يقولون إن معظم المخاطر الحقيقية على العالم لا تنشأ بسبب ما لا يعرفه الناس، وإنما بسبب ما “يعرفون” بالتأكيد أنه ليس كذلك.
على سبيل المثال، دعونا ننظر في ثلاثة أشياء عن كوريا الشمالية، والتي تبدو مؤسسة الحزبين في واشنطن متأكدة تماماً من صحتها، لكنها بعيدة كل البعد عن الواقع:
الوهم (1): كل الخيارات، بما فيها استخدام القوة العسكرية الأميركية، مطروحة “على الطاولة”
الجميع يعرفون أنها ليست هناك “خيارات” عسكرية يمكن أن تستخدمها الولايات المتحدة ضد كوريا الشمالية، والتي لن تسفر عن كارثة. والفكرة القائلة إن بوسع “ضربة جراحية” أن “تقضي على” قدرات بيونغ يانغ النووية والصاروخية هي مجرد خيال قصصي. ولأنه تبين أن ذلك غير عملي مسبقاً عندما تم التفكير فيه ضد بلد مثل إيران، فإن أحداً لا يعتقد بأن هجوماً محدوداً يمكن أن يشل قدرة كوريا الشمالية على رد الضربة، وبقوة. ولن يقتصر الأمر على وضع 30.000 من الجنود الأميركيين في كوريا الجنوبية تحت الخطر، وإنما أيضاً وضع 25 مليون إنسان في منطقة العاصمة، سيئول، تحت الخطر كذلك، ناهيك عن الكثير من الأرواح الأخرى في بقية كوريا الشمالية، وربما في اليابان أيضاً.
وهكذا، فإن أي ضربات أميركية استباقية متوقعة يجب أن تكون هائلة وضخمة من البداية، مما يفرض كلفة مدمرة على الكوريين الشماليين (هل أرواحهم تهُم؟)، لكنها ستظل تنطوي على خطر أن يؤدي أي شيء أقل من النجاح الكامل إلى استدعاء رد انتقامي مدمر -حتى أن هذا نفسه لا يأخذ في الاعتبار التصرفات الممكنة لدول أخرى، خاصة ردة فعل الصين على هجوم أميركي يُشن ضد دولتها العازلة.
الوهم (2): يجب أن تكون كوريا الشمالية خالية من الأسلحة النووية
سواء كان أي أحد يحب ذلك أم لا، فإن كوريا الشمالية هي دولة مالكة للأسلحة النووية خارج معاهدة منع الانتشار النووي، وسوف تبقى كذلك. وقد تعلم كيم يونغ أون الدروس من مصائر صدام حسين ومعمر القذافي. ولأن لدى كيم أسلحة دمار شامل، خاصة الأسلحة النووية، فإنه يضمن أن يظل حياً وفي السلطة. أما إذا تخلى عنها، فإنه يستطيع توقع أن يُعلق على المشنقة أو يُخوزق على حربة ثم تُطلق عليه النار. وليس اتخاذ قرار في هكذا خيار صعباً.
الوهم (3): إذا ضغطت أميركا على الصين بما يكفي، فإن بكين ستحل لنا المشكلة
ليس هناك أي مزيج من العقوبات والتهديدات والضغوط الأميركية، والذي يمكن أن يجعل بكين تأخذ خطوات تكون مناقضة بشكل أساسي لمصالح الأمن القومي الصينية الحاسمة. (هنا، تعني “المصلحة الأمنية القومية” للصين هذا بالضبط، وليس الطريقة التي يسيء بها صناع السياسة الأميركيون بشكل روتيني استخدام المصطلح ليعني أي شيء لا يحبونه، حتى لو لم تكن له أي صلة بالأمن الأميركي، ناهيك عن البقاء الأميركي). وبعيداً عن التكهن بأن الصين يمكن أن تسعى إلى هندسة انقلاب داخلي للإطاحة بكيم لمصلحة قدوم إدارة دُمية، فإن إدامة النظام الحالي البغيض هو خيار بكين الوحيد إذا لم تكن تريد مواجهة احتمال تكوُّن شبه جزيرة كورية معادة التوحيد في عهدة حكومة متحالفة مع واشنطن.
