة «الدورات الشرعية». يحكي طالب كيف يميز الدواعش طلابهم عن غيرهم بتسليحهم ومنحهم «هواتف خليوية» يترفعون على أقرانهم بها ويركزون حديثهم فقط حول «الشهادة» و «المفخخات»، ما يعني وجود شريحة واسعة من أطفال الموصل شوهت وغسلت أدمغتها وبالتالي فعلاجها النفسي ليس سهلاً في ظل نقص الخدمات الطبية. فعدد الأطباء النفسيين الموجودين في المخيمات لا يزيد على عشرين طبيباً فيما يتوقع أن تزداد أعداد المهجرين إلى مليوني شخص بينهم عشرات آلاف من الأطفال المحتاجين لرعاية نفسية عاجلة لا تتوافر في المعسكرات ولا في المدن القريبة منها، وبالتالي سيجبرون على التعايش مع آلامهم طويلاً.
قيس قاسم
صحيفة الحياة اللندنية