د. سليم محمد الزعنون*
ملخص تنفيذي:
يؤشر إكتشاف وتدمير إسرائيل للنفق الثالث إلى امتلاكها قدرات على تحييد الأصول الاستراتيجية “الانفاق” للمقاومة الفلسطينية، وتتطلع تل أبيب إلى إنهاء خطر الأنفاق حتى نهاية عام 2018، من أجل اعادة رسم المشهد السياسي والأمني في أي مواجهة عسكرية قادمة مع قطاع غزة، بيدّ أن هذا التَطلع يُجابَه بجملة من التحديات المتداخلة والمعقدة، فتحييد منظومة الأنفاق لا يعني تحييد الخطر الاستراتيجي الكامن في منظومة الصواريخ القادرة على تهديد الجبهة الداخلية الإسرائيلية، في المقابل تواجه حركات المقاومة الفلسطينية مجموعة من التحديات يأتي على رأسها تحييد منظومة الانفاق، وتدهور البنية التحتية، وتَعثر المصالحة.
تتبلور ملامح المواجهة العسكرية القادمة في قدرة الطرفين على ابتكار وابداع أدوات جديدة، وبالاستناد إلى تجربة التنظيمات الأخرى في مواجهة الخصم، من المحتمل أن تكون ملامح المواجهة في مرحلة ما بعد الانفاق على المستوى الفلسطيني قائمة على أربعة أدوات: حرب الصواريخ، الحرب البحرية، حرب “الدرون” الطائرات المُسيرة، وحرب السايبر، في المقابل تعمل إسرائيل في إطار أربعة أدوات أخرى: تحديث العقيدة الأمنية، وتطوير منظومة الصناعات الدفاعية، والاستمرار في تحييد الانفاق مع تأجيل المواجهة، والعودة لسياسة الاغتيالات.
أولاً: إسرائيل بين الانجاز والتحديات.
تَعتبر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بأنها حققت انجازاً في صراع طويل في مواجهة حرب الانفاق، وتقوم عملية تحييد الأنفاق على تبني إسرائيل استراتيجية متكاملة قائمة على أربعة أركان رئيسية: الأول تشغيلي، مرتبطة ببناء الجدار التحت أرضي على طول الحدود مع غزة، ومجهز بمجسات لاكتشاف حركة العمل في الانفاق، والثاني تكنولوجي، مرتبطة بتطوير تقنيات حديثة قادر على اكتشاف الانفاق، والثالث معلوماتي استخباري، مرتبطة بالقدرة على الحصول على خرائط الأنفاق، والرابع عملياتي، مرتبط بتوجيه ضربات دقيقة للانفاق بعد اكتشافها، غير أن هذه الانجازات تصطدم بتحديات مهمة مثل عدم القدرة على تحييد منظومة الصواريخ، وضعف الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
- التكتيكي مقابل الاستراتيجي.
الاخفاق الإسرائيلي في مواجهة الانفاق خلال حرب عام 2014 دفع باتجاه تركيز الاهتمام على مواجهة “اشكالية الأنفاق” ودفع باقي الإخفاقات الأخرى كتهديد الصواريخ، مرابض الصواريخ تحت الأرض، خلايا اطلاق الصواريخ، إلى الهوامش، لقد تم إقصاء جميع هذه المواضيع إلى الزاوية، لصالح الانشغال في التغلب على إخفاق الأنفاق.
يؤشر ذلك إلى الاهتمام بتهديد تكتيكي “الانفاق” مقابل إهمال تهديد إستراتيجي “الصواريخ”، وبمقارنة التهديدات تُعتبر الانفاق ذات مخاطر محدودة مقارنة بالصواريخ، فالانفاق ممكن استخدامها في عمليات الخطف، ووقوع قتلى، والتسبب في انعدام الأمان في مُدن غلاف غزة، لكن الصواريخ يمكن أن تَشل حركة الدولة بأكملها، بدءً من اغلاق الموانئ، والمطارات، وصولاً إلى الضرر الاقتصادي العالي.
