الإمعان في الحديث عن التخبط والفوضى في سياسات الولايات المتحدة إزاء الشرق الأوسط يتجاهل، غالباً عن عمد، أنه ثمة تحول جدي يطرأ على التوجهات الأميركية. إذ رغم المواقف المتعددة بل حتى المتضاربة والتي تعلنها الإدارة الأميركية للأصدقاء والخصوم في الشرق الأوسط، فإنه يمكن تبين تشكل سياسة متجانسة، تسير من خلالها واشنطن باتجاه التركيز الأول على التصدي لخطط إيران للهيمنة على المنطقة، فيما هي تثابر على ضغوطها على المجموعات الإسلامية القطعية السنية.
غير أن التأطير والتبليغ المرتبطين بهذه السياسة يبقيا قاصرين، ولا تستطيع الجهات التي تخاطبها الولايات المتحدة الركون إلى أن الاستمرارية فيها مضمونة. فلا بد هنا من تصحيح مسار آخر: أي إذا كان الهدف التأكيد على أنه للولايات المتحدة قدر من الثبات في سياستها إزاء الشرق الأوسط، فالأولى بها أن تعمد إلى تبديل منحاها الخطابي.
ردود الفعل لدى الأوساط الصديقة للولايات المتحدة، على الخطاب الأخير لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في القاهرة، كانت إيجابية في العلن. فحظي كلامه عن بلاده كـ «قوة خير» بالثناء المتوقع، كما تكررت التعليقات التي تفيد بأن الوزير «قد أوضح الأمور».
خلف هذه المجاملة سعادة صادقة في العديد من الدوائر في الشرق الأوسط إزاء تخلي إدارة الرئيس ترامب عن سياسات الرئيس السابق أوباما، ولا سيما منها توجهه نحو إيران. إلا أن القلق يبقى حاضراً في هذه الدوائر عينها حول النتائج الآنية والمباشرة للخطوات التي أعلنت عنها واشنطن أخيراً. ولا بد من الملاحظة هنا بأن خطاب بومبيو لم يأتِ بالجديد الذي من شأنه توسيع نطاق الشعور الإيجابي أو تبديد القلق في المنطقة في أوساط الذين يميلون إلى الموافقة على السياسة الأميركية وإلى اعتبارها تحقق المصالح. بل لا بد من الإقرار موضوعياً، حتى من موقع من يتماهى مع التوجهات الأميركية، بأنه لخطاب بومبيو تداعيات سلبية.
على الخلافات الداخلية أن تبقى … داخلية
لا ينظر من يتابع التبدل في السياسة الأميركية، من خارج الولايات المتحدة، على أن هذا التبدل هو وليد تعاقب رئاسات متميزة، لكل منها توجهات خاصة تتيح لها إعادة رسم كاملة للقراءات والخطوات السياسية، بل يرى فيه على الغالب خبط عشواء وحركات غير متجانسة لا يعوّل عليها لحكومة واحدة متواصلة.
ما غاب عن كل من الرئيس السابق باراك أوباما حين أعلن قبل عقد من الزمن في القاهرة عن عزمه الشروع بـ «بداية جديدة»، وعن وزير الخارجية الحالي مايك بومبيو في خطابه الأخير هو المفارقة والتناقض، من وجهة النظر المتابعين في الشرق الأوسط، بين إعلان الثبات والوضوح في السياسة الأميركية مقروناً في نفس واحد بالطعن والتجريح بالسياسة الأميركية السابقة. فحين أقدم مايك بومبيو على جلد سياسة الرئيس السابق وإغداق كيل اتهامات الجهل والقصور عليها، وقع بالخطأ عينه الذي ارتكبه قبله أوباما حين وصف السياسة الأميركية السابقة بأنها تفتقد حسن الاطلاع وسلامة التخطيط وصواب التنفيذ. فكيف يعقل مع هذا الوصف وذاك أن يطمئن المستمع إلى أنه لن يكون بعد أمد إعادة نظر أخرى تسقط ما يرفع اليوم؟
ثم أن مايك بومبيو، وهو الذي يلتزم عادة الرصانة والهدوء في خطابه، استفاض بالطعن والتشهير بالرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، سعياً للتمييز بين سياسات هذا السلف وتوجهات الإدارة الحالية. فجاءت لهجة الخطاب سجالية جدلية، ربما بما ينسجم مع أسلوب الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب في التعبير، ولكن بما يجانب تحقيق الجدوى لدى الجمهور المقصود خارج الولايات المتحدة.
