أنهى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (39 عاما) المئة يوم الأولى له في الحكم، مسجلًا تراجعًا كبيرًا في شعبيته، حيث بلغت نسبة مؤيديه بين الشعب الفرنسي، في آخر استطلاعات للرأى أجريت في مطلع أغسطس الحالي، 36%، بعدما كانت 52% بعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي أجريت في مطلع مايو 2017، ليسجل بذلك أسوأ تدن في شعبية رئيس فرنسي خلال المئة يوم الأولى من الحكم منذ 20 سنة. وهذا التراجع سيكون له العديد من الأبعاد على السياسات الداخلية والخارجية التي سيتخذها ماكرون في العام الأول لحكمه.
عوامل التراجع
(*) رغبة ماكرون في التفرد بالقرار: نزع الرئيس ماكرون للسيطرة على اتخاذ القرار، وكرس السلطة داخل مؤسسة الرئاسة الفرنسية في أيدى ثلاثة أشخاص هو أولهم، بجانب الأمين العام للرئاسة إلكسي كوهلر، وإسماعيل إيمليين، مستشار الرئيس الخاص، مقابل تهميش دور رئيس الوزراء إدوار فيليب، والوزراء الذين يغلب عليهم الطابع التكنوقراطي. كما اعتمد ماكرون على الاستعلاء في التعامل مع الصحفيين، والبعد عن الإعلام، والاكتفاء بإصدار بيانات رسمية في المؤتمرات الصحفية فقط، فضلا عن قيام قصر الرئاسة “الإليزيه” باختيار المراسلين من الصحف الفرنسية، وهو تقليد لم يكن متبعًا من قبل، مما آثار حفيظة رجال الوسط الصحفي الفرنسي.
(*)عدم استقرار الحكومة: خلال الأسبوع الأول من تولى الحكومة الفرنسية مهام عملها، تم الكشف عن مخالفات مالية وقانونية تخص الأحزاب الفرنسية المنتمي لها بعض الوزراء، مما أدى لاستقالة ثلاثة وزراء، كان من بينهم وزيرة الدفاع الفرنسية، بالإضافة لفشل حكومة فيليب، خلال ثلاثة أشهر، في تقديم أي فائدة حقيقية للشعب الفرنسي، فضلا عن كثرة التناقضات، والأخطاء، والتباين بين الوزراء عملًا وقولًا.
(*)خفض موازنة الجيش: قررماكرون خفض موازنة الجيش الفرنسي لتبلغ 850 مليون يورو، الأمر الذي اعترض عليه رئيس الأركان الفرنسي بيير دو فيلييه، ودفعه لتقديم استقالته، وحذر من استحالة توفير خطط الأمن اللازمة لحماية المواطنين في ظل هذه الميزانية المخفضة. والأهم من الخلاف هو طريقة إدارة ماكرون له التي وصفت بالخاطئة، وأكدت رغبته في التفرد باتخاذ القرار، وتهميش دور الوزراء والخبراء الفنيين، حيث أكد ماكرون أنه القائد الفعلي للجيش، وهو من يقرر خفض الموازنة، ولا يحق لأحد أن يخالفه الرأي، أو يضغط باتجاه معاكس.
(*) تكرار الحوادث الإرهابية: شهدت المئة يوم الأولى لماكرون حادثين إرهابيين، تم إحباط أحدهما، ونجح الآخر في دهس عدد من الجنود الفرنسيين عند خروجهم من ثكنتهم في “لوفالوا بيري”، مما أدى لسقوط 6 مصابين، بينهم 2 إصابتهما بالغة.
(*) الجدل حول خططه الإصلاحية: يرى ماكرون ضرورة إجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية كبيرة تشمل تخفيف قوانين العمل الصارمة، وإصلاح نظام معاشات التقاعد. وتلك الإصلاحات التي يعتزم إطلاقها تجد معارضة داخلية. وهناك تشكيك لدى الفرنسيين إزاء إمكان نجاحه، واستياء من إجراءات اتخذها بالفعل، ومنها رفع سعر السجائر، وزيادة ضريبة الإسهام في الضمان الاجتماعي، وخفض المساعدة الخاصة للسكن.
