دينا حلمي*
“المهم في التقدم الاقتصادي ليس التقدم على مستوى الناتج المحلى الإجمالي فقط ولكن الأهم هو الانجاز في مجال السياسات الاجتماعية أو العدالة الاجتماعية”… انطلاقا من هذا المبدأ بدأ الرئيس البرازيلي الأسبق لولا دا سيلفا مسيرته نحو النهوض بالبرازيل اقتصاديا واجتماعيا. تحول بها من دولة تقف على شفى حفرة الإفلاس إلى سابع أكبر اقتصاد في العالم.
ورغم اتهامه بالفساد خلال السنوات الماضية، إلا إنه مازال الرئيس الافضل لدى الشعب البرازيلي الذي أهداه لقب بطل الفقراء. مازال أوسع رؤساء العالم شعبية على وجه الأرض كما أطلق عليه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. كيف استطاع اكتساب هذه الشعبية، وكيف جعل من البرازيل نموذج رائد في التنمية هذا ما نلقي عليه نظرة سريعة.
تاريخ من المعاناة الاقتصادية
لعقود طويلة عانت البرازيل حالة من التدهور السياسي والاقتصادي، والاجتماعي أيضا. فذاقت منذ 1930ويلات الحكم العسكري حيث انتشرت الحروب الأهلية وتفاقمت عمليات القمع والسجن والاعتقال. وشهد اقتصادها أزمات كبرى انعكست على الحياة الاجتماعية بها فازدادت معدلات البطالة والفقر، وزادت معها الفجوة الاجتماعية بين مواطنيها بشكل كادت فيه الطبقة الوسطى أن تختفي.
وما إن انتهى الحكم العسكري في 1985 بتراجع الجيش عن الحياة السياسية وانتقلت السلطة إلى حكومات مدنية، حتى بدأت تلك الحكومات محاولات عديدة للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي. كان أبرز هذه المحاولات ما قام به الرئيس الأسبق “كاردوسو” (1995-2002). فقد وضع خطة “الريـال”، وانتهج النمط الرأسمالي، حيث تبنى سياسات الانفتاح الاقتصادي والخصخصة والتحرير، واتبع كافة توجيهات صندوق النقد والبنك الدوليين. بالفعل أدى ذلك إلى حدوث تقدم في مؤشرات الاقتصاد الكلى، إلا أنه ذلك لم يكن تقدما فعليا يمكن ترجمته على أرض الواقع. إذ أدت تلك السياسات إلى نتائج كارثية، حيث مُني المنتجين المحليين بخسائر فادحة، وارتفعت معدلات البطالة والفقر التي كانت مرتفعة بالأساس، كما وصلت معدلات التضخم عام 1994 إلى 3000%.
وفي 1999 انهار الاقتصاد، وخسرت العملة40% من قيمتها، فاضطر كاردوسو للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي بنحو 43 مليار دولار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاقتصاد، فأدى ذلك إلى ارتفاع الدين الخارجي من 150 إلى 250 مليار دولار.
ترتب على هذا انعدام الثقة في الاقتصاد البرازيلي من الجهات الدولية المانحة في مقدمتها صندوق النقد والذي رفض في 2002 أخر محاولات “كاردوسو” للحصول على قرض جديد. حيث رد الصندوق بأنه على استعداد لإقراض البرازيل قرضا جديدا بـ30 مليار دولار ولكن عقب الانتخابات الرئاسية ومعرفة توجهات الرئيس الجديد.وهكذا باءت محاولات كاردوسو الاصلاحية بالفشل مع مزيد من الأعباء وزيادة في الديون، وترك الحكم وخلفه مشكلات اقتصادية كبرى تلقى بظلال الإفلاس على البلاد، على الرغم من محاولاته الحثيثة لحلها.
لولا دا سيلفا وخطة الاصلاح
بنهاية 2002 فاز مرشح اليسار ورئيس اتحاد النقابات العمالية “لولا دا سيلفا بالانتخابات الرئاسية ليصبح بذلك رئيسا لدولة تعاني التضخم، يفتقد اقتصادها للثقة الدولية، وتشهد معدلات مرتفعة من الفقر والتفاوت الاجتماعي.ورغم حالة القلق التي انتشرت بين المستثمرين والرأسمالين من أن يتبنى الرئيس الجديد سياسات اقتصادية يسارية تتماشى مع توجهاته اليسارية المدافعة عن حقوق العمال والفقراء، إلا أنه استطاع أن ينهي هذا القلق باتباع نهج جديد حقق به التوازن بين مصالح رجال الأعمال ومطالب الفقراء. قام هذا النهج على اتباع سياسات يسارية لمواجهة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية، وأخرى ليبرالية لحماية استثمارات الرأسمالين، وضمنت هذه السياسات في خطة سُميت”الخطة الحقيقية Real Plan”.
قامت تلك الخطة على تحرير التجارة، وخصخصة المشروعات العامة، وتضمنت سياسات للسيطرة على التضخم، وجذب رؤوس الأموال الأجنبية، ومواجهة عجز الموازنة من خلال:
(1) تشجيع المشروعات الصغيرة في البداية: عبر تغيير سياسات الإقراض وتخفيض سعر الفائدة من 13.25% إلى 8.75 %، ما يسهل الإقراض بالنسبة للمستثمرين الصغار، ويساعد في تنفيذ تلك المشروعات وتوفير فرص عمل، الأمر الذي ساهم في مواجهة مشكلة الفقر، حيث ازداد دخل نصف سكان البلاد بنسبة 68%.
