“إس 400” منظومة دفاع صاروخية تعد فخر الصناعة الحربية الروسية التي جرحت في كبريائها مع تهاوي الصرحالسوفياتي في تسعينيات القرن الماضي. لكن يبدو أن القيادة الروسية الحالية تراهن بقوة على هذا السلاح لإعادة رسم خريطة التوازنات في العالم، عسكريا بطبيعة الحال، لكن أيضا من خلال اتخاذه أداة “للردع الدبلوماسي”.
ويعد هذا النظام الصاروخي الذي يصل مداه إلى 400 كلم، أحد أكثر الأنظمة تطورا، ويستطيع تدمير أهداف تتحرك بسرعة خمسة كيلومترات بالثانية بما فيها الطائرات والصواريخ ذاتية الدفع متوسطة المدى والصواريخ المجنحة.
وقد زودت روسيا قواتها بهذه المنظومة التي طورتها شركة “ألماز أنتي” الحكومية منذ 2007، ونشرت مظلة صاروخية عملاقة تغطي المجال الجوي الروسي بالكامل، من بحر اليابان إلى البحر الأسود وبحر بارنتس مرورا بوسط روسيا وسيبيريا، وصولا أحيانا إلى مئات الكيلومترات ما وراء الحدود.
ويرجح أن تبلغ عدد وحدات المنظومة في كامل التراب الروسي 56 وحدة بحلول عام 2020. وآخر بطارية نشرت في 21 سبتمبر/أيلول الماضي في إيفباتوريا بشبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014. كما نشرت بطاريتان في سوريالحماية قاعدتي حميميم وطرطوس.
وقد استشعر الأميركيون فعليا خطورة هذا السلاح الروسي النوعي حيث أكد مسؤول أميركي كبير، رفض الكشف عن اسمه، في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 أن “الأمر يتعلق بنظام سلاح حديث يمثل تهديدا كبيرا للجميع”.
Play Video
“إس 400” وباتريوت
كتبت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية في تقرير نشر في أكتوبر/تشرين الأول الجاري أن الروس بسبب هوسهم بالتنافس مع واشنطن لا يدخرون جهدا لمقارنة “إس 400” بنظام باتريوت، للتأكيد على تفوق الأول على الثاني، متناسين أن أطرافا أخرى مثل الإسرائيليين والأوروبيين والصينيين يطورون أيضا نظما خاصة بهم.
وذكرت وكالة سبوتنيك الروسية أن صواريخ “إس 400” سرعتها ضعف سرعة صواريخ باتريوت، ونطاق استهدافها يبلغ ثلاثة أضعاف، بينما تتحول لوضع قتالي بشكل أسرع خمس مرات. كما أنه باستطاعتها توجيه عدد صواريخ أكبر بثلاثة عشر مرة، كل ذلك بسعر 92 مليون دولار، مقابل مليار دولار لباتريوت.
لكن هذه المؤشرات تبقى نظرية للغاية، حسب الخبير في معهد أستوكهولم للأبحاث والدراسات العسكرية “Sipri” سيمون وايزمان، الذي يعتقد أن جودة أنظمة الدفاع الجوي الصاروخية “تحدد من خلال البرمجيات التي ترافقها، وقدرتها على الاندماج في شبكة، وتحليل البيانات، والرد على التشويش، ورصد الأخطار المحدقة.. وهي معلومات سرية لا يكشف عنها مطلقا”.
منظومة صواريخ إس 400 نشرتها موسكو في سوريا وشبه جزيرة القرم بالإضافة إلى كامل التراب الروسي (رويترز)
نظام عالمي جديد
تصنيع منظومة “إس 400” انتقل تدريجيا من تزويد الجيش الروسي حصرا إلى زبائن جدد، حيث شيد منذ عام 2016 مصنعان خُصصا لتصنيع وتصدير هذا السلاح المتطور.
ويرى مراقبون أن روسيا التي لا تكثرت كثيرا بتفاصيل بيع الأسلحة (نقل التكنولوجيا واحترام حقوق الإنسان)، تتلاعب بذكاء بالمصالح المتضاربة للدول التي تبدي اهتماما بامتلاك هذه المنظومة.
