موسكو – نجح فلاديمير بوتين منذ تسلّمه مقاليد السلطة في عام 2000 إثر تنحي أول رئيس للاتحاد الروسي بوريس يلتسين عن الحكم في آخر يوم من عام 1999 في رسم صورة تبدو مغايرة عن أسلافه الذين حكموا البلاد خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في العام 1989، إلى درجة أن الرجل الحالم بإعادة أمجاد الإمبراطورية السوفييتية تمكّن من إعادة البريق للمعسكر الشرقي بنجاحه خاصة في ضمّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى صفّه عقب قمة هلسنكي.
ورغم نجاح بوتين أيضا في كسر تلك الصورة النمطية لروسيا القيصرية، إلا أنه وفق كل المراقبين يستلهم كل ممارسات الزعماء السوفييت وخاصة منها الاستخباراتية، وهنا لا يختلف عاقلان في أن رجل الـ”كيه.جي.بي” تمكّن عبر استحواذه على أجهزة الأمن الفيدرالي من تصفية كل الخصوم في الداخل ليجد بالنهاية عدد كبير من المسؤولين والإداريين الروس أنفسهم في السجون بتهم الفساد، أو بعض العلماء بتهم متفاوتة تبقى على رأسها تهم مساعدة أوكرانيا.
وأصبح بوتين منذ ترؤسه روسيا في عام 2000 هو الذي يتخذ القرارات ويحدد الوجهات ويقوم بلعب الدور القديم لـ”المكتب السياسي”، التي كان لأجهزة الأمن الفيدرالي دور كبير فيها.
ولم يأت تمكن بوتين من بسط قبضته على الاستخبارات من فراغ أو بصفة اعتباطية، إذ أن الأجهزة السرية الروسية في مختلف مراحلها منذ فترة القياصرة الروس، وصولا إلى الحقبة الحالية، ومرورا بالفترة السوفييتية وجهازها الشهير الـ”كيه.جي.بي”، هي من بين الأكثر شهرة في العالم وهو ما جعل الفرنسي أندريه كوزوفوا، المختص في العالم الروسي عامة والحقبة السوفييتية خاصة، يقدّم كتابا تحت عنوان “الأجهزة السرية السوفييتية” ويحدد الفترة الزمنية التي درسها من “القياصرة إلى فلاديمير بوتين”.
بوتين منذ ترؤسه روسيا في عام 2000 أصبح هو الذي يتخذ القرارات ويحدد الوجهات ويقوم بلعب الدور القديم لـ”المكتب السياسي”، التي كان لأجهزة الأمن الفيدرالي دور كبير فيها
وعاد المؤلف في كتابه إلى قضايا شهيرة في مسار الأجهزة السرية الروسية مثل “يد موسكو” و”الجواسيس الخمسة في كامبريدج” و”ضربة المظلّة البلغارية” و”وخزة تروتسكي” و”إعدام روزنبرغ” و”قتل ألكسندر ليتفينكو بالسم”. وأدت كل هذه القضايا المهمة في محطات التاريخ السرّي الروسي، وفق الكاتب، إلى أن ينهل منها بوتين كل الممارسات والسلوكيات.
وجعلت قوة بوتين وسطوته على مراكز النفوذ في روسيا منه حديث العالم، حيث نشرت مجلة “فورين أفيرز” الأميركية تقريرا لأندري سوداتوف كشف فيه عن جهاز المخابرات السري الذي كان يعتمد عليه بوتين في مهماته الصعبة.
ويقول أندري سوداتوف، وهو خبير أمني روسي، إنه وعلى إثر احتجاجات لم تكن حاشدة أو ذات طابع سياسي إلا أنها كانت منسقة بشكل جيّد ضربت تسع بلدات بالعاصمة موسكو بسبب الروائح الكريهة المتأتية من مراكز النفايات تم استدعاء مسؤول من منطقة سيرباخوف، ألكسندر شيستون إلى الكرملين.