بعد تجربة موسكو مع توسيع حلف “الناتو” في أعقاب إعادة توحيد ألمانيا في العام 1990، لماذا ستأخذ بكين بمصداقية أي ضمانات من واشنطن (وهو ما ليس عيه أي مؤشر على أي حال) بأن لا تقوم بالتوسع في الفراغ الذي يمكن أن يصنعه انهيار كوريا الشمالية؟ على العكس تماماً، تم اقتراح أنه إذا رفضت الصين التعامل مع مشكلة كوريا الشمالية نيابة عن واشنطن، فإن الولايات المتحدة سوف تفعل ذلك وفق شروطها الخاصة، وتزود بكين (حسب وصف سفير الولايات المتحدة السابق إلى الأمم المتحدة، جون بولتون) بـ”انهيار نظام، وتدفقات كبيرة للاجئين، وبالأعلام الأميركية وهي ترفرف على طول نهر يالو”. ويضيف بولتون: “تستطيع الصين القيام بالأمر بالطريقة السهلة أو الصعبة: إنه خيارها. والوقت ينفد”. وإذا ما انتهى الأمر وفق مثل هذا السيناريو بالقوات الأميركية وهي تقف على حدود الصين، كما يقترح بولتون، فإنها لن تغادر في أي وقت قريب. ولكن، لا تكونوا متأكدين من ذلك. ففي العام 1950، آخر مرة تواجدت فيها قوات أميركية على نهر يالو، فإنها لم تتلبث هناك لوقت طويل عندما عبر مئات الآلاف من الجنود الصينيين إلى كوريا. ويجب أن يوضع في الاعتبار أن ذلك حدث عندما لم يكن لدى الصين أسلحة نووية، بينما كانت الولايات المتحدة تمتلك هذه الأسلحة.
يبدو أن الارتفاع والهبوط الأسبوعي لمستوى نبرة الخطاب العدائي الذي يأتي من واشنطن وبيونغ يانغ يخفي الحقائق الكامنة وراء هذه الأوهام الثلاثة. ويمكن توقع القليل من التغيير من بيونغ يانغ، التي تتمتع سياستها على الأقل بفضيلة البساطة: “إذا فعلتم أي شيء سيئ لنا، فإننا سنفعل شيئاً سيئاً حقاً لكم”.
وإذن، ما هي احتمالات تخلي الولايات المتحدة عن المراوحة في المكان والخروج بشيء غير التهديدات والتلويح بالعقوبات؟ نذر السوء لا تخفى. قبل مغادرته البيت الأبيض مباشرة، كسر ستيف بانون المحرَّم المحيط بالوهم رقم (1)، حين قال: “حتى يقوم أحد ما بحل جزء المعادلة الذي يريني أن عشرة ملايين شخص في سيئول لن يموتوا في أول 30 دقيقة بسبب الأسلحة التقليدية، فإنني لا أعرف ما تتحدثون عنه، ليس هناك حل عسكري هنا، لقد أوقعوا بنا”. ثم خرج بانون من الإدارة.
ولكن، دعونا نكُن متفائلين. فقد ظهرت تقارير عن اتصالات مباشرة تجري من خلال “قناة خلفية” بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة في مقر الأمم المتحدة في نيويورك. وحتى بولتون نفسه يقترح نوعاً من التسوية مع الصين في شكل انسحاب للقوات الأميركية في اتجاه الجنوب، بالقرب من بوسان، بحيث تظل “متاحة لانتشار سريع عبر آسيا”. (من المؤكد أن هذه إحدى الأفكار. وهاكم فكرة أفضل: ماذا عن إخراج جنودنا من كوريا بشكل كامل وعدم جعل الأميركيين متاحين للنشر عبر آسيا)؟
كان ينبغي أن يكون التوضيح النهائي هو ما جاء في افتتاحية صحيفة “غلوبال تايمز” في بكين يوم 10 آب (أغسطس) 2017 (تحت عنوان “اللعبة المتهورة في شبه الجزيرة الكورية تَعرض خطر نشوب حرب حقيقية”)، والتي يُنظر إليها عالمياً على أنها تعكس موقف الحكومة الصينية. وجاء فيها:
“كما يتعين على الصين أن توضح أنه إذا أطلقت كوريا الشمالية صواريخاً تهدد التراب الأميركي أولاً وردت الولايات المتحدة، فإن الصين ستبقى على الحياد. وإذا وجهت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية ضربات وحاولت الإطاحة بالنظام الكوري الشمالية وتغيير النموذج السياسي لشبه الجزيرة الكورية، فإن الصين ستمنعهما من فعل ذلك”.
