في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 2015، كتبتُ التالي في أعمدة هذه الصحيفة، بصدد تسخين التوتر بين الرئيس الروسي (القيصر) فلاديمير بوتين والرئيس التركي (السلطان) رجب طيب أردوغان: «ما خلا الصاروخ التركي الذي أسقط الـ»سوخوي 24»، فإنّ الحرب الراهنة بين السلطان والقيصر لن تتجاوز التراشق باللفظ والاتهامات والعقوبات الاقتصادية الرمزية، التي تهيّج الجموع بهدف التغطية على صراع الأجندات الإقليمي، وعلى الأرض السورية تحديداً». وأضفتُ أنه كان في وسع الرئيس التركي أن يأمر طيّاريه بأنْ يغضوا الطرف عن اختراق القاذفة الروسية للأجواء التركية، والذي لم يستغرق سوى حفنة من الثواني؛ بل كان ممكناً إتمام مطاردة الـ»سوخوي» في الأجواء التركية، وإجبارها على الانسحاب نحو مطار حميميم، مما يحوّل الواقعة إلى انتصار عسكري ودبلوماسي ربما، دون إسقاط الطائرة.
لكنّ أردوغان، وكان هذا أيضاً يقيني الذي سجّلته يومذاك في المقال ذاته، بات طليق اليدين بعد الانتصار الساحق في الانتخابات التشريعية؛ وبالتالي أراد تنبيه الجميع إلى أنّ تركيا تنوي الدخول في «المعمعة» الإقليمية بقوّة، أسوة بإيران وروسيا والولايات المتحدة. ليس هذا فحسب، بل إنّ تقدّم فوج تركي مدرّع إلى عمق الأراضي العراقية، في محيط الموصل، كان يؤكد عزم أنقرة على المضيّ في الهدف الأبرز من اقتحامها للمشهد المعقد: فرض واقع عسكري على الأرض، مباشرة أو عبر حلفاء محليين، يخلق «منطقة عازلة» كفيلة بكسر حلقات اتصال أي كيان كردي مستقلّ، في الشمال السوري أوّلاً؛ كما يضيّق الخناق، استطراداً، على كتائب «حزب العمال الكردستاني» أينما تواجدت في البلدين.
استعيد ذلك التقدير، اليوم، في ضوء اللقاءات المتعاقبة، الناجحة في تسعة أعشارها، بين أردوغان وبوتين؛ وبالنظر إلى أنّ العلاقات التركية ــ الروسية لا تبدو أحسن مما كانت عليه في أيّ يوم مضى، على أصعدة اقتصادية وتجارية وتكنولوجية لا تقلّ أهمية عن الوفاق، والتوافق، حول ملفات متفجرة مثل أوضاع محافظة إدلب، وتفاهمات سوشي وأستانة، والقضية الكردية، و… المنطقة العازلة، على الحدود السورية ــ التركية. مَنْ يتحلى بفهم الحدّ الأدنى لمبدأ الواقعية في السياسة، أو ما يطلق عليه القاموس الدبلوماسي صفة الـRealpolitik في العلاقات الدولية؛ لن تصيبه الحيرة وهو يقارن مناخات أواخر 2015 (حين أعلن بوتين أنّ تركيا ستندم على إسقاط الطائرة الروسية، وأنّ معاقبتها لن تكون فقط بتقليص التبادل التجاري)؛ بمناخات أواخر 2018 (حين صرّح بوتين نفسه، في قمّة بيونس آيريس: «أظهرت تركيا مجدداً أنها تتبع سياسة خارجية مستقلة، وهي حليفنا الموثوق»).
والقمة الأخيرة بين الرئيسين، في موسكو هذه المرّة وليس في سوشي على جري العادة، أظهرت عنصراً مدهشاً، إضافياً، في هذا الازدهار المضطرد للعلاقات التركية ــ الروسية: أنهما يمكن أن يتفقا، أو يتوافقا أو يتصالحا، بخصوص أمر يبدو كلّ منهما واقفاً فيه على طرفَيْ نقيض، من حيث المظهر والشكل بادئ ذي بدء؛ ولأنه، تالياً، مقترح أمريكي المنشأ، يتوجب ألا تلتقي حوله موسكو وأنقرة بهذه الدرجة من الصفو والصفاء. ذلك الأمر هو مشروع المنطقة العازلة، الذي طرحه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في واحدة من تغريداته، كمنفذ نجاة لتخليص واشنطن من حرج سحب القوات الأمريكية من سوريا دون ضمانات كافية للحلفاء الكرد في صفوف «وحدات دفاع الشعب» و«قوات سوريا الديمقراطية». أردوغان قفز على المشروع، دون إبطاء، وأعلن أنّ بلاده يمكن أن تنفّذ وتدير منطقة عازلة بعرض 32 كم، تكفل ردّ الفصائل الكردية إلى عمق سوري داخلي، وربما خارج شريط شرقي الفرات، وتبسط الاحتلال التركي للأراضي السورية نحو مساحات أوسع.
