يشير قاسم سليماني إلى خريطة للعراق ويقول مخاطبا سياسيين سنة مشاركين في الحكومة في اجتماع خاص، «انظروا.. حماية بغداد من تنظيم الدولة هو حماية للأمن القومي الإيراني. لدينا عمليات عسكرية في خطة تأمين بغداد لإبعاد تنظيم الدولة من قرى ومناطق استولى عليها تشكل تهديدا لحزام بغداد، ديالى شرقا، شمالا حتى قاعدة سبايكر بتكريت، وغربا حتى الحبانية بين الفلوجة والرمادي».
كلام سليماني هذا جاء في اجتماع خاص بعد أسابيع من سيطرة «تنظيم الدولة» على الموصل، ومن يتحدث إليهم كانوا قادة أحد الأحزاب السنية التي شاركت في الحكومة العراقية، وتحالفت أمنيا وسياسيا مع حملة الميليشيات الشيعية حتى اليوم، ممن يطلق عليهم البعض «سنة سليماني». وبالفعل، بعدها مباشرة شاهدنا الذراع اليمنى لسليماني هادي العامري يقود هجمات الحشد في قرى ديالى، جلولاء والسعدية وغيرها. والخزعلي في أمرلي، وانتهت بمجزرتي مصعب بن عمير وبروانة وتدمير قرى سنية محيطة بأمرلي، كانت تلك هي البداية لتنفيذ خطة سليماني لتأمين العاصمة، ثم بدأت المرحلة الثانية بقوة. تكريت، قاعدة سبايكر شمال تكريت هي بيد قوات الحكومة والميليشيات منذ البداية، كما الجامعة شمالا، وبلدة العوجة والمطار جنوبا، لكن عاصمة صلاح الدين مدينة تكريت كانت بيد التنظيم، وإضافة إلى رمزيتها السياسية كمركز لتنظيم الدولة ومسقط رأس صدام حسين وصلاح الدين الأيوبي، وكلهم أعداء تاريخيون للشيعية السياسية، إضافة لهذه الرمزية السياسية فإن بقاء «تنظيم الدولة» في تكريت يهدد سامراء قبل بغداد، وهي عقدة استراتيجية تربط مناطق الجزيرة والانبار بديالى بالموصل، وهي كذلك خط دفاع أول قبل الحويجة شمالا فالموصل.
بثلاثين ألف مقاتل هاجمت الميليشيات والقوات الحكومية تكريت، مدعومة بدبابات إيرانية وامريكية، وخبراء وضباط الحرس الثوري على رأسهم سليماني، الذي جاء بنفسه للاشراف على المرحلة الثانية التي لا يبدو انها ستنجز بسهولة، ورغم أسلوب الحشود الهائلة الذي يكرره الايرانيون منذ الحرب العراقية الايرانية، فما تحقق فقط هو انتصارات اعلامية في قنوات بدت وكأنها مكاتب اعلام خارجي لميليشيات الحشد، تحدثت عن سيطرة قوات سليماني على نصف تكريت منذ اليوم الاول، وبعد اسبوعين يعلن أن العملية توقفت خارج تكريت.
ما حدث هو ان الميليشيات تمكنت من السيطرة على الدور والبوعجيل والعلم، بعد اسبوع من المعارك، تمثل هذه البلدات الثلاث، أهمية استراتيجية لتكريت، لانها خط إمدادها الاهم في حوض دجلة، وبعد معركة استنزاف فقد فيها «تنظيم الدولة» عددا كبيرا من مقاتليه في «جلام الدور» و»سور شناز»، وهما قرب الدور. انسحب التنظيم من هذه البلدات الثلاث، وبقي يقاوم فقط في أطراف البوعجيل التي تصله بالجسر نحو تكريت، ثم انسحب مقاتلو التنظيم على دفعتين، نحو الحويجة في ثلاثة ارتال، ونحو مدينة تكريت وتحصنوا فيها، خسر التنظيم خط امداد تكريت وحوصرت المدينة، لكن المجموعات داخل المدينة منعت كل محاولات اقتحام تكريت حتى اليوم، بانتظار وصول تعزيزات، إما شمالا من الحويجة، أو غربا من الثرثار الممتدة حتى الانبار، ولن تكون مهمة هذه التعزيزات يسيرة باختراق دفاعات قوات الحكومة التي تحيط بتكريت من كل جانب، أو بتكرار ما حصل في بيجي عندما استعاد التنظيم المدينة، بعد ان فقدها، رغم ان سليماني قاتل هناك حتى الساعات الاخيرة، صحيح ان مهمة «تنظيم الدولة» بفك الحصار عن تكريت لن تكون مهمة يسيرة، لكنها ليست مستحيلة.
المرحلة الثالثة هي التي تبدو الأصعب.. الحبانية.. لانها تعني السيطرة على الفلوجة، وعندما سألت القيادي الذي حضر اجتماع سليماني عن هل أنهم يريدون الفلوجة أجاب نعم. فالفلوجة اكثر مدينة بالعراق مهيئة بتضاريسها البشرية للتمرد، فشل الامريكيون بجيشهم الجرار في دخولها في المعركة الاولى عام 2004، وعندما دخلوها في المعركة الثانية دمروا نصفها الجنوبي بشكل شبه كامل، وبعدها قطعت اوصالها واحيطت بحواجز اشبه بالقلاع وخصص لها اربعة مداخل فقط، وخصص لكل مواطن هوية الكترونية تحمل بصمة العين، ورغم كل ذلك عادت الفلوجة لتخرج عن سيطرة حكومة بغداد مباشرة، بعد قمع الحراك السلمي في المحافظات السنية، خرجت عن سيطرة قوات الحكومة قبل عام من سيطرة «تنظيم الدولة» على الموصل في يونيو من العام الماضي. لذلك الفلوجة بموقعها الجغرافي قرب بغداد والرمزي بالنسبة لـ»تنظيم الدولة» تعتبر هدفا ثمينا.. ولذلك تبدو خطة سليماني في هذه المحاور الثلاثة في ديالى وتكريت والفلوجة معقدة. في ديالى نجحت بسهولة مهمة سليماني لانها محافظة مختلطة طائفيا وعرقيا، ولا تشكل حاضنة ارتكازية للتنظيم، على عكس الفلوجة التي ستبقى الاصعب في خطته، اما تكريت فان اصرار الايرانيين عليها لاهميتها الاستراتيجية يفسر غزارة اعداد الميليشيات، وضراوة العملية، وقد لا تمتد هذه الحشود بالمستوى نفسه شمالا، لأن خطة تأمين بغداد المتصلة بأمن إيران القومي، كما يقول سليماني، لا تتجاوز قاعدة سبايكر، لذلك قد تضطلع قوات البيشمركة وبعض المجموعات من عشائر سنية بدعم اكبر من التحالف الدولي بباقي المهمة شمالا، اعتبارا من الحويجة حتى حدود الموصل.. ولهذا تبدو تكريت والحويجة مركز صراع نفوذ يحدد مستقبل قدرة «تنظيم الدولة» على الاحتفاظ بمعظم المدن السنية او الانكماش في معقليه الرئيسيين.. الفلوجة والموصل.
وائل عصام
القدس العربي