(2) التوسع في الصناعات البسيطة والتقنية: من خلال الاهتمام بالصناعات البسيطة القائمة على المواد الخام مثل تعدين المعادن والصناعات الغذائية، والصناعات التقنية مثل صناعات السيارات والطائرات.
ولعل أبرز الأمثلة على تلك الصناعات شركة (امبراير Embraer)، والتي تعد ثالث أكبر شركة تصنيع طائرات تجارية بعد إيرباص وبوينغ، وتمثل طائرات الشركة نحو 37% من أسطول شركات الطيران الإقليمية في الولايات المتحدة.
(3) الاهتمام بالقطاع السياحي: حيث ابتكرت نوع خاص من السياحة يعرف بسياحة المهرجانات، ونجحت في استقبال 5 ملايين سائح سنويا.
(4) تنفيذ برنامج التقشف الذي وضعه صندوق النقد: الأمر الذي ساهم في حل أزمة انعدام الثقة في الاقتصاد، حيث أدى البرنامج إلى خفض عجز الموازنة وتحويله إلى فائض بلغ 4% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2008 ، والانتقال من معدل نمو سالب في الناتج القومي المحلي إلى معدل منتظم وصل إلى حوالي 7.5% في 2010.
كما ساهم في ارتفاع التصنيف الائتماني، وتلقت البرازيل على إثره نحو 200 مليار دولار استثمارات مباشرة من 2004 وحتى 2011، وبعد أن كان صندوق النقد يرفض إقراضها في أواخر عام 2002 أصبح مدين لها بـ 14 مليار دولار خلال 8 سنوات فقط من تنفيذ خطة لولا الاقتصادية.
ماذا عن الجانب الاجتماعي؟
بالرغم من نجاح هذه السياسات الليبرالية في معالجة الأوضاع الاقتصادية، إلا أن لولا أكد أن الانجاز لا يكتمل دون تحقيق العدالة الاجتماعية. ومن هنا بدأ الشق اليساري في خطته الاصلاحية القائم بالأساس على مواجهة الفقر عبر توفير الإعانات الاجتماعية ورفع مستويات الدخل من خلال عدد من السياسات في مقدمتها:
(1) سياسة الحد الأدنى للأجور: تم فيها ربط الحد الأدنى بمعدل التضخم، وتعديله دوريا بما يتناسب مع التغير في هذا المعدل، الأمر الذي حافظ على القيمة الحقيقية للأجور وساهم في تحسين مستوى معيشة قطاع واسع من العاملين في القطاع الخاص والحكومي.
(2) سياسة الضمان الاجتماعي: تم تطبيقها على العاملين في القطاعين الخاص والحكومي، ونجحت في تغطية 90% من السكان فوق الـ65 عاما في 2009.
(3) الإعانات الاجتماعية (بولسا فاميليا): كان أهم برامج الحكومة لمواجهة الفقر، يتم من خلاله تقديم الدعم النقدي للأسر التي تقل دخولهم عن 28 دولار شهريا بغرض رفع مستواها وتحسين معيشتها، حيث تحصل الأسرة على دعم بمتوسط يبلغ تقريبا 87 دولار شهريا وهو ما يعادل 40% من الحد الأدنى للأجر في البلاد، بشروط صارمة تشمل التزامها بإرسال أطفالها للتعليم.
ساهم هذا البرنامج في خروج البرازيل لأول مرة من خريطة الجوع العالمية، طبقا لشهادة منظمة الفاو، ووصل عدد المستفيدين منه إلى نحو 11 مليون أسرة، بما يعادل حوالي 33% من الشعب البرازيلي.
أما السياسات السابقة فقد ساعدت بصفة عامة في تخفيض نسبة الفقر من 44.7% عام 2002 إلى نحو 29.7% عام 2009، صحيح أنها لم تقضي عليه نهائيا، إلا إنها نقلت ملايين الأسر من منطقة الفقر إلى منطقة الطبقة الوسطى. ولعل هذه أحد أهم المزايا التي تميزت بها تجربة البرازيل عن غيرها الكثير من الدول التي طبقت خطط وبرامج صندوق النقد دون مراعاة الجانب الاجتماعي ودون توفير برامج حقيقية وفعالة تحمي المواطن وتخفف من أثار البرنامج وتداعياته على أوضاعه المعيشية، الأمر الذي يؤدي بالنهاية إلى تآكل الطبقة الوسطى التي تلعب دورا هاما في تحقيق الاستقرار بالمجتمع. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أدى ذلك إلى تقليص الفجوة بين طبقات المجتمع، حيث وضح البنك الدولي أن دخل أفقر 10% من السكان كان يزيد بنسبة 9% سنويا في حين يزيد دخل الطبقات الأغنى بنسبة تتراوح بين 2-4% سنويا. كما وصل متوسط دخل الفرد إلى 15 ألف دولار.
وعلى هذا النحو قدمت البرازيل نموذجا لدولة استطاعت أن تنهض باقتصادها وتحقق العدالة الاجتماعية دون أن تقتنص من حقوق ومصالح الأغنياء أو تجور على الفقراء ومطالبهم. فوجود برامج الإعانة الاجتماعية وقرار الحكومة برفع الحد الأدنى من الأجور وجعله مرنا يتغير بتغير معدل التضخم ضمن تحسين أوضاع الفقراء وألا يصب النمو الاقتصادي في مصلحة الأغنياء فقط كما حدث في معظم دول العالم.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية