تدخل حرب غزة يومها الـ213 اليوم الأحد من دون آفاق صفقة، فيما حصدت المعارك والضربات الإسرائيلية حتى الآن ما يقارب 35 ألف قتيل من الفلسطينيين وعشرات الألوف من المفقودين والجرحى والمصابين، ولا تزال المفاوضات من أجل هدنة أو وقف لإطلاق النار، يتم خلالها تبادل للأسرى وتحسين المساعدات الإنسانية، عالقة بين حدي الأهداف الإسرائيلية المعلنة عن تدمير “حماس”، ومطالب الحركة الفلسطينية بالعودة إلى حالة ما قبل هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
لم يتغير المشهد كثيراً طوال الأسابيع الماضية، استمرت آلة القتل على وقع التهديد باجتياح رفح آخر التجمعات السكانية الفلسطينية الكبرى في القطاع، واستمرت الوساطات من أجل تحقيق هدنة جديدة عبر الوسطاء أنفسهم، قطر ومصر والولايات المتحدة.
مضى شهر أبريل (نيسان) الماضي بأكمله تقريباً في تبادل الصيغ وانتظار الردود، فيما كانت تتبلور في الخلفية سلسلة تطورات، أعقبت خصوصاً الاشتباك الإيراني – الإسرائيلي، أبرزها دور تركي متجدد، وصل إلى حد طرح “حماس” لأنقرة كطرف رابع ضامن للاتفاق المزمع عقده بينها وبين إسرائيل، التي تواجه موجة جديدة من الانتقادات والتدابير العقابية التركية.
ضبط الاشتباك الإيراني – الإسرائيلي في حدوده الدنيا، وعزله عن “بعده الفلسطيني”، مع إعلان طهران أن هجومها الصاروخي على تل أبيب هو رد على استهداف قنصليتها لدى دمشق، وليس دفاعاً عن الفلسطينيين، واستمرت طهران في حملتها التضامنية مع غزة، مركزة على إدانة قمع الحريات في أميركا والغرب، والعودة إلى الشعارات القديمة.
لم تهتم عاصمة الملالي بمفاوضات الهدنة ومساراتها، فمشروعها أبعد من ذلك. مطلع الأسبوع الماضي حرصت طهران على التأكيد بلسان الناطق باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني أنه “لا تسوية للأزمة الفلسطينية سوى من خلال إقامة دولة من البحر إلى النهر”، في موقف لا يقيم معنى للوقائع وموازين القوى والمصالح المباشرة للشعب الفلسطيني.
تقدم إيران بشعار “التحرير الكامل” وصفة لحرب مفتوحة، لا نهاية لها، تبتعد هي عنها فيما تدفع الوكلاء إلى خوضها، في غزة وفي لبنان وفي اليمن حيث يندفع الحوثي إلى تهديد السفن في البحر المتوسط، في المرحلة “الرابعة” من حربه، وتنبت من البحرين “سرايا الأشتر” لتقوم بواجبها في دك تل أبيب من العراق وسوريا.
لم ترتح “حماس” لمستوى ومحدودية الرد الإيراني على إسرائيل. رئيس الحركة اكتفى باعتباره “حقاً طبيعياً للدول في الدفاع عن نفسها”، فيما كان قادة الحركة في غزة يعولون على تصعيد يشمل “الأمة ” يرغم إسرائيل على خوض حرب في جبهات عدة، لكن ذلك لم يحصل.
رئيس الأركان الإيراني محمد باقري حسم موقف بلاده بقوله إنه “ما لم ترد إسرائيل فإن إيران ستعتبر الأمر منتهياً”. ولم يتضمن موقفه، أو موقف أي قيادي إيراني آخر أي اشتراط لوقف النار في غزة أو زيادة المساعدات وعودة النازحين ناهيك بانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع. ببساطة الرد الإيراني “انتهى.
لم يخدم الرد الإيراني “حماس” في مفاوضاتها، على رغم أنها عولت كثيراً على طهران. وفي الأثناء ازداد الضغط على قطر الدولة المستضيفة لقيادة الحركة كي تلعب دوراً أقوى في إقناعها بالقبول بالتسويات المطروحة، وبدأ الحديث عن انتقال قيادة “حماس” إلى دولة أخرى.
كانت تركيا هي الوجهة المقصودة، فهذا البلد الذي يقوده حزب قريب فكرياً ودينياً من “حماس” وقطر، ويخوض منافسة في العمق مع إيران ومشروعها المذهبي الإقليمي، وجد الفرصة سانحة ليتقدم إلى الواجهة بعد تردد دام أشهراً منذ بدء الحرب في غزة.
أرسل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وزير خارجيته هاكان فيدان إلى قطر للقاء إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” الذي سينتقل إلى إسطنبول فيخاطبه أردوغان مغدقاً عليه لقب “زعيم القضية الوطنية الفلسطينية”.
وفي خطاب لاحق، اعتبر الرئيس التركي “حماس” حركة تحرر وطني وليست منظمة إرهابية. إنها تشبه “حركة التحرر الوطني التركية من أجل الاستقلال” (قواي ملييه)، ولذلك “سأنقل صوت الشعب الفلسطيني ما دمت حياً” يجزم أردوغان، الذي قرر قطع الصلات التجارية مع إسرائيل، التي يبلغ حجمها 9.5 مليار دولار في السنة.
يفسر محللون أتراك التغيير الحاصل في موقف أردوغان من الحرب في غزة والمنطقة، بعوامل عدة يوردها موقع “ترك برس” شبه الرسمي على النحو التالي:
أولاً، صمود “حماس” بعد أن كان “تقدير عديد من القوى أنها علقت حبل مشنقتها بيدها”.
