يوم الثاني من أيار (مايو)، مخرت المجموعة الضاربة لحاملة طائرات أميركية عباب المياه قبالة شبه الجزيرة الكورية، على أساس توقع احتمال أن تجري كوريا الشمالية تجربة نووية سادسة في وقت قريب. وكان وكلاء الدعاية في بيونغ يانغ مستعدين بنبوءة رؤيوية مروعة. وحذرت صحيفة “رودونغ سينمون” الناطقة بالإنجليزية، والتي تعتبر الصحيفة الرسمية للجنة المركزية لحزب العمال الكوري الشمالي، من أن “هجماتنا النووية الوقائية لن تجلب للمستفزين سوى التداعيات المأساوية”. وأضافت الصحيفة: “سوف يتم إغراق كوريا الجنوبية في بحر من النار، وسوف تتحول اليابان إلى رماد، وسوف تنهار الولايات المتحدة”.
ويوم 14 أيار (مايو)، أجرت بيونغ يانغ اختبارا لإطلاق صاروخ في مسار عال جدا، والذي حلّق لمدة نصف ساعة قبل أن يغوص في المياه بين كوريا الشمالية واليابان. لكن كوريا الجنوبية لم يحاصرها بحر من النار؛ وظلت اليابان والولايات المتحدة متماسكتين جدا لم يمسسهما شيء. ومع ذلك، أكدت حقيقة إجراء تجربة الصاروخ بعد أيام قليلة وحسب من تنصيب الجنوب لرئيس جديد، مون جاو – إن، الذي كان قد تعهد بالانخراط مع الشمال، أكدت دافع بيونغ يانغ إلى الاستفزاز. وأشر هذا الاختبار الجديد على تصعيد في التهديدات الشمالية، وهو شيء عادة ما يتجلى في الكلمات وحسب. وفي الشهر الماضي، كانت وكالة الأنباء المركزية الكورية الرسمية قد ردت على التمارين البحرية للولايات المتحدة وكوريا الجنوبية من خلال توجيه الغضب إلى “القوات الأميركية الإمبريالية المعتدية ومهووسي الحروب في الجيش الكوري الجنوبي”. ويوم 27 نيسان (أبريل) الماضي، عرض موقع إلكتروني تديره كوريا الشمالية شريط فيديو لمدة دقيقتين ونصف الدقيقة، والذي يعرض هدفا عسكريا يسقط على البيت الأبيض، وألسنة النار وهي تحاصر مبنى الكابيتول هيل (الكونغرس).
وفق المعايير الكورية الشمالية، فإن هذه الحملة الدعائية الأخيرة لم تكن استثنائية ولا حربية على نحو خاص. ففي العام 2014، نقل مقال للوكالة الكورية الشمالية عن شخص عرفه بأنه عامل صلب كوري شمالي وصفه لباراك أوباما بأنه “قرد أسود شرير”. وشبهت قصة أخرى الرئيسة الكورية الجنوبية التي خلعت من الرئاسة مؤخرا، بارك غوين-هيه، والتي كانت قد اتخذت خطا متشددا من الشمال بأنها “عاهرة شريرة تخدم الولايات المتحدة”. ووصف رئيس كوري جنوبي محافظ آخر، لي ميونغ –باك، بأنه “يبلل وجهه العرق والمخاط والدموع”. (ولم تنتقد الوكالة الكورية الشمالية مون جا-إن، الذي فاز في الانتخابات الرئاسية التي جرت في كوريا الجنوبية يوم 9 أيار (مايو) الحالي، ربما بسبب موقفه الأقل تشددا تجاه الشمال). وإذا كان ثمة شيء، فهو أن قياصرة بيونغ يانغ الدعائيين يعرفون كيفية استغلال نعمة قاموس المترادفات.
