في أول رد فعل علني للمرشد الأعلى الإيراني على الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة والأزمة الاقتصادية المتصاعدة، حاول آية الله علي خامنئي، أن يحوّل مسار الغضب الشعبي نحو حكومة الرئيس حسن روحاني. وأعلن خلال خطاب متلفز نقلته المحطات المحلية في ١٣ آب/أغسطس قائلاً: “يتفق معظم الخبراء الاقتصاديين والعديد من المسؤولين على أن العقوبات لا تسبب جميع هذه المشاكل بل تنبع من الشؤون الداخلية، وأسلوب الإدارة، وتخطيط السياسة التنفيذية”. ويتناسب هذا الكلام مع تسليط الإعلام الضوء على الفساد بدلاً من العقوبات الدولية، في التقارير التي نُشرت عن الصعوبات الاقتصادية. كما أشار خامنئي إلى روحاني وفريقه فيما يتعلق بالانهيار الجزئي للصفقة النووية، بحجة أنهم يسيئون إدارة المفاوضات مع الحكومة الأمريكية غير الجديرة بالثقة. وفي أغلب الظن، ستمنح تصريحاته العناصر العسكرية المتشددة مساحة أكبر للتدخل في الشؤون المدنية للحكومة.
هل هي نقطة تحوّل لروحاني؟
من خلال خطابه، حاول خامنئي بوضوح إقناع الإيرانيين – لا سيّما أولئك الذين يدعمون السياسيين الإصلاحيين والمعتدلين – بأن روحاني هو المسؤول عن النتيجة البائسة لـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» وما تلاها من تزايد الضغوط الأمريكية. وفي هذا الصدد، قال المرشد الأعلى بأن الحكومة تجاهلت تحذيراته مراراً وتكراراً بشأن عدم موثوقية واشنطن وعدائها الراسخ تجاه الجمهورية الإسلامية.
وفي أحد التصريحات بدا خامنئي وكأنه يشعر بالندم، حيث اعترف بأن المساومة على مبادئه والسماح لـ “تجربة” «خطة العمل الشاملة المشتركة» بالمضي قدماً في المقام الأول كان “خطأي [الشخصي]”. ولكن بعيداً عن واقع الاعتراف بخطئه، كان يسلط الضوء بشكل ساخر على الأخطاء الاستراتيجية المفترضة لروحاني وعجزه الدبلوماسي، زاعماً أن إصرار الرئيس الملحّ على التوصل إلى اتفاق بأي ثمن كان قد دفع البلاد إلى الفشل، وأدى إلى معاناة الشعب الحالية، و”عَبَرَ الخطوط الحمراء المحددة”. وتنذر العبارة الأخيرة بالسوء بصفة خاصة لأنها تمنح المتشددين أساساً الضوء الأخضر لتكثيف ضغوطهم على روحاني وإعاقة قدرته على متابعة أجندته الخاصة.
وبالمثل، من خلال مواصلة وصف الحكومة بأنها غير كفؤة، يشجّع خامنئي «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني، والقضاء، وغيرهما من معاقل النفوذ المتشدد على التدخل في شؤونها، لا سيما في المجال الاقتصادي. وفي نهاية المطاف، قد يُنظر إلى خطاب الثالث عشر من آب/أغسطس على أنه نقطة تحول في المصير السياسي لروحاني، ومن المحتمل أن يعجّل حصول تراجع كبير في سلطته خلال السنوات المتبقية من ولايته الثانية. ولعل الأهم من ذلك، أن حلفاءه السياسيين – ولا سيما المعسكر الإصلاحي – قد يدفعون ثمناً باهظاً خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة وغيرها من المنافسات.
