بينما كانت الحكومة الأميركية تعلن خططها لسورية في الأسبوع قبل الماضي، بدأ حليفان أميركيان رئيسيان القتال ضد بعضهما بعضا: تركيا والأكراد في سورية. وكان وزير الخارجية الأميركية ريكس تلرسون، حاول في وقت سابق الخروج بشيء متوازن حول هذا المأزق؛ حيث أشار إلى “مخاوف تركيا الأمنية المشروعة”، لكنه أشار أيضاً إلى “مجموعة المقاتلين متعددي الأعراق الذين يدافعون موطنهم في داخل سورية”. فما هي السياسة الأميركية الحقيقية هنا، وماذا يجب أن تكون؟
تماماً مثلما طالب الأتراك منذ طويل وقت، أصبحت للولايات المتحدة الآن سياسة متماسكة في سورية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تركيا تتقاسم هذه الأهداف. أولاً، يجب حل الصراع الأساسي بين الشعب السوري ونظام بشار الأسد من خلال عملية سياسية تحت قيادة الأمم المتحدة، والتي تفضي إلى قيام دولة موحدة في مرحلة ما بعد الأسد. وثانياً، يجب أن يضمحل النفوذ الإيراني في سورية، ويجب الحفاظ على جيران سورية آمنين من كل التهديدات التي تخرج من سورية. ويفي الهدف الأول بهدفي تركيا الرئيسيين منذ العام 2011: التخلص من الأسد؛ وقيام سورية موحدة وعدم إقامة كردستان سورية مستقلة تحت الحكم الممكن للحلفاء السابقين لعدو تركيا، حركة حزب العمال الكردستاني. ويفي الهدف الثاني، التقليل من نفوذ إيران في سورية وضمان عدم خروج تهيدات من هناك، باهتمام تركيا الدبلوماسي طويل الأمد (والذي يعود وراء إلى زمن النزاعات الإمبراطورية العثمانية-الفارسية)، المتمثل في احتواء “التوسع الفارسي” كما طالب الرئيس رجب طيب أردوغان علانية مؤخراً.
على الرغم من خطاب أردوغان الرنان المعادي للغرب ونزعة الاستبداد المحلية، فإن تركيا تشترك في توجه أساسي مع الولايات المتحدة وأوروبا. ومثل تلك في الدول العربية وإسرائيل، فإن المصالح التركية تواجه التهديد من إيران التوسعية التي لقيت التمكين من روسيا، وهما العدوان التقليديان الرئيسيان لكل من الإمبراطورية العثمانية وتركيا الحديثة.
لكن تجمع المصالح هذا لا يعني أن كل شيء على ما يرام بين أنقرة وواشنطن. فلأردوغان ومعظم الشعب التركي مشاكل رئيسية مع دعم الولايات المتحدة لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي السوري وجناحه العسكري، وحدات حماية الشعب، بالإضافة إلى القوة العسكرية الكردية العربية المشتركة التي تهيمن عليها، قوات سورية الديمقراطية. وما تزال تركيا عالقة في معركة مع حزب العمال الكردستاني، المجموعة المسجلة في قائمة الإرهاب التركية، ولا تستطيع القبول بتواجد قوات سورية الديمقراطية التابعة لحزب العمال الكردستاني، كما وصفها مؤخراً الناطق بلسان أردوغان، على طول الحدود الجنوبية.
وكانت الولايات المتحدة قد واجهت صعوبات في إقناع تركيا بأن دعمها لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري ولقوات سورية الديمقراطية كان، وفق تصريحات المسؤولين الأميركيين، إجرائياً ومستنداً بشكل وحيد على فائدتهم ضد تنظيم “داعش”، في جزء منه بسبب الصلات الشخصية القوية التي تشكلت بين القوات الأميركية على الأرض وبين المقاتلين الأكراد الذين ما يزالون نشطين وفعالين ضد “داعش”. وكانت سلسلة من التحركات الأميركية المتخبطة عند كل مستوى قد جعلت الأمور أكثر سوءاً، بما في ذلك وعد قطعه نائب الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، علناً للأتراك بأن الوحدات المقاتلة الكردية سوف تنسحب إلى ما وراء نهر الفرات، بالإضافة إلى وعد الرئيس دونالد ترامب لأردوغان بوقف شحنات الأسلحة الأميركية للأكراد في الحال، وإعلان من وزارة الدفاع الأميركية الشهر الماضي بأنها سوف تدرب عناصر من قوات سورية الديمقراطية لتعمل كحرس حدود -عند الحدود التركية. وهكذا يترتب على واشنطن إخراج نفسها من حفرة عميقة وضعت فيها.
وقد باشرت بفعل ذلك بإعلانها أنها ليست لها روابط مع أي قوة أخرى تابعة لحزب الوحدة الديمقراطي السوري في الجيب المنعزل في عفرين في شمال غربي سورية. وقد هاجمت القوات التركية الجيب الآن، وحثتها الولايات المتحدة على ممارسة ضبط النفس، لكنها لم توقفها. كما واجه تلرسون صعوبات في امتداح دور تركيا في سورية، وفي الالتزام بالتعاون مع أنقرة، وانتقاد قوات سورية الديمقراطية وحزب الوحدة الديمقراطي السوري الكردي -ضمناً- لعدم السماح بما فيه الكفاية من الحكم الذاتي المحلي والديمقراطية، و”لتهديدهما” الدول المجاورة (أي تركيا).