ظل خطاب كوريا الشمالية يتخذ نهجا حربيا عدوانيا منذ عقود، في تذكير بأنه حتى لو أن الشمال والجنوب ألقيا أسلحتهما بعد الهدنة بينهما في العام 1953، فإنهما لم تتوصلا إلى معاهدة سلام دائم بينهما أبدا. وربما يكون دونالد ترامب قد حذر في مقابلة مع وكالة “رويترز” للأنباء يوم 27 نيسان (أبريل) الماضي من احتمال نشوب “صراع رئيسي مع كوريا الشمالية”، لكن الحرب، من وجهة نظر جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية، لم تتوقف في أي وقت من الأوقات. وفي هجوم جديد ضمه تعليق في الثامن من أيار (مايو) لصحيفة رودونغ سينمون، اتهم ترامب و”عصبته” بانتهاج سياسة “معادية” لكوريا الشمالية، والتي تعكس “شخصية غبية ووحشية”. ومع استخدام رئيس كوريا الجنوبية الجديد نبرة تصالحية في خطاب تنصيبه يوم 10 أيار (مايو) -حتى أنه أعرب عن رغبة في زيارة بيونغ يانغ- فقد حاولت صحيفة رودونغ سينمون تخريب العلاقة الأميركية الكورية الجنوبية. وتنبأ مقال افتتاحي للصحيفة الناطقة بالانكليزية يوم 11 أيار (مايو) بأن “الولايات المتحدة سوف تهرب من كوريا الجنوبية بعد إشعال حرب نووية في شبه الجزيرة الكورية”. وأضاف المقال: “هذه هي النية الشريرة للصوت الأميركي العالي عن “التحالف الصلب” مع كوريا الجنوبية”.
تمكن قراءة تعقيد رسالة كوريا الشمالية المتداخلة أيضا كاستراتيجية تطورية مشابهة للقنفذ الذي يظهر شوكه لحماية جسده من جهة أسفل البطن. وقال لي أندريه لانكوف، أستاذ الدراسات الكورية في جامعة كوكمين في سيئول: “حتى مع برنامجها النووي، فإن كوريا الشمالية هي بلد ضعيف يتوافر على معدات عفا عليها الزمن وعدد سكان قليل جداً”. وأضاف: “لعل البطاقة الوحيدة التي يتوافرون عليها هي الظهور بمظهر الكيان غير العاقل الذي لا يمكن التنبؤ بأفعاله. وعندما يقولون أنهم سوف يزيلون كوريا الجنوبية والولايات المتحدة عن الخريطة، فإن هذه الدعاية تعطي صورة عن متعصبين مجانين يستطيعون فعل أي شيء. وهم يريدون من العالم أن يصدق هذه الصورة”. وفي حرب غير متكافئة، فإن الدعاية الحربية -ناهيك عن الصواريخ البالستية التي تحمل رؤوسا نووية والتي قد تصل في يوم من الأيام إلى أرض الولايات المتحدة- تعتبر أداة مفيدة.
تعلم الكوريون الشماليون فن الخداع من السوفيات، الذين وفروا سوية مع الصينيين، المنفى والدعم الأيديولوجي لكيم إيل سونغ ، مؤسس السلالة الحاكمة التي حكمت كوريا الشمالية لثلاثة أجيال. ويقول لانكوف الذي نشأ في الاتحاد السوفياتي ودرس في جامعة كيم إيل سونغ في بيونغ يانغ، أنه من السهل غالبا ترجمة الدعاية الكورية الشمالية إلى الروسية، لأن العديد من المصطلحات كانت قد حُولت من الروسية إلى الكورية كلمة كلمة، مع القليل من الاعتبار للقواعد النحوية الكورية أو النظام اللغوي هناك.
بعد أن دعم السوفيات والصينيون محاولة انقلابية فاشلة ضد كيم في العام 1956، نأى النظام الكوري الشمالي بنفسه عن مرشديه وحاول تشكيل نفسه كقوة ثالثة في الاشتراكية. ولم تكن محاولة التأثير على الحركة الاشتراكية العالمية ناجحة كما يمكن أن يبدو اليوم. وقد استمر الكوريون الشماليون في بناء صروح اشتراكية واقعية حول العالم، مثل متحف ذكرى الاستقلال في ناميبيا، وصرح النهضة الإفريقية في السنغال، إلى أن شرعت العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة في جعل هذه المشروعات ضارة خلال الأعوام القليلة الماضية.
عملت عقود من قيادة الاقتصاد المخطط مركزيا على تحويل كوريا الشمالية إلى أفقر بلد في آسيا، والذي انحرفت مسيرته باتجاه الداخل. وقال لي بيتر وورد، عالم الاجتماع في جامعة سيئول الوطنية الذي درس الدعاية الكورية الشمالية: “إنك تقرأ دعايتهم منذ ستينيات القرن الماضي، عندما كانوا مهتمين بالثورة العالمية وحركات الحقوق المدنية، وترى غناها بالتفاصيل عن العالم الخارجي. لكنهم لم يعودوا يعرفون مع حلول الثمانينيات من القرن الماضي أي شيء عن العالم الخارجي. من المحبط أن ترى مقدار جهلهم”. وبدلا من ذلك، عمدت كوريا الشمالية إلى صقل وتلميع ثقافة لعبادة الشخصية، والتي مجدت كيم ومن بعده ابنه كيم جونغ ايل وحفيده كيم جونغ أون الذي يحكم اليوم. وحتى السوفيات، الذين تخلوا في حقبة خروتشوف عن مبالغات الحقبة الستالينية، وجدوا تأليه عائلة كيم بهذه الطريقة غريبا جدا.