ثانياً، هزيمة أردوغان في الانتخابات البلدية، التي أشارت في بعض معانيها إلى عدم رضا الشعب التركي عن سياسة الرئيس الفلسطينية.
ثالثاً، الرد الإيراني على إسرائيل الذي كاد يدفع الإقليم إلى حرب واسعة. أدركت تركيا حينها “أن الوقوف بعيداً من مجريات الحدث لن ينقذها من تداعياته”.
وانتظر أردوغان 72 ساعة بعد إعلان إيران اعتبار ردها على إسرائيل “منتهياً”، للخروج بموقف جديد “منحاز إلى حماس”، ثم يستقبل قيادتها في إسطنبول، موجهاً لإيران ولمن يعنيهم الأمر رسالة مفادها وقوف تركيا إلى جانب فلسطين وتطلعها، “قبل فوات الأوان، للعب دور سياسي يساعد في لجم التصعيد”.
يتناقض الموقف التركي الذي يبدو راغباً في الانخراط في عملية سياسية ملموسة عبر الموضوع الفلسطيني، مع الموقف الإيراني الذي لا يبدي اهتماماً معلناً بأية مفاوضات أو ما يتعلق باليوم التالي بعد الحرب، ويكرر أن أولويته هي في حفظ مصالح إيران وطموحاتها.
في الأول من مايو (أيار) الجاري تناول المرشد علي خامنئي ما يجري في غزة وتداعياته من منطلق أن “كل ما يجري يثبت صحة وجهة نظر إيران”. فالتحركات الطلابية في أميركا “تثبت صحة موقف الجمهورية الإسلامية”، و”مقتل عشرات الآلاف في غزة أثبت حقانية موقف إيران”، و”أثبت موضوع غزة أن “أميركا شريكة ومتورطة مع الصهاينة في الجريمة”. الخلاصة بحسب خامنئي “ثبت موقف الجمهورية الإسلامية القائل إنه لا يمكن حسن الظن بالحكومة الأميركية والوثوق بها”.
على خط معاكس، وفي براغماتية لافتة، تخطو تركيا خطواتها الجديدة تجاه المشكلة. فتقترب إلى حد كبير من الرؤية العربية لآفاق الحل، القائم على مشروع الدولتين، وتراهن على دور تلعبه مع الولايات المتحدة وأوروبا من أجل الدفع نحو تسوية سياسية.
يأخذ أردوغان في حسابه أنه سيلتقي الرئيس جو بايدن قريباً (على رغم الحديث عن تعديل في موعد زيارته واشنطن) “مما يتيح له الفرصة للضغط من أجل وقف الحرب والبحث في الأفق السياسي”.
الاستعداد لهذا اللقاء والدور التركي اللاحق، يتم بالتشاور مع قيادة “حماس” المقيمة منذ أيام “في إسطنبول” والتي تعتقد – كما تنقل أوساط تركية – أن “أنقرة بوزنها السياسي والاقتصادي وبعلاقاتها مع الحلف الأطلسي والمنظومة الغربية، ومع روسيا والصين، قادرة على لعب دور متقدم وممارسة الضغط لوقف العدوان وإدخال المساعدات والإعمار، ناهيك بلعب دور إيجابي مع الحالة الفلسطينية الداخلية والدفاع عن الموقف الفلسطيني في حده الأدنى المتمثل في إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس”.
تأخذ تركيا بعين الاعتبار أن المهمة التي تضعها على عاتقها ستزيد من القلق الإيراني. هذه المهمة لا تتصل بالموضوع الفلسطيني فقط، وإنما بالعراق وسوريا وحتى لبنان حيث تسعى أنقرة في كل من هذه البلدان إلى موازنة التدخل الإيراني بنفوذ مقابل وهو ما يمكن أن يستجيب في بعض جوانبه للاستراتيجية الأميركية.
في العراق أنجزت تركيا اتفاقات مهمة مع حكومة بغداد في أعقاب زيارة أردوغان الأخيرة. وفي سوريا ترعى تركيا منذ فترة جهوداً لتوحيد الفصائل المسلحة المعارضة، وعقدت تلك الفصائل اجتماعين خلال الأيام الأخيرة بهدف تشكيل قيادة موحدة للشمال، فيما تستعد فصائل الجنوب السوري لعقد لقاء في عمان بهدف تشكيل قيادة موحدة تنسق مع الشمال.
وما بين هذا وذاك، أوضح أحد المشاركين في اجتماعات إسطنبول أن “التشكيل الجديد ستكون مهمته مواجهة النظام والميليشيات الموالية له والتنظيمات المتطرفة”. وغني عن الشرح ماذا يعنيه تعبير الميليشيات الموالية.
ليس الانفتاح التركي على العراق، وتحريك فكرة ممر البصرة – تركيا، والاهتمام المتجدد بتوحيد الفصائل السورية المعارضة، واليد التركية في تنشيط “الجماعة الإسلامية” في لبنان تحت عنوان مواجهة إسرائيل، بالنبأ الجيد بالنسبة إلى إيران وتحركاتها في هذه البلدان، وهو سيحسب ضمن الاستعداد التركي للعب دور متجدد في الإقليم، بعضه بتأكيد حساب المشروع الإيراني، ومدخله غزة التي قال أردوغان يوماً إنها كانت جزءاً من أراضي السلطنة العثمانية، ودعاماته العلاقات التي تقيمها أنقرة الأطلسية مع روسيا وأميركا في آن، وما أنجزته من تطبيع وانفتاح على مصر ودول الخليج العربي.