شهد لبنان تصعيداً لفظيّا بين الاتجاهات السياسية الرئيسية فيه كان آخر مظاهرها الهجوم الكبير الذي قام به رئيس «التيار الوطني» جبران باسيل على حزب «القوات اللبنانية» الذي وصفه بالميليشيات، وملمّحا إلى رئيسه سمير جعجع بالقول إن «البعض ممن كانوا مجرمي حرب هم اليوم مجرمو سلم بفسادهم وكذبهم وعمالتهم»، وهو ما اعتبره مراسل «القدس العربي» في بيروت سقوطا للتحالف السابق بين الحركتين المسمى «اتفاق معراب» بـ«الضربة القاضية».
ترافق مع هذا الاشتباك الكبير بين القوتين المسيحيتين الكبريين هجمات متبادلة بين باقي الأطراف السياسية، على الطريقة اللبنانية العنيفة والتي تهبط أحيانا كثيرة إلى مستويات لفظية وصور متدنية، كما هو حال الخلاف بين رئيس «حزب التوحيد» وئام وهاب ورئيس «تيار المستقبل» المكلف بتشكيل الوزارة سعد الحريري، وهو أمر معتاد لدى عدد كبير من السياسيين اللبنانيين.
في المقابل، فقد تمكنت النخب السياسية العراقية (بعد تأخر كبير ساهمت فيه مزاعم حصول تزوير في الانتخابات أدّت إلى إعادة فرز وعد صناديق مناطق عديدة)، وبعد أخذ وردّ ومزاعم أخرى بشراء مناصب سياسية بمبالغ طائلة، وتدخّلات خارجية وإقليمية واسعة، من الاتفاق على رئيس للبرلمان تبعه الاتفاق على رئيس للعراق ورئيس للوزراء شرع، كما هو معلوم، بتأليف حكومته بطرق غير معتادة، فيما توعّدت بعض الجهات السياسية، في المقابل، بإسقاط تلك الحكومة، لو تشكّلت، خلال ثلاثة أشهر!
أشارت «القدس العربي» في رأي سابق إلى أن تشكيل الرئاسات الثلاث في العراق كان انتصاراً لإيران، التي نجحت في إدارة اللعبة والتوازنات السياسية لصالحها، وليس متوقعاً ألا تنجح بعد ذلك في إدارة لعبة تشكيل الحكومة نفسها، وهو ما قد تعتبره تعويضاً مهماً عن الخسائر التي تحصدها حاليّاً نتيجة العقوبات الاقتصادية الماليّة التي بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تطبيقها عليها (ولنتذكر أن أول تصريح نشر لرئيس البرلمان العراقي الجديد محمد الحلبوسي كان ضد الحصار على إيران).
يضاف مدّ العقوبات على إيران إلى «حزب الله» في لبنان (والذي خصّته الإدارة الأمريكية وبعض الدول العربية، بعقوبات على قادته) إلى العوامل المعيقة لتشكيل حكومة لبنانية، وقد استخدمت بعض الأطراف اللبنانية ذلك لحث الحزب على عدم استلام حقائب أساسية لمنع تعريض الحكومة للحصار والمقاطعة من أمريكا والدول المتحالفة معها بهذا الخصوص.
وإذا كان وجود نفوذ إيراني طاغ على كافة الاتجاهات السياسية في العراق ساهم في استتباب الأمور لصالح طهران ما أدّى إلى تعيين الرئاسات الثلاث، فإن الوضع في لبنان يبدو أعقد، فرغم النفوذ الإيراني الثقيل، عبر آلة «حزب الله» العسكرية والسياسية وحلفائه، وكذلك بقايا نفوذ النظام السوري، فإن إخضاع الأطراف السياسية الأخرى، التي يمثّلها «تيار المستقبل»، و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، و«القوات اللبنانية»، لقرار طهران ليس بالأمر السهل، وهو ما يفسّر شراسة الهجمات اللفظية وعنفها.
جدير بالملاحظة، في المقابل، أن خطاب الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، الأخير، قد خفّف جرعة هجومه المعتادة على السعودية ودول الخليج عموماً، واقترح عليها «المصالحة»، على ضوء الإهانات والابتزازات التي يوجهها لها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بل إنه لجأ إلى التهوين من تهديد ترامب لها بأن إيران قادرة على غزوها في 12 دقيقة، معتبراً ذلك مبالغة، رغم أن قوة إيران لا يستهان بها!
وإذا كان من غير الممكن التعويل كثيراً على خطاب نصر الله الأخير لطبيعته الحدثية والآنية التي لا تتسق مع مجمل سرديّات الحزب الأساسية فإنه، مع ذلك، يشير إلى أن إيران ترغب في «لملمة» شؤون تشكيل الحكومة اللبنانية حتى لو تطلّب الأمر بعض التنازلات التكتيكية، وهو ما عبّرت عنه «القوات اللبنانية» أيضا، وكل ذلك يعني أن فرض إعلان الاستسلام على رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري سيؤجل إلى ما بعد تشكيل الحكومة اللبنانية… إلا إذا حصلت تغييرات إقليمية كبيرة، وهذا أمر ليس مستبعدا في إقليم يقع في خط زلازل سياسية كبرى.
القدس العربي