حلت أول أمس (الجمعة) الذكرى الثامنة لثورة 25 يناير 2011 الثورة العظيمة التي أسقطت حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك بعد ثلاثين عاما من حكمه، بنسختيه الرسمية والعُرفية.. ويمكن تقسيم حكمه إلى مرحلتين: الأولى من حتى بداية الألفية الثالثة، أي عشرين سنة تقريبا، كان فيها مبارك حاكما فعليا، بكل ما عليه، أما السنوات العشر من الألفية الجديدة تركها لنجله الأصغر جمال، على طريقة مقاولي الباطن.. الذين يقومون بتنفيذ أعمال تمهيدية أو تكميلية وهامشية، تسندها الشركات الكبيرة لمقاول صغير، نوع من العلاقات العُرفية – غير رسمية وأحيانا غير قانونية – ومن جانبنا أطلقنا عليها تسمية الحكم الموازي أو «الرئيس الموازي
أما سنوات ما بعد مبارك من 2011- 2019، بكل ما فيها من احتقانات وتوترات وتراجعات وأعاجيب، شهدت إعادة إنتاج حكم مبارك مرة أخرى، بنسخة أكثر تشوها وتوحشا وتضييقا، واصطبغت بالعنف والدم والحرمان، وفقدان أبسط حقوق الحياة الكريمة، والعودة هنا ليست عودة شخوص النظام السابق، أو أسلوب إدارته.. إنما الانتقال إلى حالة أخرى، وإذا كانت إدارة مبارك الأب قد ركنت للثبات والجمود وعدم التغيير، فإن الإبن جعل من الدولة شركة، بعيدة عن السياسة، وتحكمها علاقات التجارة والمال وعقد الصفقات، وفيها انتقلت الأصول والثروات والأملاك العامة إلى الملكية الخاصة، ولحساب رجاله الأقربين، فزاد الفساد، وشاع النهب، وتعمقت التبعية، وشقت الصهينة طريقها، بين رجال السياسة والمال والأعمال والأمن.
ونظام ما بعد الاستفتاء على دستور 2014، فاقم من سوءات حكم الأب والابن، واستن لنفسه ثلاثية بديلة لـ«الاستبداد والفساد والتبعية» بأخرى تقوم على «التأديب والانتقام والتضييق»؛ صاغ بها العلاقة مع المواطنين، وأدت إلى التفريط في الأرض، والتضييق في الرزق، ومصادرة الحريات، واختفت البدايات الناعمة وحلت محلها غِلظة وقسوة؛ تنوء بحملها الجبال.. وانقسم المجتمع إلى قلة مُنَعَّمة، ممتازة ومتميزة «سوبر»، أو نخب أول – بفتح النون وتسكين الخاء – وغالبية عظمى كِمَالة (زايادة)؛ خارج أي تصنيف متعارف عليه.. وهذه الكمالة أُسْقِطت من الحساب، فلا تُوَقر ولا تُحترم ولا تجد من يرأف بها.. وهي دائما في مرمى نيران الإهانة والتوبيخ والتأنيب، ومجرد سؤال الأمهات أو الأباء من الطبقة الوسطى وما دونها، بتأكد المرء من صحة هذا الكلام، ونسبة هؤلاء لا تقل عن 90 في المئة من شعب «المحروسة».
وأهم إنجازات السنوات الخمس الماضية، بعيدا عن الطرق الجديدة، و«العاصمة البديلة»، والإحسان الشخصي على أحاد الفقراء والمعدمين من أهالينا الطيبين والبسطاء، بعيدا عن ذلك يجد المواطن ديونا تجاوزت حد القدرة على السداد، وجبايات تجاوزت طاقة الناس على الدفع، وأسعار فاقت إمكانية الشراء، وأهم الجهود التي لا يعوضها أي جهد آخر هي «شيطنة» الثورة؛ برقيها وسلميتها، و«تجريم» ثوار أسقطوا نظاما مستبدا وفاسدا وتابعا، وحافظوا على الدولة، وسعوا لتطهيرها مما علق بها من فساد وأمراض وعلل.
ويبدو هذا النوع من الإنجازات أدخل «المشير» إلى نادي الثورة المضادة في «القارة العربية»، فامتلأت المعتقلات والسجون بالشباب والرجال، وطالت الشيوخ، وقد يسأل البعض عن حشر الشيوخ في ذلك المقام؛ على اعتبار أن ثورة يناير بالأساس ثورة شبابية وشابة؛ قام بها وحركها وقادها شباب؛ إلا أنها تميزت باستقطاب شيوخ التحقوا بها وانضموا لصفوفها، ولعبوا أدوارا في نصرتها وشد أزرها، وقد كانوا يقبضون على جمر الانتظار لعقود طالت؛ حتى حانت اللحظة وانفلق صُبحها، فعادت لهم الروح، بعد يأس. واحتل بعض أولئك الشيوخ الصفوف الأمامية.. واختار أغلبهم الصفوف الخلفية.. دعما لشباب كان عند حسن الظن، وترحيبا بثورة انتظروها زمنا طويلا.