ويضيف أن شيشتون التقى مع إيفان تكاتشيف، وهو جنرال من جهاز الأمن الفيدرالي، أي وكالة الاستخبارات الروسية القوية وسليلة جهاز الشرطة السرية في العهد السوفييتي، “كيه.جي.بي”.
ويؤكّد أن شيشتون كان متخوفا من الاجتماع، فقرر تسجيل المحادثة بشكل سري، لينشرها لاحقا على موقع يوتيوب. وكشف سوداتوف أن التسجيل المذكور هدد فيه تكاتشيف شيستون، بقوله له “ستُسحق إذا لم تستقل، ستكون في السجن. مثل كثيرين قبلك، أنت لا تفهم، إنها عملية ‘تطهير’ كبيرة”.
وأكد الكاتب أن شيشتون ألمح إلى أن تكاتشيف كان يتلقى الأوامر من الكرملين، بذكر أسماء العديد من المسؤولين الكبار الذين تم سجنهم بالفعل، بمن في ذلك جنرال من وزارة الداخلية إضافة إلى اثنين من المحافظين، حتى أن تكاتشيف يلمح في حديثه إلى أن أندريه فوروبيوف، محافظ منطقة موسكو والرئيس السابق للحزب الحاكم “روسيا المتحدة”، يمكن أن يكون الهدف التالي.
ويوضّح سوداتوف أن محاولة جهاز الأمن الفيدرالي إسكات صوت شيستون لم تكن حادثة منعزلة، بل هي مواصلة لسلسلة نهج الرئيس بوتين القائم على الترهيب والقمع الانتقائي الذي يديره الكرملين وينفذه جهاز الأمن الفيدرالي. وكانت هذه الحلقة مثالا كاشفا لنوع حكم القيصر الجديد القائم على جهاز الأمن الفيدرالي الذي طوره على مدى السنوات الثلاث الماضية، والدور الذي تضطلع به أجهزة الاستخبارات من ضمنه.
يتمتع أعضاء جهاز الأمن الفيدرالي بمكانة “النبلاء الجدد”، منذ صعود بوتين إلى سدة السلطة في العام 2000. وتموّل الوكالة بسخاء، وحصّنت من الرقابة وأعطيت لها صلاحيات واسعة وحرة في التصرف ضد “أعداء” الكرملين.
ووفرت وكالة الأمن الفيدرالي الموارد البشرية للجنرالات والكولونيلات لشغل مناصب مهمة داخل الدولة وشركاتها الكبرى. ويؤكد سوداتوف أن جهاز الأمن الفيدرالي أصبح في فترة وجيزة من الزمن هو النخبة الحقيقية التي تقود البلاد.
ويستشهد بأن بوتين عمد خلال سنوات حكمه الأولى إلى التخلص من لامركزية أجهزة الاستخبارات الروسية التي حدثت في التسعينات، وهي مهمة شملت إلى حد كبير تركيز السلطة داخل جهاز الأمن الفيدرالي، والسماح لأفراده بجمع الثروة والنفوذ السياسي.
وأمل بوتين بأن يقوم ذلك بتحويل أجهزة الاستخبارات إلى شيء يشبه طبقة جديدة واحدة موالية للكرملين، لها مصلحة في استقرار النظام وقادرة على أن تكون بمثابة ضابط لطموحات الأوليغارشية القوية في روسيا.
ورغم كل هذا النفوذ واستخدامه لغرفة العمليات السرية لجهاز الأمن الفيدرالي، يعتقد الكثير من الروس أن فلاديمير بوتين هو المخلّص الذي أنقذهم من الانهيار الاقتصادي والفساد، والقائد الذي استعاد لهم أمجاد روسيا السابقة، ولكن لا يؤيد الجميع هذه الرؤية، فهناك من يرى أن بوتين لم يفعل سوى ركوب موجة شرعنة الفساد واستعمال السياسة العسكرية والاستخباراتية لتوطيد سيطرته الشخصية على السلطة باللعب على حنين الروس للماضي أو إلهائهم بتحدّي “العدو الغربي”.