فما لا بد من التسليم به هو أن النقد اللاذع لمواقف طرف سياسي محلي خصم لا يهمّ الجمهور الخارجي ولا يعنيه ولا ينفع السياسة الخارجية للولايات المتحدة. والواقع أن العرف المعتاد في الساحة السياسية الداخلية في الولايات المتحدة هو أن التوقعات بين الخصوم، وإن تباعدت مواقفهم وتناقضت، تبقى أن الجميع يشترك بالسعي إلى الصالح الوطني العام. ومتانة النظام السياسي في الولايات المتحدة تسمع بدرجة عالية من التنابذ مع الإبقاء على الافتراض الضمني للثقة بحسن نوايا الآخرين، ما يضمن بأن الخلافات الكلامية مهما علت نبرتها لن تنحدر إلى تهديد حقيقي لبقاء النظام. حتى امتحان الضغوط القصوى الحالي، والذي يشكله تولى دونالد ترامب للرئاسة، لا يقترب من تهديد استمرارية الديمقراطية في الولايات المتحدة.
أما في معظم دول العالم، فإن النبرة التجريحية في الخطاب والطاعنة بمن سبق، ولا سيما حين تأتي مقرونة بتبديل قاطع في السياسة المعتمدة، تكون نتيجة وقوع ثورة، لا إجراء انتخابات. ولكن بما أن واشنطن لم تزعزعها الثورات مؤخراً، فإن التلقي السائد للخطابيات الأميركية اللاذعة في المحيط العربي هو أن الولايات المتحدة بطبعها وطبيعتها متقلبة ولا يمكن تصديق مواقفها أو الاعتماد عليها. فمن يعتبر أن التحول الأخير الظاهر في سياسات الولايات المتحدة هو لصالحه سوف يغدق عليه الثناء والإطراء دون شك، أما الزعم الصادر من وزير الخارجية بومبيو بأن هذا تبديل عميق للمسار فلن يلقى لديه الآذان الصاغية.
ثم أن إدانة بومبيو لأوباما لتمكينه الإسلاميين «الأشرار»، ولا سيما في أعقاب زعم دونالد ترامب بإن أوباما ووزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون هما من أنشأ تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق والشام، تشكل ذخراً هاماً لمن يمتهن الطعن بالولايات المتحدة. لا تنفع هنا التوضيحات والتفسيرات اللاحقة، بل الباب مفتوح على مصراعيه لإثراء الخطابيات المعادية للولايات المتحدة، سواء تلك المدعومة من روسيا أو إيران أو اليسار العربي المعادي للإمبريالية، للاستفادة من هذه الأقوال. فالشكر من هؤلاء جميعاً موصول إلى وزير الخارجية بومبيو لتقديمه التأكيد العلني والصريح حول حالات الفشل العديدة التي منيت بها الولايات المتحدة وحول تورطها بدعم الجهات الشريرة.
وعليه، فلا بد عند مخاطبة الجمهور الخارجي، ولا سيما في المحيط العربي، من إعادة نظر وتقويم. طبعاً، القصد والمضمون من صلاحيات صانع القرار، وليس المطالبة هنا بتبديلهما. المقصود هو الأسلوب والذي لا به فيه من مراعاة توقعات الجمهور المعني.
