اعترفت السلطات العراقية بأنّ هناك هروباً جماعياً في أوساط الشرطة العراقية في الرمادي، وبما يصل إلى النصف. وقبل ذلك، أقرّت أيضاً بأنّ تنظيم “داعش” استطاع قتل عدد من أبرز القيادات العسكرية العليا في الفرقة الأولى بالأنبار.
بهجة الانتصارات التي تحققت في الفترة الأولى في تكريت، تراجعت كثيراً مع اشتداد المعارك الحالية في صلاح الدين مرّة أخرى؛ والانتصارات التي حققها التنظيم في الأنبار، بالرغم من مشاركة الطيران الحربي الأميركي والعراقي بضراوة في المعارك، إذ هناك كرّ وفرّ في الميدان، ولا يوجد أي اختراق عسكري حقيقي إلى الآن.
من يتذوق المأساة في أسوأ تجلياتها إنسانيا اليوم، هم سُنّة العراق. فهم محاصرون مهددون وجودياً وإنسانياً واقتصادياً وثقافياً، ما بين العنف والبطش الذي تمارسه المليشيات الشيعية الطائفية (الحشد الشعبي)، وما يمارسه تنظيم “داعش” بحق خصومه، هذا فضلاً عن القصف الجوي الذي يقتات على الأطفال والمدنيين بلا رحمة.
أكثر من مائتي ألف هربوا من الأنبار إلى بغداد، بحثاً عن ملاذ آمن من المعارك الدامية هناك. لكن رفضت الحكومة السماح لهم بالدخول، إلاّ من يأتي بكفيل، وكأنّهم في أوطان أخرى! فيما ما يزال خصوم تنظيم الدولة في الرمادي والأنبار ينتظرون السلاح الموعود من الأميركيين والحكومة العراقية، وهم يواجهونه (التنظيم) بأقل أسلحة وعتاد، ويدفعون ثمناً باهظاً لذلك.
أحد الرهانات الغربية والعربية، أمنياً وعسكرياً، تمثّل في أنّ الضغط على “داعش” في العراق، سيدفعه إلى التراجع والتركيز على الساحة السورية. إلاّ أنّ ما حدث كان العكس تماماً؛ إذ سحب التنظيم آلاف الأتباع إلى الأنبار والمناطق الأخرى، ليؤكد على أنّ معركة العراق هي معركة وجودية-مصيرية بالنسبة له. وهذا ليس بالأمر الغريب، فقيادة التنظيم ونسبة كبيرة من أتباعه اليوم، هم من العراقيين السُنّة، ومعركتهم وحربهم في العراق تحديداً.
بالنتيجة، هزيمة التنظيم ليست أمراً سهلاً من الناحية العسكرية، إلاّ إذا تمت إبادة المجتمع السُنّي، الذي أصبح التنظيم يمتلك حاضنة اجتماعية فيه، نتيجة ظروف الإقصاء والتهميش. وأي حديث عن حل عسكري من دون حلول سياسية جوهرية حقيقية، تؤدي إلى تفكيك العلاقة بين التنظيم وحاضنته الاجتماعية أولاً، وتفكيك التنظيم من الداخل ثانياً، هو حل بعيد المنال.
تلك هي المعادلة الذهبية التي تحكم مستقبل “داعش” والتيار الذي يمثله، وهذه هي المتغيرات الرئيسة. فبالرغم من أنّ التنظيم يحمل بذور فنائه في ذاته، وهو حالة طارئة بالتأكيد على السُنّة العراقيين وثقافتهم وحياتهم، إلاّ أنّ هناك شروطاً وروافع أخرى أكثر ديناميكية تعطي التنظيم القدرة على الاستمرار والتواصل والصمود.
على ذلك، فإن أي حديث عن السيناريوهات القادمة، أو التوقعات بخصوص “داعش”، ما لم تستند إلى هذه المعادلة، ستظل تقييما سطحيا غير مقنع. وربما تجدر هنا العودة إلى حالة حركة “طالبان” التي هزمت في حرب أفغانستان العام 2002، لكنّها عادت للظهور والبروز، طالما أنّ الشروط والأسباب التي تقف وراءها ما تزال فاعلة ونافذة!
المفتاح الرئيس في فهم وإدراك صعود “داعش” في العراق، ثم في سورية، يتمثّل في الأزمة السُنّية، أو بعبارة الصديق الإعلامي العراقي، عثمان المختار: “الهولوكوست السني”. فما يحدث من إقصاء واستهداف ومعركة وجودية، مع انكشاف عربي ونفوذ إيراني، يتخللها مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين وصراعات الهوية الطائفية، كل ذلك خلق هذا “الوحش”- فرانكشتاين، الذي يدّعي أنّه يدافع عن السُنّة، ويقابله بالمناسبة “فرانكشتاين” شيعي.
هزيمة “داعش”، من دون حلول حقيقية وإعادة بناء موازين القوى في المنطقة، هي مجرد وهم كبير. والأخطر أن يتم تأسيس أرضية للحالة الطارئة الجديدة، عبر تجنيد عدد أكبر من السُنّة، وتنشئة أجيال جديدة تكتوي بنار الهولوكوست السُنّي!
محمد ابو رمان
الغد