وها هو أحد الشيوخ.. أخ وصديق عزيز؛ عالم الجيولوجيا والاستاذ الجامعي يحيى القزاز؛ ها هو يصف نفسه والثوار وأنصارهم، الذين ما زالوا خارج المعتقلات والسجون بإنهم «تحت الطلب.. نحن حالات مؤجلة.. من يأتي دوره يقبض عليه.. كل منا وارد السجن او الاغتيال»، قال هذا في الأسبوع الأخير من أيار/مايو 2018، وحل هو خلف القضبان في الثالث والعشرين من اغسطس 2018، وقبض عليه وهو يؤدي واجب العزاء في مدينة «القصير» بمحافظة البحر الأحمر، وما زال في زنزانته حتى كتابة هذه السطور، والتهم مصكوكة وجاهزة ومعلبة، ولم ينته التحقيق بعد إنقضاء خمسة شهور، ولا تُعرف له نهاية أو مستقر.
(دُمغت الثورة بالمؤامرة التي استهدفت إسقاط الدولة، وما حدث هو العكس تماماً)
وكثير منا يعلم؛ أنه لم يكن في وارد المحتجين إسقاط نظام حسني مبارك، وكانت مطالبهم ممكنة، وهو الذي أسقط نفسه بالعناد والتصعيد، واستخدام العنف المفرط ضد الثوار، وسقوط الضحايا والشهداء والجرحى بينهم، وتأثير مجريات يوم 28 يناير/كانون الثاني الدامي، والعنف الزائد من قِبَل الشرطة.. وهو يوم شهد تغيراً، ما زال محل تساؤل عن موقف جماعات «الإسلام السياسي»، وكانت محجمة عن المشاركة، وقررت فجأة مساء يوم السابع والعشرين من يناير النزول إلى «ميدان التحرير»؛ في اليوم التالي، الذي عُرف بـ «موقعة الجمل» والهجوم على آلاف المعتصمين.. ودهس الثوار بسيارات دبلوماسية؛ حملت أرقام السفارتين الأمريكية والبنمية.. وصرح مسئول بالسفارة الأمريكية وقتها بسرقة 21 سيارة من أماكنها (الجراجات)، وعن السيارة البنمية أفادت الشرطة أن الرقم مسروق من سيارة للسفارة البنمية، وما زال لغز هذه السيارات الدبلوماسية لم يُكشف النقاب عنه بعد!!
حينها لم يكن سقف المطالب قد ارتفع، وكانت في حدود إلغاء الطوارئ، ووقف التعذيب، ومحاسبة من قاموا به من رجال الشرطة، وإقالة وزير الداخلية، ولو بادر مبارك الأب أو الابن، والتقى أيهما بوفد من المحتجين، كما حدث في مرات سابقة؛ ما تحولت الاحتجاجات السلمية إلى ثورة، ولا ارتفع سقفها إلى حده الأقصى، والمطالبة بإسقاط النظام، وترديد الجموع هتافها المدوي: «الشعب يريد إسقاط النظام»، واستعدادها للزحف إلى قصر الرئاسة (قصر الاتحادية)..
دُمِغت الثورة بالمؤامرة التي استهدفت إسقاط الدولة، وما حدث هو العكس تماما، وهي أكذوبة روجتها دوائر الرئاسة وإعلامها المضاد.. وتجاهلت أن المحرضين والطابور الخامس؛ يعملون ليل نهار لإسقاط الدولة، وهم مسيطرون ومتحكمون من إدارات الدولة ومفإصل الحكم؛ تعاونهم قوى إقليمية ودولية؛ تبدأ من الرياض، مرورا بتل أبيب، وانتهاءا بواشنطن.. وجلسوا على عرش الثورة المضادة، وأداروها ومولوها في مصر وسوريا وليبيا وتونس واليمن، ونجحوا بإمكانياتهم المالية الضخمة، ورد على ادعاء إسقاط الثورة للدولة الكاتب الصحافي محمد أمين؛ قريب من الرئاسة، كتب في صحيفة «الوفد» الأسبوع الماضي: «لا أحد خرج في ثورة 25 يناير وهو يريد إسقاط مصر، كل الوجوه التي ظهرت في كانون الثاني/يناير كانت تريد إسقاط مبارك في عملية سلمية لتداول السلطة»، وذلك صحيح تماما، فالأمر كما ذكرنا لم يكن على ذلك النحو؛ من البداية حتى النهاية!!.
القدس العربي