- هشاشة الجبهة الداخلية
تلقت الجبهة الداخلية الإسرائيلية ضربات صعبة خلال حرب لبنان 2006، حيث تلقت إسرائيل ما بين 120 -250 صاروخاً في اليوم، وفي حرب غزة 2014 تلقت الجبهة الداخلية الإسرائلية 5000 صاروخ ومقذوفة هاون، ومن المتوقع أن تكون الجبهة الداخلية الإسرائيلية في قلب أية حرب مستقبلية، بشكل لم تشهده إسرائيل من قبل.
ثانياً: تحديات حركات المقاومة الفلسطينية.
- تحييد الأصول الاستراتيجية “الانفاق”.
يؤشر اكتشاف وتدمير إسرائيل لثلاثة أنفاق في الأسابيع الأخيرة، إلى أنها نجحت في إيجاد حل دفاعي لمواجهة الأنفاق، بما يفاقم معضلة حركات المقاومة الفلسطينية في كيفية التعامل مع حرمانها تدريجياً من إحدى أصولها الهجومية الرئيسية.
تحييد الأنفاق يترك أثره ليس فقط على الحَد من قدرة المنظمات الفلسطينية في استخدام الانفاق الهجومية للقيام بعمليات ضد إسرائيل، بل بالتوازي يترك أثره على مستقبل شبكة الانفاق الداخلية تحت قطاع غزة، والتي تشكل جوهر خطة الدفاع في حال إعادة احتلال إسرائيل لغزة، وإذا كانت إسرائيل تملك القدرة على تحديد موقع الأنفاق وتدميرها، فان شبكة الأنفاق الداخلية مهددة إذا ما قررت إسرائيل القيام بعملية برية، هذه المعادلة تفرض على المنظمات الفلسطينية أن تُقرر ما إذا كان عليها الرد واستخدم ما تبقى من انفاق قبل اكتشافها وخوض جولة عسكرية جديدة، أو الامتناع عن ذلك والمخاطرة بفقدان الأصول الاستراتيجية.
- تدهور البنية التحتية.
جميع مكونات البنية التحتية في قطاع غزة في حالة تدهور مستمر، ففي منطقة تعتبر الأكثر ازدحاماً في العالم، انخفضت القوة الشرائية للسكان خلال الفترة الأخيرة إلى الثلث حيث انخفض عدد شاحنات البضائع الواردة إلى غزة من 1000 شاحنة إلى 300 شاحنة يومياً، اضافة إلى أن 95٪ من المياه في غزة غير صالحة للشرب، وتتدفق مئات الآلاف من الأمتار المكعبة من مياه الصرف الصحي يومياً إلى البحر بما يُنذر بتفشي الأمراض المعدية، ويعتبر معدل البطالة في قطاع غزة حوالي 60٪ النسبة الأعلى في العالم.
- تَعثر المصالحة.
حتى هذه اللحظة لا تسير المصالحة الفلسطينية بخطى بطيئة فقط، بل يبدو أنها مُتعثرة، وتحدثت قيادات في حماس عن انهيارها، وبدء الاطراف تحميل بعضهم البعض أسباب الفشل، إن تَعثر المصالحة واحتمالية انهيارها يؤشر إلى الخطر القادم، فتجدد الأزمة الداخلية والضائقة السياسية والاقتصادية التي ستواجه حماس في غزة في حال فشل المصالحة، من شأنه أن يدفعها إلى زاوية لا خيار فيها إلا خوض جولة عسكرية أخرى ضد إسرائيل. لقد اندلعت الحروب الثلاثة الأخيرة في قطاع غزة بسبب مجموعة مشابهة من الظروف، ويضاف عليها حالياً تحييد الأصول الاستراتيجية “الانفاق”، جميع هذه العوامل تهيئ البيئة العامة وتدفعها باتجاه المواجهة .
ثالثاً: ملامح المواجهة، في مرحلة ما بعد الانفاق.
يبدو أن إسرائيل في طريقها إلى تحييد الأصول الاستراتيجية “الانفاق” للمنظمات الفلسطينية، ووفقاً لتصريحات المؤسسة الأمنية فإنها ستتمكن من ذلك مع حلول نهاية العام الحالي، وتتبلور ملامح المواجهة العسكرية القادمة في مرحلة ما بعد تحييد الأنفاق في قدرة الطرفين على ابتكار أدوات جديدة في المواجهة.