على النقد أن يتوجه إلى الأطراف المسيئة، لا إلى السياسة الأميركية السابقة
قد تستحق إدارة أوباما النقد الحاد من جانب من يختلف معها، ضمن الساحة الداخلية، للسياسات الخاطئة التي انتهجتها في الشرق الأوسط. ويمكن تشريح هذه السياسات لما طفحت به من إفراط في التفاؤل وشحة في تحقيق النتائج. وكانت حكومة أوباما قد تواصلت مع منظمات الإخوان المسلمين المختلفة اعتماداً على هامش القبول بالديمقراطية لدى هذه المنظمات، في أدبياتها وفي سلوكها. واختارت إدارة أوباما كذلك السعي إلى اتفاق مع إيران على أساس التوقعات القائلة بأن من شأن ذلك أن يقوّي التيار المعتدل في طهران وأن يدفع بإيران نحو تحسين سلوكها في المنطقة. ويمكن اتهام حكومة الرئيس السابق أوباما هنا وهنالك بأنها قد وضعت الثقة في غير موضعها وأمعنت بالتفاؤل غير المجدي، وجنت من كل هذا الفشل. أما عندما تكون القراءة موجهة للساحة العربية والشرق-أوسطية، فمن الأنسب والأصحّ أن يكون التركيز في تشخيص مواطن الفشل في هذه السياسات على الجهات التي فشلت بالفعل في الانسجام مع التوقعات المتفائلة للحكومة السابقة، مهما كانت هذه التوقعات مفرطة.
فقد كان من شأن بومبيو تجنيب من أصغى إلى خطابه الاستماع إلى ما لا يهمّه أو يعنيه أو يفيده من المشاحنات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة لو أنه اختار التركيز على إدانة إيران لإصرارها على تجاوز المعايير الدولية وتخلفها عن الاستفادة من الفرصة التي قدمتها لها إدارة أوباما للتصرف كدولة عادية، وقد كان بومبيو بالفعل قد نجح بتفصيل ذلك في خطابه حول النقاط الـ ١٢ في أيار من العام الماضي.
وكذلك الحال، كان بوسع بومبيو التشديد على أن الإخوان المسلمين لم يرتقوا إلى مستوى وعدهم بالسلوك الديمقراطي بعد الربيع العربي، والتنبيه إلى مواقفهم العقائدية الحالية والتي تفتح المجال أمام المزيد من التشدد والقطعية، لينقل بذلك تسليط الأضواء إلى مواضيع تتعلق بالفعل بمنطقة الشرق الأوسط بدلاً من الإمعان بالمزيد من الأذى لصورة الولايات المتحدة من خلال إشهار التناكف الداخلي فيها.
فعلاقات الولايات المتحدة بدول المنطقة معرّضة للتراجع مع استمرار التنافر في موقف حكومات هذه الدول بين الثناء العلني والشكوك الصامتة إزاء ما تعتبره تقلبات مزاجية لواشنطن، ولا سيما في خضمّ السياسية الإقدامية لكل من روسيا والصين إزاء المنطقة. وقد يكون للولايات المتحدة مصلحة بالانسحاب من الشرق الأوسط أو قد لا يكون، غير أنه لا جدوى من الإسراع بالدفع باتجاه تقليص لهذا الدور نتيجة تعثرات خطابية.
من حق الحكومة الأميركية الحالية بالطبع أن تتميز في سياساتها عن سابقتها. غير أنه من صالحها أن يستقيم خطابها الموجه للطبقة السياسية كما للجمهور العريض في الشرق الأوسط ليظهر التبديل في السياسة على أنه نتيجة مراجعات مدروسة ومسؤولة لجدوى السياسات المطبقة ضمن منظومة متجانسة، وليس انعكاساً لتقلبات مفاجئة لا يمكن معها التعويل على الولايات المتحدة أو الاطمئنان إلى التزامها.
معهد واشنطن