كما يقدم منظّرون مقربون من الكرملين منظومة “إس 400” على أنها “مفتاح إطلاق تيار عدم انحياز جديد ونظام عالمي متعدد الأطراف”، سيستحيل معه على واشنطن أن تحافظ على سلطتها ونفوذها عبر العالم.
وتشير بيانات معهد “Sipri”، إلى أن العقود الثلاثة الرئيسية الموقعة مع كل من الصين والهند وتركيا تمثل مصدرا محتملا للعائدات تقدر بحوالي ملياري دولار سنويا، أي 15% تقريبا من إجمالي الصادرات السنوية الروسية من السلاح.
وتستعين الصين بمنظومة إس 400 لمواجهة التواجد العسكري المتزايد في بحر الصين الجنوبي، ريثما تنتهي من تطوير منظومة صاروخية خاصة بها، حيث تقوم بضخ استثمارات ضخمة لتطوير منظومة دفاع جوي متوسطة وطويلة المدى، تعرف بنظام “HQ 9”.
فيما تحاول الهند، التي يوصف نظام دفاعها المضاد للطائرات بأنه عتيق ومفتقر للفاعلية مواجهة تهديد كل من الصين التي تعزز وجودها العسكري على الحدود، وجارتها باكستان التي تختبر منذ فترة طويلة صواريخ نووية، ولا سيما على الحدود المتنازع عليها في كشمير.
أما تركيا فقد انتهزت فرصة اقتناء منظومة “إس 400” من “أصدقائها” الروس لتوجيه رسائل مبطنة لكل من حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، وهي عضو فيه ولواشنطن، رغم حرصها الظاهر على بيان أن الصفقة موجهة بالأساس لصد أي تهديد محتمل من الصواريخ الإيرانية.
وفي منطقة الخليج كشفت السلطات الروسية عن مساع لتسليم منظومة “إس 400” على التوالي لكل من قطروالمملكة السعودية، وكلتاهما حليف رئيسي لواشنطن.
كما أفاد السفير الروسي ببغداد أن العراق أبدى اهتمامه بشراء منظومة الدفاع الجوي الروسية. وتجري مشاورات بينموسكو والقاهرة لتزويد الأخيرة بمنظومة “إس 400″، وفق الدائرة الاتحادية الروسية للتعاون العسكري التقني.
Play Video
تهديد وانتقام
“الولايات المتحدة تهدد كل من يقتني أسلحة روسية.. والانتقام يكون أقسى وأعسر حينما يتعلق الأمر بمنظومة الدفاع الجوي إس 400″، حسب سيمون وايزمان.
وتترجم واشنطن آلية الانتقام هذه من خلال “قانون مواجهة خصوم الولايات المتحدة عبر العقوبات” (CAATSA) الصادر في أغسطس/آب 2017، والموجه ضد الكيانات والأشخاص المرتبطين بالجيش والمخابرات الروسية.
آخر إجراء عقابي من هذا النوع صدر بحق الصين في 20 سبتمبر/أيلول الماضي، وأصبحت بموجبه الهيئة الصينية المسؤولة عن تجارة الأسلحة غير قادرة على طلب تراخيص تصدير والاندماج في النظام المالي الأميركي، الذي يلعب دورا محوريا في إتمام هذا النوع من الصفقات.
في المقابل ورغم التنبيهات المتكررة، فإن واشنطن مترددة حتى الآن في فرض عقوبات مماثلة على حليفتها الهند.
التهديدات الأميركية ضد العراق ودول الخليج ستكون كافية لثني هذه الدول عن اقتناء منظومة إس 400. خاصة أنهم زبائن أوفياء لنظام باترويت، كما تؤكد صحيفة “لوفيغارو”.
أما تركيا، فقد أبدت واشنطن قلقها من اعتزام أنقرة نشر الصواريخ الروسية على أراضيها، وقالت إن ذلك قد يشكل خطرا على عدد من الأسلحة الأميركية الصنع المستخدمة في تركيا، بما فيها طائرات “أف 35”. كما أخبر البنتاغونحلفاءه الأتراك أن منظومة إس 400 الروسية من الصعب أن تتلاءم مع التجهيزات التي توفرها لهم واشنطن، مما يقلل بكثير من كفاءة النظام الروسي.