وأوهم بوتين، وفق الدارسين للتطور العجيب في روسيا، الجميع بشكل سريع بأنه الضامن لمستقبل روسيا غير كاشف عن أجهزته السرية التي ساهمت في ضبط رجال الأعمال وإقصائهم من اللعبة السياسية وسجن من قاومه منهم، مثل رئيس مجموعة يوكوس النفطية ميخائيل خودوركوفسكي الذي أطلق سراحه سنة 2013 بعدما أمضى عشر سنوات خلف القضبان.
ولترسيخ هذه الصورة لدى الروس، عمل الكرملين بتوصيات مباشرة من بوتين وبتنفيذ من إدارة الأمن الفيدرالي على ضبط الشبكات التلفزيونية التي كانت تتمتع بحرية تعبير موروثة من التسعينات، لأنها لم تكن تنال رضاه، فتحولت كل الشبكات التلفزيونية تقريبا إلى خدمته وفي خدمة “القيصر الجديد”.
ولتوطيد علاقته بالروس، اتبع رجل المخابرات الذي لم يتخلص من إرثه في الـ“كيه.جي.بي” على تطوير “عبادة” الشخصية من حوله ويعتني بصورته، فيظهر وهو يمارس الجودو أو عاري الصدر يمتطي حصانا، أو يقود طائرة قاذفة للمياه لإخماد حريق. وللمحافظة على صورته المنتشرة بين الروس، أحاط بوتين نفسه بأجهزته السرية، فعلاوة على جهاز الأمن الفيدرالي، تمكن من ضم الدائرة الفيدرالية لمكافحة المخدرات وجهاز الأمن الرئاسي إلى صفّه رغم علمه الكبير بأن كل هذه الأجهزة تتجادل وتتقاتل، وتتجسّس على بعضها بعضا وتسجن وحداتها عناصر من الأخرى في سباق التنافس على الغنائم.
هنا، يُبيّن سوداتوف أنه بالرغم من السيطرة على جهازه السرّي، فإن ثقة بوتين في جهاز الأمن الفيدرالي كانت في بعض الأحيان في غير محلها، إذ فشلت الوكالة في التنبؤ بالاحتجاجات الضخمة التي ضربت موسكو في العام 2011، ثم بمجرد اندلاع الاحتجاجات، كانت عاجزة عن الاستجابة لاستخدام المتظاهرين لوسائل الإعلام الاجتماعية في التعبئة والتنظيم. حيث أرسلت موسكو فريقا من جهاز الأمن الفيدرالي إلى هناك لمساعدة حليفها الرئيس فيكتور يانوكوفيتش.
ويضيف أن الأهمية الكبرى التي كانت بالنسبة للكرملين، هي ملف أوكرانيا، الدولة الأكثر أهمية بين جميع الجمهوريات السوفييتية السابقة، وكان إبقاؤها ضمن مدار النفوذ الروسي أمرا بالغ الأهمية. ولكن فشل ضباط جهاز الأمن الفيدرالي في مساعدة يانوكوفيتش على البقاء في السلطة كما فشلوا حتى في رؤيته وهو يفقد أعصابه ورباطة جأشه، وأُخذوا بالمفاجأة عندما فر من العاصمة في فبراير من العام 2014.
وكالة الاستخبارات الروسية القوية وسليلة جهاز الشرطة السرية في العهد السوفييتي “كيه.جي.بي”. يتمتع أعضاء جهاز الأمن الفيدرالي بمكانة “النبلاء الجدد”، منذ صعود بوتين إلى سدة السلطة في العام 2000. وتموّل الوكالة بسخاء وحصّنت من الرقابة وأعطيت لها صلاحيات واسعة.