- على المستوى الفلسطيني.
- حرب الصواريخ.
ستكون منظومة الصواريخ إذا ما اندلاعت مواجهة عسكرية في غزة أكثر فعالية وقدرة على تهديد جميع المدن الإسرائيلية، وبالتأكيد هناك فرق بين القدرات في حرب عام 2014 والقدرات الحالية، وفي هذه السياق أشار ” يحي السنوار” إلى أن حماس تستطيع في 51 دقيقة أن تضرب تل أبيب ما ضربته في 51 يومياً، إلى جانب ذلك منظومة الصواريخ المضادة للدبابات.
- الحرب البحرية.
سيكون أحد أهداف التنظيمات الفلسطينية في المواجهة المقبلة التسلل عبر البحر إلى المُدن الإسرائيلية لتنفيذ هجمات، على غرار عملية “زكيم”، إلى جانب ذلك العمل على توجيه ضربات لآبار الغاز الإسرائيلي في عرض البحر، المسافة بين قطاع غزة وآبار الغاز 40 كم، وهي مسافة في مرمى صواريخ غزة.
- حرب الطائرات المُسيرة “الدرون“.
استخدمت بعض التنظيمات الأخرى الطائرات بدون طيار المسلحة لتنفيذ عمليات ضد الخصوم، لقد استخدمها حزب الله في الحرب السورية، واستخدمها تنظيم “داعش” ضد الجيش العراقي حيث أطلق كل بضع دقائق 3-4 طائرات وتفجيرها في نقاط معينة، وهاجمت التنظيمات الجهادية في سوريا قاعدة حميميم الجوية الروسية، وقاعدة الاسطول الروسي في طرطوس، بأسراب من الطائرات المُسيرة المحملة بالمتفجرات، ويمكن لهذه الطائرة حمل مواد متفجرة واسقاطها فوق هدف معين أو السقوط والتحطم عليه، فيما تتيح الكاميرا التي تحملها امكانية لتوجيهها من قبل مشغلها نحو الهدف، ومن الصعب تشخيص هذه المروحيات واعتراضها لأن الرادار الذي تحمله يشبه رادار طائرة الشبح.
من الممكن أن تستنسخ المقاومة الفلسطينية هذه التجربة في المواجهة العسكرية المُقبلة، بحيث يتم كل بضع دقائق اسقاط طائرة مفخخة على المستوطنات أو على مواقع تمركز الجيش الإسرائيلي، والمواقع الحساسة في الدولة، خاصة أن بعض التنظيمات الفلسطينية استخدمت هذه التقنية في حرب عام 2014.
- حرب السايبر.
خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة ظهرت جبهة قتال جديدة متمثلة في “الحرب الالكترونية” بين الفلسطينين وإسرائيل، هذا النوع من الحروب يوازي الحرب العسكرية، باعتبارها تصل لأماكن حساسة كالقواعد العسكرية والمطارات والبنوك، وقد تؤدي لخسائر فادحة، وتعتبر تهديداً للأمن القومي.
في عام 2015 اخترق قراصنة فلسطينين عشرات المواقع الالكترونية الإسرائيلية: ووزارة الدفاع، والتعليم، والاستخبارات، وسوق الأسهم للأوراق المالية، وشرطة تل أبيب، ويبدوا أن الفلسطينين أنشأوا أقساماً ووحدات تقنية تعمل على صد الهجمات الإسرائيلية والإعداد لهجمات إلكترونية مضادة، وفي حال المواجهة سيعمل كلا الطرفين على استهداف الطرف الأخر والإضرار بمصالحه الكترونياً.
- على المستوى الإسرائيلي.
- تحديث العقيدة الأمنية.
