كانت بلدة السيدة زينب في أطراف العاصمة السورية دمشق، مجرد بلدة سكانية تحمل طابعًا دينيًا عند أصحاب المذهب الشيعي، كونها تضم قبر بنت الخليفة الرابع علي بن أبي طالب ” رضي الله عنه”، وفق معتقد أصحاب هذا المذهب. وتقع على بعد حوالي عشرة كيلومترات جنوب العاصمة، على الطريق السريع المؤدي إلى مطار دمشق الدولي، والطريق المؤدي إلى مدينة السويداء. وهو ما يجعلها نموذجًا مشابهًا لضاحية بيروت الجنوبية، التي يتخذها أنصار “حزب الله” المدعوم إيرانيًا كمنطقة نفوذ على الطريق من مطار رفيق الحريري الدولي إلى مركز المدينة.
وتتخذ إيران منذ ما قبل اندلاع الحرب في سوريا، التي دخلت عامها الحادي عشر منتصف مارس (آذار) الماضي، من منطقة «السيدة زينب» معقلاً رئيسياً بسبب وجود مزار «السيدة زينب» الذي يؤمه آلاف الزوار من إيران والعراق ولبنان وأفغانستان وباكستان. ومع بداية الانتفاضة السورية، اتخذت إيران من مسألة «الدفاع عن المقام» حجة لجذب المسلحين منها ومن أصقاع العالم إلى سوريا.
وبعد مرور سنوات على انطلاقها ومن ثم انطلاق المواجهة المسلحة المفتوحة بين قوات النظام السوري وحلفائه من جهة، وقوات المعارضة السورية من جهة ثانية، مالت الكفة في هذه المواجهة العسكرية لصالح النظام السوري، ليس فقط بفضل الغطاء الجوي الكثيف الذي قدمه سلاح الجو الروسي لقوات النظام، بل أيضاً بسبب السيل البشري الكبير من مقاتلي المليشيات الذين زجت بهم إيران داخل الصراع تحت يافطة “حماية المراقد المقدسة”.
وأقحمت إيران قواتها الرسمية المتمثلة بالجيش الإيراني وتشكيلات عسكرية تابعة لما يعرف بـ”الحرس الثوري” على جبهات القتال في جميع المناطق المشتعلة في سورية، وبرر المسؤولون الإيرانيون في تصريحات متعاقبة منذ عام 2012 هذا التدخل العسكري المباشر بسورية بأن من يقاتل من الإيرانيين في سورية “هم مستشارون عسكريون انخرطوا بالصراع السوري لتقديم الاستشارات لقوات النظام السوري”، لكن واقع سقوط مئات القتلى منهم على الأرض السورية، بالإضافة إلى تمكن قوات المعارضة من أسر آخرين، أثبت أن الإيرانيين يقاتلون على خطوط القتال الأولى، ما ينفي عنهم صفة المستشارين الذين يقومون بأعمالهم عادة في مراكز التدريب والقيادة.
ولم يقتصر التدخل الإيراني عند هذا الحد، إذ دفعت الحكومة الإيرانية، وبإشراف ضباط الحرس الثوري، على رأسهم قائد “لواء القدس” السابق في “الحرس الثوري”، قاسم سليماني، بعشرات المليشيات، المكونة من مقاتلين عراقيين وأفغان ولبنانيين وباكستانيين ويمنيين، إلى جبهات القتال في سورية، لتجند الحكومة الإيرانية هؤلاء وتزج بهم في الحرب السورية إلى جانب النظام السوري، مستخدمة دعاية مفادها أن “خطراً كبيراً يتهدد المراقد والمزارات الدينية”. إلى أن أصبحت تنتشر في سوريا ميليشيات إيرانية ومحلية وأجنبية تابعة لطهران يزيد عددها على 50 فصيلاً، ويتجاوز عدد مسلحيها 60 ألفاً.
ومع تدفق الآلاف من مقاتلي المليشيات إلى سورية تحول حي السيدة زينب، جنوب شرق العاصمة السورية دمشق، إلى المعقل الرئيس الذي تتجمع به المليشيات ليحصل عناصرها على التدريب قبل أن ينطلقوا للقتال في عموم الأراضي السورية.
لقد حمل اختيار حي “السيد زينب” كنقطة تجمع للمليشيات أهمية رمزية عالية، حيث كان وصول مقاتلي المليشيات إلى المنطقة المحيطة بمقام السيدة زينب ليتلقوا التدريب العسكري والضخ المعنوي كافياً لإقناعهم بالدعاية التي رعتها إيران حول ضرورة “حماية المراقد والمزارات في سورية”.
فمنطقة السيدة زينب، قبل عام 1976، كان الوجود الشيعي محدود، وكان يغلب عليها الطابع السُني، ثم بعد التأسيس للمقام والحوزات التابعة له، بدأت هجرة مكثفة من شيعة العراق وإيران، حتى صارت المنطقة شيعية بالكامل. وبعد عام 2012 هُجِّرت العائلات السنية كلها المتبقية في منطقة السيدة زينب من الميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات “إيران، العراق، لبنان، سورية، أفغانستان، باكستان … إلخ”. وجرى الاستيلاء على ممتلكاتهم من منازل ومحال تجارية وغيرها. إضافة إلى ذلك يزور عدد من الحجاج الإيرانيين المقام، ومن اللافت زيادة عدد الحجاج الإيرانيين من 27.000 عام 1978 إلى 290.000 عام 2003، وتضاعفت النسبة في الأعوام التالية، حتى وصلت إلى مليون ونصف مليون في السنوات الأخيرة.