السؤال الأكبر الآن هو، كيف تتواءم المصالح الأميركية طويلة الأمد في تركيا مع الشراكة الأميركية الناجحة جداً في ميدان المعركة، والتي دخلت عامها الثالث مع حزب الوحدة الديمقراطي السوري الكردي ضد “داعش”؟ سوف يترتب على الولايات المتحدة تثليث تحالفها الحيوي مع أنقرة، وتعهدها العلني بالحفاظ على شراكتها مع حزب الوحدة الديمقراطي الكردي السوري، (بما في ذلك حوالي 2000 مستشار عسكري أميركي) على الأقل في العامين المقبلين. وثمة طريقة للأمام، مخادعة لكنها أساسية، التوفيق بين المصالح الأميركية وبين حلفائهم الأتراك والأكراد السوريين على حد سواء.
تكمن الخطوة الأولى في تشجيع حزب الوحدة الديمقراطي السوري الكردي على النأي بنفسه أكثر عن حزب العمال الكردستاني، بينما يتم تذكير تركيا بشكل خاص بأن الحزب حافظ بشكل كبير على تعهده الذي التزم به في العام 2012 بعدم تقديم أي دعم مادي لحزب العمال الكردستاني في داخل تركيا. ومن المفيد تذكر أن تركيا عملت في العام 2015 مع الحزب بشكل جيد لتسهيل العمليات العسكرية الناجحة ضد “داعش” في مدينة كوباني، “عين العرب”، التي تقع مباشرة على الحدود التركية، ثم تم الاحتفاء بزعيم الحزب، صالح مسلم، كضيف شرف على الحكومة التركية. لكن هذا الوفاق الهش سقط ضحية لانهيار وقف إطلاق النار بين حزب العمال وتركيا وانهيار مباحثات السلام في وقت لاحق من ذلك العام -وهو ما جعل الدعم العسكري الأميركي لحزب الوحدة الديمقراطي السوري مصدر توتر دائم للعلاقات مع تركيا.
يجب أن تتمثل الخطوة التالية في إقامة قنوات مباشرة لاستئناف المباحثات بين حزب الوحدة الديمقراطي السوري الكردي وتركيا، وبين الحزب وما تبقى من الاتجاه السائد في المعارضة العربية السورية المعتدلة، والذين سوف تدعمهم تركيا. ومن خلال اتصالاتنا الهادئة وغير الرسمية على مدار الشهور القليلة الماضية مع كل الأطراف، بدا أنها منفتحة على مضض على هذا الخيار. وبعد ملاحظات تلرسون، ذهب الناطق الأوروبي السابق بلسان الحزب، نواف خليل، إلى حد الترحيب علانية بهذا التصريح عن التزام أميركي “متوازن” مع كل الحلفاء في سورية وما حولها. وتشترك كل هذه الأطراف بمصلحة قوية هي معارضة الأسد وإيران وتجنب النزاع المسلح بينها، والحفاظ على روابطها الأمنية والدبلوماسية الثنائية مع واشنطن.
أما الخطوة الثالثة فأكثر صعوبة، لكنها ضرورية بإلحاج. وهي تتعلق بتطمين تركيا، حتى بطريقة أكثر صراحة مما قاله تلرسون أخيراً من أن الولايات المتحدة سوف تعارض بقوة أي انفصال كردي أو توسع مناطقي في سورية، وأي محاولات مستقبلية من جانب حزب الوحدة الديمقراطي السوري الكردي للتعاون مع حزب العمال الكردستاني في داخل تركيا. وفي المقابل يجب على الولايات المتحدة تطمين أصدقائها الأكراد السوريين بأن واشنطن سوف تعمل مع تركيا لمنع أي توغلات تركية أو أي عمليات عسكرية في داخل الجيوب التي تقع تحت سيطرة حزب الوحدة الديمقراطي الكردي السوري في شرقي سورية، وسوف يجعل التواجد العسكري الأميركي الصغير المستمر في تلك الجيوب من ذلك الالتزام أكثر مصداقية. وعلى المدى الأطول، قد يكون من الممكن تشكيل ائتلاف إيجابي غير رسمي بين هذه الأطراف الإقليمية المتعادية راهناً، ائتلاف يعزز النفوذ الموالي لأميركا والمعادي لإيران والمعادي للأسد وراء الزاوية الشمالية الشرقية من سورية. ومن دون هذا التعاون، الذي يشمل حزب الوحدة الديمقراطي، فإن التواجد الأميركي في شمال شرقي سورية -وبذلك سياسة واشنطن السورية برمته- سوف يكون من الصعب إدامتها. ولن يصب ذلك في مصلحة تركيا، خاصة إذا أفضى إلى إقدام تركيا على احتلال كل شمال شرق سورية في وجه مقاومة شرسة، أو السماح بأن تقع تلك المنطقة (والقوة العسكرية الموالية للأكراد هناك) تحت سياط نظام الأسد ونظام إيران.
قد يبدو هذا التصور طوباوياً الآن، لكن من الجدير تذكُّر أن تركيا والأكراد العراقيين كانوا أعداء قبل أقل من عقد –وقد أصبحوا اليوم أصدقاء؛ حيث يتدفق النفط يومياً من كردستان العراق إلى تركيا.
ليس “الصراع العرقي القديم” بين الأتراك والأكراد حاجزا يستحيل تخطيه من أجل تحقيق مصالح استراتيجية واقتصادية مشتركة -خاصة في وجه أعداء مشتركين.
ويكمن المفتاح في نبذ الأكراد لحلم زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوغلان، ويجب على الأتراك القبول بدرجة ما من الحكم الذاتي المحلي الكردي في الدول المجاورة، في مقابل الجائزة الأكبر، وهي احتواء إيران والأسد وروسيا -وكلها تشكل تهديداً أكبر لتركيا وحزب الوحدة الديمقراطي السوري الكردي. ومن شأن هذه التسوية أن تخدم المصالح التركية والكردية والأميركية جميعاً.
جيمس جيفري؛ وديفيد بالوك
صحيفة الغد