في الأعوام الأخيرة، تراجعت دعاية كوريا الشمالية التي تستهدف للجماهير الأجنبية عن بعض وثنيتها. وقد يكون كيم جونغ أون معروفا في داخل البلد بالقائد الأعلى المبجل، لكنه غالبا ما يشار إليه في الترجمات الماندارينية واليابانية والإنجليزية باللقب الأكثر واقعية… رئيس حزب العمال في كوريا. لكن التملق المحلي يستمر مع ذلك.
في الشهر الماضي، بدا كيم مبتهجا وجيد التغذية بينما يتفقد مزرعة تاشيون لتربية الخنازير، التابعة للقوات الجوية في جيش الشعب الكوري الشمالي، ووزع “دليلا ميدانيا” في مزرعة الفطر في بيونغ يانغ. وقد علم قراء الإعلام الرسمي الكوري الشمالي أنه، عندما يتعلق الأمر بزراعة الفطريات، فإن كيم “لم يرسل قوى كفؤة للتصميم والإنشاء لبنائها فحسب، وإنما اتخذ إجراء إحسانيا لحل كل المشاكل الناشئة عن بنائها”. (من جهته، قال الرئيس الأميركي دونال ترامب لشبكة “سي بي أس” التلفزيونية الأميركية في وقت متأخر من الشهر الماضي أنه يعتبر كيم “كعكة ذكية جدا”).
كان الناس المسؤولون عن كتابة هذه الإرساليات قد تخرجوا من أفضل الجامعات في كوريا الشمالية، مثل جامعة كيم إيل سونغ، وجامعة بيونغ يانغ للغات الأجنبية. وتضمن وظائف العمل في الدعاية حيوات رغدة لأصحابها، مع إمكانية لامتلاك المركبات وأجهزة الحواسيب النقالة. وقال فيودور تيرتيسكي الذي حصل للتو على درجة الدكتوراة من جامعة سيئول الوطنية وكتب عن ثقافة شخصية كيم: “إذا كنت من زبدة المجتمع، فلماذا تعمل ضد نظام يجلب لك الفرصة؟”
المعروف أن الكوريين الشماليين هم عرضة لسيل لا ينتهي أبدا من هوس التخويف من جانب دعائيي النظام، الذين يحذرون من أن الإمبرياليين الغربيين والكوريين الجنوبيين عاقدوا العزم على توحيد شبه الجزيرة الكورية بالقوة. ويقول وورد: “عندما تتحدث دولة كوريا الشمالية عن تحويل سيئول إلى بحر من النار، فإن هذا الخطاب موجه لشعبها الخاص أكثر من كونه موجها لجمهور أجنبي. وتكمن الفكرة في الإبقاء على شعبها خائفا وحذرا وموحدا”. ويشار إلى أن تقريرا صدر عن مؤسسة “راند” الفكرية في الشهر الماضي استنتج أنه في حين أن أولئك الذين يتربعون على القمة في المجتمع الكوري الشمالي قد يتوافرون على بعض التحفظات تجاه قائدهم البالغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاماً، “فإن النظام الكوري الشمالي بذل كل جهد ممكن لتلقين النخب الكورية الشمالية الاعتقاد بأن التوحيد سيكون كارثة بالنسبة لهم”.
كانت رسائل كوريا الشمالية أعلى ما يكون في المنطقة منزوعة السلاح التي قسمت شبه الجزيرة الكورية منذ العام 1953. وعلى مدى أشهر الآن، كما على مدى أعوام مضت، بثت مكبرات الصوت الكورية الشمالية على الحدود قصفا متواصلا من الخطاب العسكري والقصائد الفولكلورية الجذابة، والتي تحكي عن نقاء وتفوق دولة كوريا الشمالية. وقد رد الجنوب بهجومه الشفوي الخاص: ببث أغان كورية شعبية تمثل ضربا موسيقيا أخاذا يحظى بالشعبية في عموم آسيا. ومن بين اختيارات تشكيلات سيئول للبث في المنطقة منزوعة السلاح، ثمة “بانغ بانغ بانغ”، التي تؤديها فرقة الفتى الكوري الجنوبي “بيغ بانغ”.
حنه بيتش
صحيفة الغد