من بين خلاصاتٍ بارزةٍ يُمكن الخروج بها بالنسبة للنهج التركي في التعاطي مع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة أن تركيا لم تنجح في أن تكون فاعلاً رئيسياً مؤثراً في الصراع، وفي جذب الاهتمام بأهمية دورها، وأن التكاليف التي حصدها الرئيس رجب طيب أردوغان من هذا النهج، إن على مستوى هزيمة حزبه في الانتخابات المحلية أخيراً أو على مستوى تحجيم دور أنقرة في الصراع، كانت أكبر من الفوائد التي تطلّع إليها. وقد تُساعد هذه الخلاصة، إلى حدٍّ كبير، في تفسير أسباب التحوّل أخيراً في هذا النهج نحو تصعيد الموقف ضد إسرائيل على ثلاثة مستويات أساسية: الاقتصاد، وتعزيز الاحتضان السياسي لحركة حماس، والانخراط بشكل أكبر في الجهود القانونية الدولية لإدانة إسرائيل أمام العالم. مع ذلك، لا يشكّل هذا التحول تغييراً جذرياً في السياسة التركية العامة إزاء الصراع بقدر ما يعكس تغييراً في الأساليب لتحقيق ما عجز عنه النهج السابق.
من الأهداف الرئيسية التي وضعها أردوغان للسياسة التركية في الصراع إنهاء الحرب الإسرائيلية على غزّة، وضمان دور لتركيا في مستقبل غزّة، ومعالجة الكارثة الإنسانية الفظيعة التي خلّفتها الحرب على الفلسطينيين، وإيجاد بيئة مناسبة لدفع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى مرحلة الحل العادل والشامل بعد انتهاء الحرب. وقد صمّم أردوغان النهج السابق، الذي تمحور حول الموازنة بين الإدانة السياسية القوية لإسرائيل نوعاً من إظهار الدعم الواضح للفلسطينيين وتجنّب انهيار جديد في العلاقة مع تل أبيب، من أجل تحقيق هذه الأهداف. لكنّ النتائج التي حصدها لم تُحقق غالبية هذه الأهداف، باستثناء أنها حالت، حتى اللحظة، دون وصول الأزمة التركية الإسرائيلية إلى نقطة اللاعودة. وحقيقة أن تعليق النشاط التجاري مع إسرائيل ورهن استئنافه بإنهاء الحرب على غزّة وإزالة القيود الإسرائيلية أمام دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع جاء بعد سبعة أشهر على الحرب، وفي خضم تصاعد فرص إبرام صفقة جديدة بين إسرائيل وحركة حماس تُمهد لإنهاء الحرب، تُشير إلى تكاليف التصعيد التي يحرص أردوغان على أن تبقى منخفضة على تركيا، وعلى علاقاتها مع إسرائيل، تحظى بقدر كبير من الأهمية في النهج الجديد.
ثلاثة أسباب رئيسية مُرجّحة دفعت أردوغان إلى تفعيل الخيارات التي لم تكن مُفضلة في السابق، في مقدمتها أن الموازنة التي سعى أردوغان إلى تحقيقها في البداية لم تجعل تركيا طرفاً نشطا في الدبلوماسية الإقليمية، وجلبت تكاليف غير مُتوقعة على أردوغان في الداخل. علاوة على ذلك، معارضة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انخراط تركيا بشكل فعال في جهود الإغاثة في غزّة عزّزت نقاط ضعف النهج السابق لأردوغان، ولم تُساعده في تسويقه بشكلٍ أفضل في الداخل. يُضاف إلى ذلك أن انسداد فرص تقديم تركيا نفسها وسيطاً مقبولاً لدى طرفي الصراع، من خلال تجنب التصعيد ضد إسرائيل في السابق، أبرز الحاجة إلى تعزيز نقاط القوة الأخرى في الموقف التركي على الجانب الفلسطيني، بإظهار مزيد من الاحتضان السياسي لحركة حماس، والتي كافأت أنقرة على هذا الاحتضان بالمطالبة بأن تكون دولة ضامنة أي صفقة جديدة مع إسرائيل. مع ذلك، لا تزال تركيا تواجه عقبة أمام تعظيم دبلوماسيّتها في الصراع، تتمثل في الرفض الإسرائيلي لأي دور فعّال لها.
التصعيد التركي ينتج مزيداً من التعقيدات في العلاقة المتأزّمة مع إسرائيل
تركيز نهج التصعيد التركي على الخطوات الاقتصادية والقانونية (الانضمام إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية) والاحتضان المتزايد لـ”حماس” الذي لا يتجاوز حدود الموقف السياسي، يجلب تكاليف أقلّ على أنقرة وعلى العلاقات التركية الإسرائيلية، طالما أنه لم يشمل بعد تصعيداً دبلوماسياً. ومن الواضح أن إحدى أولويات أردوغان الرئيسية، وتتمثل في تجنّب انهيار دبلوماسي جديد في العلاقة مع إسرائيل، لا تزال تُشكّل نقطة ارتكاز في السياسة التركية، حتى في وقتٍ تُظهر أنقرة فيه مزيداً من الاندفاع في تصعيد موقفها ضد تل أبيب. كما أن أردوغان يقارب خطواته من منظور أن تصعيداً يخرُج عن نطاق السيطرة في الأزمة مع إسرائيل يزيد من صعوبات إعادة ترميم هذه العلاقة بشكل سريع بعد انتهاء الحرب ويُضعف حسابات تركيا في قضايا أخرى مهمّة لها، ومتشابكة مع إسرائيل، خصوصاً في شرق البحر المتوسط، فضلاً عن ارتباط العلاقات التركية الإسرائيلية بالعلاقات التركية الأميركية. هذه الأسباب والدوافع مجتمعة تجعل أردوغان يولي أهمية قصوى لمواصلة قياس التكاليف المحتملة لخطواته على مسارات مُتعددة للسياسة الخارجية التركية.
وعلى الرغم من أن التصعيد التركي ينتج مزيداً من التعقيدات في العلاقة المتأزّمة مع إسرائيل، إلآّ أنّ أردوغان يتطلع إلى أن تؤدّي الموازنة بين هذا التصعيد وإيجاد هامش لإظهار الحاجة لدور أنقرة في تسوية الصراع إلى تعظيم حضورها بشكل أكبر في الجهود الإقليمية والدولية لإنهاء الصراع، من بوابة تقديم إسهاماتها في مجال الوساطة وتركيز الجُهد الدولي على الحاجة لإطلاق عملية سلام بعد الحرب تؤدّي إلى تحقيق حل الدولتين. ويُمكن لسياسةٍ تُوازن بدقّة بين هذه الاعتبارات المختلفة والمتعارضة أن تجعل دور تركيا في الصراع أكثر تأثيرا إذا ما تمسّك أردوغان بتجنّب المحاذير التي حدّدها ضمنيا منذ بداية الحرب.