الحرب الراهنة بين السلطان والقيصر لن تتجاوز التراشق باللفظ والاتهامات والعقوبات الاقتصادية الرمزية
لم يكن هذا الاقتناص التركي مدهشاً، بالطبع، ليس لأنه يتماشى مع المصالح التركية ويخدم مشروع تحجيم الكرد في المناطق المحاذية، فحسب؛ بل كذلك لأنه، أغلب الظنّ، كان نتاج تفاهم مباشر بين أردوغان وترامب، حول المنفذ الذي يحفظ ماء وجه قوّات اليانكي المنسحبة من منبج وشرق الفرات ومناطق «الجزيرة» السورية. الجدير بإثارة الدهشة، في المقابل، هو صمت بوتين على هذا التفصيل الحاسم أثناء المؤتمر الصحافي مع أردوغان، مقابل تشديد الأخير على أنّ أنقرة سوف تقيم تلك المنطقة العازلة، وأنّ أعمال إنشائها متواصلة بالفعل، وهي استطراداً ليست مجرّد حبر على ورق أو خزعبلات تغريدة ترامبية! كيف حدث أنّ بوتين تغافل، عامداً بالطبع، عن الخوض في هذا الأمر والموقف الروسي الرسمي لا يزال يتبنى قاعدة بسط النظام السوري نفوذه على كامل التراب الوطني السوري؟ وكيف هذا، إذا كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد أعاد التأكيد، قبل أيام قليلة فقط، على أنّ «الحلّ الأفضل والوحيد هو نقل هذه الأراضي إلى سيطرة الحكومة السورية وقوات الأمن السورية والهياكل الإدارية»؛ مضيفاً أنّ بلاده ترحب بـ«الاتصالات التي بدأت للتوّ بين الممثلين الكرد والسلطات السورية بحيث يعود هؤلاء إلى حياتهم تحت حكومة واحدة ودون تدخل خارجي»؟
السرّ، المفتضَح تماماً في الواقع، هو أنّ أنقرة باتت اللاعب الأوّل والأكبر اليوم في محافظة إدلب، والشمال الغربي السوري إجمالاً؛ وليس التنازل الروسي لتركيا حول مشروع المنطقة العازلة سوى قسط أوّل من دفعات سوف تتوالى، وتحتاجها موسكو ضمن ترتيبات أبعد أثراً وأطول مدىً، بصدد عشرات الآلاف من مقاتلي «هيئة تحرير الشام» المتكدسين في مختلف أرجاء المحافظة، وكذلك آلاف المقاتلين «المعتدلين» في صفوف بقايا الجيش السوري الحرّ والفصائل الإسلامية. هذا إذا افترض المرء حسن النيّة لدى موسكو، تجاه الكرد أوّلاً، ثمّ تجاه إيران بوصفها الضامن الثالث لتفاهمات أستانة (ولكن أيضاً: الفريق الإقليمي الذي يسلّح ويموّل ويدير الميليشيات الشيعية التي تعكّر صفو ترتيبات موسكو مع قوّات «النمر» والميليشيات المحلية الخاضعة لنفوذ قاعدة حميميم الروسية في محافظة حماة وسهل الغاب). ولم يكن مستغرباً، والحال هذه، أن يتبرع بوتين باستضافة قمة جديدة ثلاثية، تجمعه مع أردوغان والرئيس الإيراني حسن روحاني، «للوصول إلى حل دائم في سوريا»، كما قال؛ ولكن بغية ذرّ المزيد من الرماد في الأعين، كما لم يقلْ.
مَنْ، في ضوء تطورات الموقف التركي من الملفّ السوري منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية قبل ثماني سنوات، ثمّ بعد إسقاط طائرة الـ»سوخوي» الروسية قبل أكثر من ثلاث سنوات؛ يمكن أن يرتاب اليوم في أنّ أردوغان أنجز فعلياً ما كان قد طمح إليه، وخطط له بمهارة: أن يُدخل تركيا في «المعمعة» الإقليمية بقوّة، عبر الملفّ السوري، وأن يباري إيران وروسيا والولايات المتحدة، وأن يصبح الاحتلال التركي خامس احتلالات إسرائيلية وإيرانية وروسية وأمريكية؟ وفي غمرة المدّ والجزر على صعيد العلاقات التركية ــ الأمريكية، إذْ تتدهور تارة لتتحسن تارة أخرى، مَنْ كان ينتظر من تركيا امتلاك هذا الهامش الواسع للمناورة بين الأصدقاء والخصوم والحلفاء؟
قبل هذا كلّه، أي قبل اقتناص ما تيسّر من أوراق في ملفّ الشمال السوري، كانت تركيا تغذّ الخطى نحو احتلال موقع بدت معالمه أبعد نطاقاً، وأوسع نفوذاً، من ذاك الذي يمكن أن تطمح إليه قوّة أقليمية. وكان داود أوغلو، حكيم «حزب العدالة والتنمية» الذي غادر المنصب دون أن تغادر فلسفتُه النفوس، يحلم لبلده بموقع القوّة الدولية أوّلاً، السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية؛ ولا يخاله المرء كان واهماً حين أبصر في شخص أردوغان ذلك السلطان المتربع على سلطنة كونية تجمع صداقة/ خصومة واشنطن وموسكو وحلف الناتو وطهران، معاً؛ فضلاً عن… إغضاء تل أبيب!