وتتخذ إيران منذ ما قبل اندلاع الحرب في سورية قبل 10 سنوات، من منطقة السيدة زينب معقلاً رئيسياً، بسبب وجود مزار “السيدة زينب” الذي يزوره الآلاف من إيران والعراق، ولبنان، وأفغانستان، وباكستان. وقبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، كانت منطقة السيدة زينب، منطقة مختلطة مهمشة تضم نحو 400 ألف شخص ينحدرون من مجمل المحافظات السورية، لكن غالبيتهم من نازحي الجولان السوري المحتل، واللاجئين الفلسطينيين، مع وجود قلة من أتباع المذهب الشيعي، معظمهم غير سوريين، من لبنان والعراق وبلدان الخليج.
ولم تكن السياسة الإيرانية المتمثلة باستثمار “المزارات والمراقد” سياسياً طارئة، حيث عمدت السفارة الإيرانية بدمشق في السنوات التي سبقت الثورة السورية وبالتزامن مع وصول الأسد الابن إلى السلطة، إلى مد أياديها إلى داخل المدن السورية المختلفة من باب دعم بناء المزارات والمقامات والمشاهد المقدسة.
فمع أن مقامي السيدة زينب (جنوب شرق دمشق) والسيدة رقية (في دمشق القديمة قرب المسجد الأموي) هي مقامات قديمة ومعروفة منذ مئات السنين، إلا أن عشرات المزارات والمقامات الأخرى استحدثت أخيراً أو تم تحويلها من مساجد أو مزارات صغيرة مهملة إلى “مراكز دعوية ضخمة” تنتشر في كل المدن السورية.
وكان بناء المقامات الضخمة بتمويل إيراني، بعد وصول الأسد الابن إلى السلطة، وأبرزها مقام الصحابي عمار بن ياسر في مدينة الرقة، ومقام السيدة سكينة في داريا بريف دمشق، إشارة واضحة صدرت باكراً لتكشف عن نية إيران تحويل هذه المقامات إلى مسامير لها في المدن السورية، لتنسج عليها لاحقاً خطة للتمدد المباشر داخل المدن السورية.
بعد عام 2011، بدأت الأنظار تتجه للمنطقة لوجود مقام “السيدة زينب” فيها المقدس عند المسلمين الشيعة، والذي كانت حمايته، من ضمن الأهداف المعلنة لتدخل إيران ومليشياتها في سورية. واتخذت إيران من مسألة الدفاع عن المقام حجة لجذب المسلحين منها ومن أصقاع العالم إلى سورية، إلى أن أصبحت تنتشر في سورية، وفي السيدة زينب بالذات، مليشيات إيرانية ومحلية وأجنبية تابعة لطهران.
ومنذ مطلع عام 2013م، تحولت البلدة السيدة زينب ومحيطها إثر انسحاب الجيش السوري الحر إلى عاصمة الوجود الإيراني في سوريا، مشيرا إلى أنه تم توطين المقاتلين الشيعة في بيوت طرد منها أهلها، مؤكدا أن المليشيات سيطرت أيضا على محال تجارية وفنادق ومنشآت صناعية. وأن كل سكان بلدة السيدة زينب وبلدة حجيرة الملاصقة لها، والبالغ عددهم نحو نصف مليون نسمة، هم من السنّة، تم تهجير أغلبهم قسرا من قبل المليشيات الطائفية، بحيث بات الآلاف من أبناء المنطقة إما نازحين داخل سوريا، أو لاجئين في دول الجوار.
وفي نيسان/ إبريل 2018، بدأت إيران بتنفيذ مشروع لتوسيع مرقد السيدة زينب في دمشق كلف ملايين الدولارات، بينما وافقت حكومة النظام السوري في نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي على تغيير اسم المنطقة التي يقع فيها مقام السيدة زينب، لتسمى رسمياً باسم “مدينة السيدة زينب” بعد أن كانت تعرف في الدوائر الرسمية باسم “قبر الست”. كما نفذت جهات إيرانية مشروعاً لترميم الطرقات والدوارات المرورية في منطقة السيدة زينب، تضمن إعادة تسميتها بأسماء جديدة من وحي المقدسات الإيرانية، فتحوّل شارع “التين” إلى شارع “الحوراء”. كما أطلق على شارع آخر اسم “الفاطمية”. وفي المدخل الشمالي للمنطقة، تلفت الانتباه لوحة خضراء وضعت حديثاً على الدوار الذي كان يسمى دوار حجيرة، وكتبت عليها عبارة “دوار السيدة زينب”.
ومن أبرز الشخصيات الإيرانية التي كرست نفوذ إيران في السيدة زينب القائد السابق لـ”فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني السابق، قاسم سليماني، الذي ظهر باكياً عند مرقد السيدة زينب. وبعد مقتله بثلاثة أشهر على يد القوات الأمريكية، في غارة بمطار بغداد إثر عودته من دمشق، أقيم لسليماني مجلس عزاء كبير في بلدة السيدة زينب، وغطت صوره وما زالت شوارعها. كما زار المرقد أخيراً، وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف. إذاً هي إستراتيجية بلا هوادة لتعزيز الحضور الإيراني في الجغرافيا السورية.
وحدة الدراسات الإيرانية