تواجه العديد من المجتمعات احتمال تعرضها لكارثة عطش في غضون السنوات القليلة القادمة، حيث يعاني ثلثا سكان العالم حاليا مع نقص في المياه مرة واحدة على الأقل في السنة. ولتجنب ذلك، يعكف العلماء على تطوير تكنولوجيا المياه والبحث عن الحلول المبتكرة لإنقاذ العالم من أزمة الجفاف التي تصنّفها الأمم المتحدة بالكارثة الطبيعية الأكثر تكلفة في العالم.
تونس – ترسم دراسات مناخية وبيئية سيناريوهات قاتمة بشأن تعرّض الأرض للجفاف والنقص الحاد في مياه الشرب بشكل يجعل الكثيرين يتحدثون عن أن المياه ستكون شرارة الصراعات في المستقبل، بل إنها بدأت تندلع من الآن، لكن وسط هذه النظرة المتشائمة، تبرز رؤى متفائلة تؤمن أن العقل البشري الذي قاد الثورات الصناعية وصولا إلى الثورة الرقمية الراهنة قادر على الابتكار وتحقيق تقنيات ثورية لتجاوز تحدّي أزمة المياه.
تشير التقديرات إلى أن المياه العذبة المتاحة مهددة بالنضوب في المستقبل القريب، وبحلول 2025 سيعيش نصف سكان العالم في أماكن لا تلبّي مواردها المائية الاحتياجات الضرورية للسكان.
ومن المتوقّع أن تشتد حدّة الجفاف في العالم العربي جرّاء استنفاد معظم الدول لمواردها من المياه العذبة، إذ تم تصنيف حوالي 18 دولة من أصل 22 بلدا عربيا دون خط الفقر المائي الذي يبلغ 1.000 متر مكعب للفرد في السنة.
وربطت دراسات كثيرة بين التغير المناخي الناتج عن انبعاث الغازات الدفيئة في الجو، وزيادة وتيرة الجفاف في السنوات الأخيرة، خاصة في ظل ندرة هطول الأمطار والتزايد السكاني المتسارع.
وستلقي هذه الأزمة بظلالها السلبية حيث ستضاعف من المشكلات التي تعاني منها الدول الفقيرة. لكن رغم هذه الصورة القاتمة عن المستقبل، ظهرت ابتكارات جديدة لمواجهة الأزمة.
خلال السنوات القليلة الماضية برزت تقنية تحلية مياه البحر كخيار لبعض الدول، لكن من غير المرجّح التعويل عليها كحل جذري، نظرا إلى كلفتها الباهظة واستهلاكها لكميات هائلة من الطاقة، بالإضافة إلى تداعياتها السلبية على الأنظمة البيئية البحرية.
ويقول غريغ كوك، كبير مديري برنامج إدارة استخدام المياه التابع لشركة كوكا كولا، “لا نعتبر تحلية المياه حلا للأزمة، لا في منطقتنا ولا في أغلب المناطق في العالم، لأنها أغلى كلفة من معالجة محطات المياه العذبة”.
تكنولوجيا المياه تعد بالكثير من الحلول لإنقاذ الناس ويعوّل العلماء على الأمل في امتلاك القدرة على التحكم في الطقس
في المقابل، يرى البعض من الخبراء أن تقنية معالجة مياه الصرف الصحي وتحويلها إلى مياه شرب أكثر معقولية من حيث التكاليف واستهلاكا للطاقة مقارنة بتكنولوجيا تحلية المياه.
إلا أن الخبراء يتخوّفون أيضا من عدم تحقيق مياه الصرف الصحي المعالجة في المحطات النتائج المرجوّة لمعايير النظافة، فالمياه المعالجة تكون غالبا ملوّثة بمواد عضوية متناهية الصغر، وقد تحتوي أيضا على كميات ضخمة من المواد الدوائية.
وأثبتت دراسات أن المعالجة نجحت فقط في إزالة 50 في المئة من هذه المواد. وهذا ما دفع أندرو سينغر، أحد كبار العلماء بمركز علم البيئة والموارد المائية بإنكلترا، إلى القول “كل ما نستطيع الجزم به هو أن عمليات المعالجة تعمل على الحد من مسببات الأمراض”.