(*) دور السيدة الأولى: أصر ماكرون على منح زوجته “بريجيت ماكرون” دورًا رسميًا عبر منحها لقب “السيدة الأولى”، وتخصيص مكتب لها بالقصر الرئاسي، وعدد من الموظفين لمتابعة نشاطها اليومي، في مخالفة صريحة للأعراف الفرنسية السابقة التي ترفض منح أي دور لزوجة الرئيس، بل لا تطلق عليها لقب “السيدة الأولى”، مما أثار الرأى العام ضده. فبرغم أن “بريجيت” تحظى بشعبية كبيرة داخل المجتمع الفرنسي، فإن معظم فئات الشعب وأحزاب المعارضة لا تريد منحها موقعاً رسمياً.
ملامح سياسات ماكرون:
ينبغي على الرئيس ماكرون إعادة النظر في مختلف سياساته الداخلية والخارجية لتحقيق وعوده الانتخابية، ورفع شعبيته المتدنية، لاسيما بعد عودته من إجازته الصيفية القصيرة، وبدء العمل السياسي بعقد أولى جلسات الجمعية الوطنية الفرنسية في خريف العام الحالي. ومن بين الخطوات التي ينبغي على “ماكرون” الاعتماد عليها لرفع شعبيته ما يأتى:
(*) تعد قضية الإرهاب أكثر القضايا الملحة في الداخل الفرنسي حاليا، ولذا ينبغي على ماكرون الإعلان عن استراتيجية شاملة لمواجهة الإرهاب، بعدما تعرضت بلاده للعديد من الهجمات الإرهابية الدامية ما بين دهس، وتفجير، وحوادث طعن، وإخفاق أمنى كان سبباً رئيسياً في عزوف الرئيس السابق فرنسوا هولاند عن الترشح لولاية ثانية.
(*) الموازنة بين البعدين الاجتماعي والاقتصادي عند اتخاذ الإصلاحات الاقتصادية المزمع الإعلان عنها من قبل الحكومة الفرنسية قبيل انتهاء العام الحالي.
(*) تفعيل الدور الفرنسي في إدارة مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وعدم ترك ساحته لتنفرد ألمانيا بإدارتها، بما يحقق مصالحها، لاسيما في ظل الإعداد لخروج بريطانيا من الاتحاد، بعد تفعيل “اتفاق بريكست”.
(*) تعزيز مكانة فرنسا دوليًا، وموازنة حضورها في الملفات المهمة، مثل مكافحة الإرهاب، والهجرة غير الشرعية، وقضايا المناخ، وملفات الشرق الأوسط الملحة مثل، سوريا، العراق، ليبيا، مما يعزز الحضور الفرنسي دوليا مع الحضورين الأمريكي والروسي، ويظهر فرنسا كدولة كبرى منافسة لأكبر دولتين، وليست تابعة لهما.
وقد بدأ ماكرون بالفعل اتخاذ بعض الخطوات التي قد تعمل على رفع معدلات شعبيته، عبر تكريس نشاطه الخارجي، حيث توسط بين الفرقاء الليبيين: قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر، ورئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج، لتحقيق المصالحة الوطنية الليبية، بعد الإعلان عن “اتفاق باريس”، وكذلك عرض ماكرون التوسط لحل الأزمة القطرية، وسيستقبل في الخريف ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان لبحثها معه، كما سيجتمع مع رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، نهاية الشهر الجاري، يليه الرئيس اللبناني ميشال عون لبحث تطورات الأزمة اللبنانية، التي تعد فرنسا فاعلًا مؤثرًا فيها.
ويبقى على ماكرون تكثيف نشاطه الداخلي لمعالجة المشكلات المتفاقمة بالمجتمع الفرنسي، وأهمها ملفا مكافحة الإرهاب، والإصلاحات الاقتصادية، لأن نجاحه فيهما سيرفع شعبيته مرة أخرى، كما سيضمن له الترشح لولاية ثانية.
منى سلمان
مجلة السياسة الدولية