أما موسكو، المتعودة على العقوبات الغربية، فإن الانتقام الأميركي يشكل “عنصر إثارة” إضافيا أكثر منه مصدرا للقلق. ورد الفعل الأميركي لا يكشف سوى “خوف الولايات المتحدة من صعود تكنولوجيا تزعزع هيمنتها الإستراتيجية والعسكرية”، كما يرى المعلق بوكالة سبوتنيك، أندرو كوريبكو.
صواريخ إس 400 تستطيع تدمير أهداف تتحرك بسرعة خمسة كيلومترات بالثانية (الأوروبية)
الخلف.. “بروميثيوس”
فيما يبدو تتابعا لنجاحات روسيا الصناعية، كشفت صحيفة “روسيسكايا غازيتا” أن موسكو تستعد للكشف عن خليفة منظومة الدفاع الجوي الحالية “إس 400”.
المنظومة الجديدة وهي “إس 500″، وتعرف أيضا بـ”بروميثيوس”، جرت أولى الاختبارات عليها في كزاخستان، ويتوقع البدء بتسليمها بحلول 2020 قبل استخدامها بشكل كامل من قبل الجيش الروسي في أفق 2027.
وقد أعلن الرئيس فلاديمير بوتين عن هذه التطلعات في اجتماع حضره ممثلون عن كبريات شركات الصناعات الحربية الروسية في مايو/أيار الماضي. كما بدأت فعليا الأكاديمية العسكرية للقوات الجوية الروسية بتدريب أول دفعة من 11 ضابطا لتشغيل المنظومة الجديدة.
الميزة الرئيسية لمنظومة “إس 500” هي مدى نطاق تشغيلها العمودي –وهو أكبر بمئة كيلومتر من مدى المنظومة الحالية- مما سيسمح ببلوغ أهداف تقع بالفضاء الخارجي، حيث تعمل الأقمار الاصطناعية العسكرية، وهي منطقة غير معرضة للهجمات حاليا.
وسيتجاوز هذا الحاجز بسهولة، خاصة أن “بروميثيوس” سيستخدم أحدث صواريخ الجيل الجديد (40N6) المزودة برؤوس مستقلة وموجهة ذاتية، وقادرة بالتالي عن الاستغناء عن مساعدة الرادارات الأرضية التي لا تعمل على ارتفاعات عالية.
وكشف عن هذه الميزات خلال مناورات “زاباد 2017” التي جرت بين قوات روسية وأخرى من روسيا البيضاء قدرت بـ 12 ألف عسكري في سبتمبر/أيلول من العام الماضي على حدود دول أعضاء في حلف الناتو.
Play Video
“حرب نجوم”
في مقابل مشروع منظومة “إس 500” لم تقف واشنطن مكتوفة الأيدي وأعلنت عن استعدادها لإطلاق “حرب نجوم” جديدة، من خلال إنشاء “قوة فضائية” ستشكل الفرع السادس للجيش الأميركي بحلول عام 2020.
ودعا الرئيس الأميركي دونالد ترامب في يونيو/حزيران الفائت الكونغرس إلى استثمار ثمانية مليارات دولار إضافية في أنظمة الفضاء الأمنية الأميركية، في السنوات الخمس المقبلة.
لكن إنشاء القوة الجديدة يتطلب موافقة الكونغرس المنقسم على نفسه، إذ يرى المعارضون أن إنشاء قوة فضائية مشروع مكلف وعديم الجدوى. في حين يستند المؤيدون لتخصيص مزيد من الموارد لهذه القوة إلى أن منافسي الولايات المتحدة يستعدون على نحو متزايد لضرب القدرات الأميركية في الفضاء في حال نشوب أي صراع، وفي مقدمتهم الصين وروسيا.
مهما كانت خطط واشنطن للتصدي للطموحات الروسية سياسيا وعسكريا، فإن موسكو تعي جيدا كما يبدو أن منظومة إس 400 للدفاع الجوي ورقة مهمة من بين أوراق أخرى بيدها، لمزاحمة النفوذ الأميركي عبر العالم، خصوصا بعد أن أضحى “الدب الروسي” مهددا حتى في مناطق كانت بالأمس القريب جزءا لا يتجزأ من عمقه الإستراتيجي.
الجزيرة