تخندق في مواجهة الضغط الخارجي
فيما يتعلق باحتمال فتح مفاوضات جديدة مع “نظام أمريكا المستبِدّ والمُتطلّب”، رفض خامنئي هذه الإمكانية بشكل أساسي، مجادلاً بأنّه لا ينبغي النظر إلى مثل هذه المحادثات كطريقة تقلّل فيها إيران من العداء الأمريكي، بل كأداة قد تستخدمها واشنطن “لتحقيق عدائها على نحو أفضل ومواصلة أجندتها”. ثمّ اتخذ موقفاً أكثر وضوحاً إزاء إدارة ترامب، بقوله: “حتى إذا ما تفاوضنا مع الأمريكيين ولو نظرياً، فإننا بالتأكيد لن نتفاوض مع الإدارة الحالية”. كما استخدم هذه اللهجة من التحدي في تقييمه للوضع الداخلي الإيراني: “يمكننا الدخول في لعبة التفاوض الخطيرة مع أمريكا فقط عندما نصل إلى الهدف الاقتصادي والسياسي والثقافي المثالي لسلطتنا، ونصبح بمعزلٍ عن غوغائها وضغوطها. لكن في الوضع الحالي، من المؤكد أن المفاوضات ستكون ضارة لنا”.
ووجّه خامنئي انتقادات إلى حلفاء الولايات المتحدة أيضاً. فاتهم المملكة العربية السعودية وإسرائيل بمساعدة واشنطن على إثارة احتجاجات جماهيرية والتحريض على “الإرهاب” في كانون الأول/ديسمبر الماضي من خلال التدخل السياسي والمالي. كما هاجم منتقدي الأنشطة الإقليمية الإيرانية، وحرص بشكل خاص على الدفاع عن تورط النظام المستمر في اليمن وسوريا والعراق. ومع ذلك، فقد استبعد القلق العام المتصاعد بشأن حرب محتملة مع الولايات المتحدة: “لن تكون هناك حرب … لن نشرع في حرب أبداً، كما لن تقوم الولايات المتحدة بذلك، لأنها ستكون ضارة تماماً لها … لقد أثبتت الأمة الإيرانية أنها ستلحق ضرراً أكبر بأي معتدٍ.“
واثق على الرغم من الاضطرابات
أكّد الخطاب ظاهرياً ثقة خامنئي المتنامية بنفسه داخل البلاد وخارجها، وكان ذلك من خلال نداءاته المتكررة لـ “المقاومة” في السياسة الداخلية، والمغامرات الإقليمية، والسياسة الاقتصادية. حتى أنه “قاوم” الواقع في بعض الأحيان من خلال عرضه صورة وردية عن المشاكل الحالية للجمهورية الإسلامية.
ومجدداً استهدف هذا الخطاب بشكل أساسي نخبة روحاني وداعميه. فقد اتهمهم خامنئي بالتسبب في صعوبات اقتصادية وتقويض شرعية النظام ومصداقيته، سواء من خلال الافتقار إلى الخيال الاستراتيجي أو عدم الكفاءة في إدارة الأزمات أو معارضة سياساته “الإسلامية” أو كل ما سبق. ووفقاً لخامنئي، تشكل “المقاومة العنيدة” السبيل الوحيد للنجاة من الضغوط الأجنبية وترسيخ الثورة – وهذا رمز لترسيخ سلطته ضد المنافسين المحليين. وأعرب عن أمله في أن تثمر التجربة المريرة لـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» عن حكمة مقاومته العنيدة للاحتجاجات في الشوارع والمطالب الأخرى لزيادة الديمقراطية. وبرأيه، يجب على التجارب الأخيرة أن تعلّم الإيرانيين المتشكّكين أن أي أمل في البحث عن بديل لنهج المقاومة هو بمثابة “سذاجة” أو حتى “تعاون غادر مع العدو”.
وقبل الخطاب، كان بعض المراقبين قد لاحظوا استجابة النظام المترددة على ما يبدو لأشهر من الاضطرابات المنخفضة الحدّة، بل المتواصلة، التي قادها المحتجون الغاضبون بشأن ظروفهم المعيشية والفساد الاقتصادي. وبعد أن استخدم المعارضون السياسيون المظاهرات الواسعة النطاق كفرصة لانتقاد خامنئي بشكل مباشر، شعر بعض المسؤولين بالقلق، وحذّروا القادة من أن استمرار التأخير في الإصلاحات التي طال انتظارها قد يحجب مستقبل الجمهورية الإسلامية أو حتى قد يسبب في انهيارها الوشيك. وتفاقمت هذه المخاوف عندما امتنع النظام بشكل لافت عن القيام بعمليات قمع قد تؤدي إلى نتائج عكسية على الاحتجاجات.