يعني ذلك أنه إذا هاجم كيم الولايات المتحدة، فإنه سيكون في ذلك وحده. وإذا هاجمنا نحن كيم، فإننا نكون في حرب مع الصين. وفي الحالة الأخيرة، بينما من غير المرجح أن تنضم روسيا مباشرة إلى المعمعة، يمكننا أن نكون متأكدين من أن موسكو ستزود الصين بدعم كامل باستثناء القتال. وبأحد المعاني، لن يكون ذلك في خدمة المصلحة الأميركية.
هناك أولوية واحدة قصوى وحيدة ينبغي أن توجه الآن سياسة الولايات المتحدة في كوريا. وهي ليست تغيير النظام في كوريا الشمالية –على الرغم من جدارة ذلك النظام بالمقت- أو حتى رفاهية كوريا الجنوبية أو اليابان. إنها تجنب قيام كيم بتطوير نظام صاروخي قادر على إيصال سلاح نووي إلى الولايات المتحدة. أما مدى قرب كوريا الشمالية من امتلاك مثل هذه القدرة، فموضوع لتقديرات متضاربة إلى حد بعيد. (فيما يتعلق بالأرواح الأميركية المعلقة على المنطقة المجردة من السلاح، هناك حل بسيط لضمان سلامتهم –أخرجوهم بحق الله من هناك).
ولكن، ماذا عن كوريا الجنوبية واليابان؟ إن “تحالفاتنا” معهما هي مجرد خيال. فمع أن الولايات المتحدة تضمن أمنهما، فإنهما لا يفعلان أي شيء -باستثناء التعاون في شؤون الدفاع عن مناطقهما الخاصة- لضمان أمننا نحن، ولا هما تستطيعان فعل ذلك. ولا تحصل الولايات المتحدة على أي نفع من الاستمرار في جعل أنفسنا هدفاً بسبب مكان يبعد أكثر من خمسة آلاف ميل عن البر الرئيسي الأميركي.
لقد حان الوقت لكي تعني “أميركا أولاً”! شيئاً. وكبداية، يمكن أن تأخذ واشنطن على محمل الجد اقتراح بكين الاتفاق على تجميد متبادل. فمن ناحية، سوف تعلق بيونغ يانغ برامجها النووية والصاروخية، وخاصة وقف اختبارات الأسلحة التي تنطوي على إمكانية بلوغ مدى عابر للقارات. وسوف تعلق واشنطن وسيئول المناورات العسكرية المشتركة، بما في ذلك التمرين على ما يدعى “ضربات قطع الرأس” الموجهة إلى قيادة كوريا الشمالية.
إذا كانت حماية أراضينا الخاصة وشعبنا هي الأولوية القصوى للمسؤولين الأميركيين، وليس “تغيير النظام” في كوريا الشمالية -كما يزعمون بشكل غير مفهوم- فإن من الصعب رؤية كيف لا يكون التجميد المتبادل خطوة أولى معقولة. وسوف يعود إلى الصين إلى حد كبير التأكد من التزام الكوريين الشماليين بحصتهم من الاتفاق. وإذا فعلوا، فإن ذلك ربما يقود إلى تسوية طال انتظارها لهذه الأزمة منذ حقبة مواجهة الحرب الباردة، ثم بمرور الوقت، تأسيس كوريا محايدة معادة التوحيد. وإذا لم يفعلوا، فإن كل الرهانات تُرفع -لكننا سنكون بالكاد أسوأ مما نحن عليه الآن.
جيمس جورج جاتراس
صحيفة الغد