كان فشل بوتين في ملف أوكرانيا بمثابة الفخ الذي وقع فيه ولم يعد بوسعه الخروج منه إلا بتغيير مخططه الاستخباراتي، حيث يشير سوداتوف إلى أنه عمد في عام 2015 إلى التخلص من الأصدقاء القدامى الذين كانوا مؤيدين ومستفيدين من الدور الموسع للأجهزة السرية.
وأكّد أنه أطاح بحليفه السابق فلاديمير ياكونين، وهو ضابط سابق في الـ”كيه.جي.بي”، من منصبه كرئيس لصناعة السكك الحديدية التي تملكها وتحتكرها الدولة في روسيا. ثم في العام 2016، تعامل مع الثنائي إيفانوف، فقام بإقالة فيكتور وبحل الدائرة الفيدرالية لمكافحة المخدرات في مايو، ثم قام بتخفيض رتبة سيرجي، رئيس موظفيه، في أغسطس.
كما أجبر على التوقّف أيضا عن استخدام جهاز الأمن الفيدرالي كقاعدة للتعيين بالمناصب المهمة في الحكومة والاقتصاد. ولم يكن الهدف من هذه التغييرات جعل أجهزة الاستخبارات أقل أهمية، بل للحد من استقلاليتها. ليظهر بوتين وكأنه في وضع التخلي عن فكرة ترسيخ نظام حكم مستقر بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ليلعب النبلاء الجدد (مسؤولو جهاز الأمن الفيدرالي) دورا حاسما. وبدلا من ذلك، كان يوضح أن ما يحتاجه هو أداة، صرفة وبسيطة، لحماية نظامه فحسب.
وينبئ نموذج بوتين الجديد بعدم وجود متّسع كبير للتنافس والعداوات بين الوكالات والأجهزة. فقد أصبح جميع البيروقراطيين في روسيا، من الوزراء إلى جنرالات جهاز الأمن الفيدرالي إلى المسؤولين الإقليميين، يواجهون الآن المستقبل غير المؤكد نفسه.
وكل هذا، يحتّم بالضرورة أن تصبح النخب في البلاد تحت السيطرة، حيث يخاف الجميع من القيام بخطوة غير مصرح بها. ويبدو بوتين مستعدا للتضحية حتى بالقدرة على التخطيط للمدى الطويل ولذلك لا أحد يتجرأ من البيروقراطيين الخائفين، أو حتى الجواسيس، على التخطيط للمستقبل. ويعتبر الكثير من المراقبين أن بوتين ورغم قوته وسيطرته المطلقة على أجهزة الاستخبارات إلا أنه غير مستعد لفهم أن المشكلة الرئيسية في النموذج السوفييتي عادة ما كانت متمحورة في وكالات جمع المعلومات، بما في ذلك جهاز المخابرات السوفييتية “كيه.جي.بي”.
ومن المفارقات أن بوتين لم يفهم هذه مشكلة أبدا. رغم أنه لاحظ مسبقا أجهزته السرية وهي تخفق وتخذله في لحظات الأزمات، كما حدث أثناء احتجاجات موسكو. ولكنه يعرّض نفسه، وفق سوداتوف، بأسلوبه في إصلاح هذه الأجهزة إلى عواقب ربما تكون أكثر كارثية.
رغم كل الإرهاصات في تعامله مع أجهزته السرية، فإن كل الرهانات التي نجح فيها بوتين لأكثر من عقدين تقوي احتمالات ديمومة نظامه بفضل عدم وجود انقسامات كبرى في الرأي العام بشأن دعمه في الوقت الحالي. وبالإضافة إلى كل هذا، فإن سيطرة بوتين المباشرة على الجهاز الأمني تجعل من أي تغيير أمرا مستبعدا إلى حد كبير، في وقت تبدو فيه احتمالات حدوث انقلاب في الكرملين أو أي أزمة أخرى غير متوقعة ضئيلة بنفس القدر، مما يجعل التعامل مع موسكو يتطلب تفكيرا استراتيجيا طويل الأمد.
العرب