ومع ذلك، تشير تصريحات خامنئي الأخيرة إلى أنه غير منزعج من الاضطرابات. على سبيل المثال، من أجل تهدئة مؤيدي النظام والتبجح بموقفه المتحدي أمام الأعداء الأجانب والمعارضين المحليين، أرسل مكتبه بياناً موجزاً إلى وسائل الإعلام المحلية في ٨ آب/أغسطس بعد اجتماعه مع مجموعة من “الناشطين الثقافيين الإيرانيين في الخارج”. ورداً على سؤال الناشط، الذي لم يتم الاعلان عن اسمه، والذي ذكر أن المؤيدين خارج إيران قلقون بشأن مستقبل النظام، قدّم خامنئي إجابة جازمة أراد أن يسمعها الجميع: “لا ينبغي أن يكون لديهم أي قلق على الإطلاق. لا يمكن لأحد أن يفعل أي شيء “.
الفساد: التهديد والفرصة
يميل الإيرانيون إلى اعتبار الفساد المنهجي المستشرى في البلاد مصدراً رئيسياً للفوضى الاقتصادية. وينظر إليه البعض على أنه أكثر تدميراً من العقوبات الدولية. وبالتالي، يعمد المتشددون إلى استغلال اضطرابات متكررة في هذا الموضوع أو حتى إثارتها كذريعة لإلحاق الضرر بحكومة روحاني، والتدخل في صلاحياته بموجب الدستور الإيراني، وإطلاق دعاية جماهيرية تصور هؤلاء المتشددين كمتعاطفين حقيقيين مع معاناة الناس. في ٣ آب/أغسطس، على سبيل المثال، قام أحمد الهُدى – إمام متشدد بارز في مدينة مشهد يعمل كممثل لخامنئي في محافظة خراسان رضوي – بوصف الاحتجاجات على أنها رد فعل مبرر لموقف الحكومة غير المسؤول، حيث قال: “أيها الثوريون، إنزلوا إلى الشوارع إذا لم تتم معالجة مطالبكم!”
وفي الواقع، قد تؤدي الاضطرابات في النهاية إلى مساعدة خامنئي ودائرته الاستبدادية، بشرط أن تظل محدودة بما يكفي ليتم التحكم بها وألّا تُظهر أي احتمال للتحول إلى حركة أوسع مناهضة للنظام، في الوقت الذي تعمل على تخويف المواطنين العاديين بما يكفي لجعلهم يرحّبون بتدابير أمنية داخلية إضافية. إنّ هذا النوع من الاضطراب الاجتماعي يمنح النظام النفوذ والشرعية لفرض المزيد من الأمن في المجال العام وإضعاف المجتمع المدني وتهميش المعتدلين. يبدو أن طهران ترى أنّ المرحلة الراهنة هي بمثابة نقطة تحول، تتضاءل فيها مخاوف الأمن القومي بسبب آلية القمع الناجحة في الداخل والإنجازات الإقليمية لشبكة الميليشيا المتعددة الجنسيات الخاصة بها. فكلما كان النظام – ولا سيّما «الحرس الثوري» الإيراني – يعتقد أنه بإمكانه التحرر من مطالب السياسيين والعمليات الديمقراطية والموافقة العامة، كلما سعى أكثر من أجل السيطرة الكاملة على المؤسسات المدنية والمؤسسة الدينية والهيئات الأخرى. ومن هذا المنطلق، من المحتمل أن تتوقع قيادة «الحرس الثوري» عملية أقل خطورة لتولي الحكم ما بعد خامنئي.
وتأمل إدارة ترامب أن تؤدي المشاكل الاقتصادية إلى دفع إيران نحو إجراء تغيير في سياسة النظام، إن لم يكن تغييراً صريحاً للنظام. ويبدو أن خامنئي موافق على ذلك، إلاّ أنّ خطته تركّز على جعل البلاد أكثر مقاومة للإصلاح والانخراط مع العالم الخارجي، وتعمل على وضع المزيد من القوة بين أيدي أكثر العناصر تشدداً. وإذا كان بإمكانه النجاح في هذه الخطة، فإن ذلك سيحدد مستقبل إيران.
مهدي خلجي
معهد واشنطن