لذلك، يبدو أن الخيار الأكثر تحمّسا له من قبل العلماء هو تطوير تقنيات ترشيح المياه من أجل تحقيق المعايير الأساسية المرجوة، كالنقاوة العالية وكلفة الطاقة المنخفضة. هذه العوامل ضرورية لضمان التنافسية في الأسواق العالمية وتوسيع رقعة انتشار هذه التقنية حول العالم، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟
غالبا ما ينظر للطبيعة على أنها مصدر الإلهام، وهي كذلك بالفعل، فالأمر الذي أثار حماسة العلماء والكيميائيين في الدنمارك هو الطريقة الفعّالة للخلية البيولوجية في تنقية جزيئات الماء عبر غشائها، وهي تستخدم في ذلك بروتينا يسمى أكوابورين.
يحتوي هذا البروتين على عدة مسامات طول الواحد منها 2 نانومتر، وعرضه 0.3 نانومتر، ما يجعلها قادرة على الحد من مرور الملوثات والكائنات المجهرية بما في ذلك البكتيريا والفيروسات والبروتينات والغازات المذابة والأملاح.
يعود الفضل في اكتشاف هذه البروتينات للطبيب وعالم البيولوجيا الجزيئية، الأميركي بيتر أغري، والذي تحصل على جائزة نوبل للكيمياء سنة 2003. فبعد رؤية فاحصة لكيفية عمل البروتينات في نموذج كمبيوتري، توصّل فريق بحثي بقيادة الكيميائي ومؤسس شركة أكوابورين، بيتر هولم جونسون، إلى تطبيق هذه الوظيفة البيولوجية في بيئة صناعية.
وخلصت التجربة إلى نتائج مدهشة تتمثل في تدفق سريع لجزيئات الماء عبر قنوات البروتين (بمعدل مليار جُزيء في الثانية). وكان الماء عالي النقاء ويمكن استخدامه في عدة وظائف أخرى أبعد من احتياجات الشرب، كالصناعات الإلكترونية الدقيقة.
ولا يستبعد الخبراء أن تمثّل هذه التقنية خيارا جيّدا ومنخفض الطاقة، وبديلا أكثر فعالية لتحلية مياه البحر ومعالجة المياه الصناعية والمياه الملوثة الأخرى، وهي ناجعة جدا مقارنة بتكنولوجيا التناضح العكسي التقليدية والتي تتطلب مضخّات تقوم بضغط عال على الماء ليمر من خلال الأغشية شبه الشفافة، ما يؤدي إلى تآكلها وانسدادها.
ويقول جونسون “تعتمد أغشية البوليمر على تقنية عمرها 30 عاما وهي ليست فعّالة، إنها تستهلك الطاقة وتهدر الكثير من الماء، منتجاتنا هي أكثر كفاءة في تنقية المياه”.
وبدأ إنتاج شركة أكوابورين في يناير 2018، وتقوم منشآت الإنتاج في لينغبي شمال كوبنهاغن بتصنيع 2 كيلومتر مربع من الغشاء في اليوم ليتم شحنها إلى الأسواق الخارجية. لكن التحدّي الذي يظل قائما هو مدى صمود هذه البروتينات البيولوجية وحفاظها على وظائفها في بيئة صناعية عالية الحرارة.
في نفس إطار تنويع مشاريع الموارد المائية بتكلفة أقل، وصديقة للبيئة، تمكّن فريق آخر من العلماء والباحثين من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة كاليفورنيا، من ابتكار تقنية لاستخلاص الماء من الهواء.
وأثبتت التجارب في مدينة أريزونا بالولايات المتحدة الأميركية، ذات المناخ الجاف، أن التقنية فعّالة وبنسبة رطوبة منخفضة (ما يقارب 20 في المئة).
لكن، ما يميز هذا الابتكار، الذي كشف عنه النقاب سنة 2017، نسبة الرطوبة المنخفضة والاعتماد فقط على أشعة الشمس؛ وهي ميزات كافية لتجعل منه حلاّ لأزمة المياه في المناطق الأكثر جفافا في العالم.
تعدّ تكنولوجيا المياه بالكثير من الحلول المبتكرة لإنقاذ الناس من شبح الجفاف القاتل، فيما يعوّل العلماء الحالمون على الأمل في امتلاك القدرة على التحكم في الطقس عن طريق إنشاء شبكة واسعة النطاق من الأقمار الصناعية تحث الأمطار على النزول بواسطة أشعة الليزر، ورغم التحديات الهندسية الضخمة التي تكتنف تجسيد هذا الحلم، فالفكرة تستحق المراهنة من أجل تأمين وصول الناس إلى المياه.
العرب