وضع بن غوريون أسس العقيدة الأمنية للدولة والقائمة على ثلاث ركائز رئيسية: الردع، والتحذير والحسم، وبعد حرب لبنان تم إضافة الركيزة الرابعة في عام 2007 والمُتمثلة في الدفاع عن الجبهة الداخلية، وفي إطارها تم تحصين المرافق العامة والملاجئ العائلية، وانشاء سلطة الطوارئ القومية، وتطوير منظومة صواريخ القبة الحديدة إلى جانب منظومتي صواريخ “حيتس” و”مقلاع داوود” لخلق منظومة دفاع عن الجبهة الداخلية مكونة من ثلاث طبقات.
في ضوء استخلاص العِبر من الحروب الأخيرة، يجري تحديث العقيدة الأمنية الإسرائيلية، في إطار تكثيف عمليات التدريب وتحصين البنى التحتية القومية والمباني العامة، والعمل على رفع مستوى التنسيق بين مجمل الأذرع العاملة في هذا المجال، وخلق تقاسم وظيفي للمسؤوليات، وترسيم صلاحيات واضحة بين هذه الأذرع، على الرغم من ذلك تسير الأمور في هذا الإطار بشكل بطيئ، وهناك الكثير من المجالات تنتظر إصدار قرارات بشأنها وتخصيص ميزانيات لها، واشار تقرير مراقب الدولة في إسرائيل إلى أن 1 من بين 3 مواطنين لا يمتلك ملجأ أثناء الحرب.
- تطوير الصناعات الدفاعية.
تواجه إسرائيل تحديات مهمة في مجالات مواجهة تطور قدرات الخصم، لقد مكثت الصناعات الدفاعية في إسرائيل ثلاثة سنوات للنجاح في تطوير تكنولوجي لمواجهة الانفاق، وفي الوقت الراهن هي بحاجة لبذل مزيد من الجهد والوقت والمال لمواجهة تطورات أخرى، كالطائرات غير المُسيرة التي يمكن أن يستخدمها الخصم في شن هجمات، وتحتاج لمواجهة الحرب البحرية لضرب منصات الغاز الإسرائيلية، تطوير أجهزة استشعار على طول الشواطئ وفي البحر، وتحديد موقع الآليات البحرية والغواصين التي يمكن أن تشن جهمات في حال اندلاع المواجهة، كما أن حرب السايبر مجالاً أخر يفرض تحديات جديدة تستدعي العمل إسرائيلياً لمواجهتها.
- تحييد الانفاق مقابل تأجيل المواجهة.
حرمان المقاومة الفلسطينية من الأصول الاستراتيجية يأتي في المرتبة الأولى على سلم الأولويات الإسرائيلية، لذلك فإن توفير البيئة الهادئة حالياً من أجل الاستمرار في بناء الجدار التحت أرضي يَحد من الاعتبارات الإسرائيلية في مسألة الدخول في مواجهة مع قطاع غزة، إلى درجة إمكانية تجاوز إطلاق الصواريخ بشكل نسبي، حتى لو استمر ذلك لفترة طويلة.
- الاغتيالات.
تؤشر التجربة التاريخية لإسرائيل إلى الاتجاه نحو تبني سياسة الاغتيالات باعتبارها فعالة لدفع الخصم باتجاه الانكفاء للداخل، ووضعه في حالة دفاع، والاهتمام أكثر في الحفاظ على أمن قياداته، وبالتالي انخفاض التحرك والتخطيط لهجمات ضد إسرائيل، وفي ضوء انتقال قيادات من حركة حماس للعمل في لبنان، وتعزيز العلاقة مع حزب الله وإيران من الممكن أن ترتفع وتيرة الاغتيات في الساحة اللبنانية وساحات أخرى.
حتى هذه اللحظة وفي ضوء أولويات الأطراف، لا تسير الأمور باتجاه المواجهة العسكرية الشاملة في المدى المنظور، لقد تمكنت إسرائيل من تحييد الانفاق ولكن الاخطر الاستراتيجي في حال اندلاع المواحهة يكمن في منظومة الصواريخ وهشاشة الجبهة الداخلية، والقدرة على نقل المواجهة الى مربعات أخرى، كالحرب البحرية، وحرب “الدرون”، وحرب السايبر.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية