لا يوحي سلوك السلطة الحاكمة في الجزائر أنها تنوي الاستجابة لأحدث الرسائل التي بعث بها الحراك الشعبي العارم، وتمثلت في رفض واسع النطاق لسلسلة الإجراءات التي أعلنها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بعد عودته من العلاج في سويسرا. فالتظاهرات الحاشدة التي عمّت مدن الجزائر وبلداتها الجمعة الماضية قالت بصراحة إن تلك المقررات إنما تمد في عمر الرئاسة الحالية، وتؤجل الاستحقاق الانتخابي، وتعيد إنتاج طغمة الفساد والتسلط التي خرجت جموع الشعب للمطالبة بتغييرها جذرياً وإزاحتها عن مراكز القرار المختلفة.
فالرئيس نفسه وجّه رسالة في مناسبة إحياء ذكرى النصر لجأ فيها مجدداً إلى اللغة الفضفاضة والصياغات الضبابية، حول «التطلع نحو المستقبل» و«الاعتزاز بما أنجزته الجزائر المستقلة» وعقد الآمال العريضة على الندوة الوطنية الجامعة وتحقيق «القفزة التي ستتجسد مـن خلال تعديل دستوري شامل وعميق»، متناسياً عن سابق عمد أن هذا الشعب ذاته عاد إلى الشارع متظاهراً ضد هذه التدابير ذاتها.
والفريق أحمد قايد صالح نائب وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش عاد إلى التلويح بإمكان تدخل الجيش في إيجاد «حل، بل حلول» لكل مشكلة، من منطلق أن «الجيش الوطني الشعبي سيكون دوماً، وفقا لمهامه، الحصن الحصين للشعب والوطن في جميع الظروف». وهذا كلام حق يراد منه الباطل، لأن مهمة الجيش الأولى هي الدفاع عن أمن الوطن في وجه الأخطار الخارجية بصفة خاصة، وليس التدخل في الشؤون السياسية والدستورية وعلى نقيض الإرادة الشعبية.
ومن جانبه يواجه نور الدين بدوي المكلف بتشكيل الحكومة إعراض النقابات والهيئات والأحزاب عن المشاركة في المشاورات، على قاعدة معلنة هي أن الظرف الوطني غير ملائم وغير منسجم مع روحية الدستور، وعلى خلفية أخرى غير معلنة مفادها أن قبول التشاور مع الوزير الأول هو بمثابة مصادقة على سلّة الإجراءات التي أعلنها بوتفليقة وأعرب الشارع الشعبي عن رفضها جملة وتفصيلاً.
وأما وزير الخارجية ونائب رئيس الحكومة رمطان لعمامرة فإنه يبلغ بسلوك التجاهل هذا ذروة فاضحة ومدعاة سخرية معاً، لأنه يصرّ على أن ما تشهده الجزائر من تحركات شعبية عارمة منذ قرابة شهر يظلّ «مسألة داخلية بامتياز» و«عائلية محضة» لا يجوز لأي أطراف خارجية أن تتدخل فيها، بما في ذلك «قوى خفية ومنظمات غير حكومية» تستهدف «ضرب استقلال البلاد». ولكن لعمامرة يباشر في الآن ذاته جولة خارجية تشمل إيطاليا وروسيا وألمانيا والصين ومحطات أخرى، تثبت أن السلطة تستجدي الدعم من دول خارجية قد تكون لها كل المصلحة في إنقاذ النظام الحاكم وإبقاء الوضع الراهن على حاله في الجزائر.
ومن مفارقات هذه الجولة أن يطالب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للجزائر والالتزام بميثاق الأمم المتحدة في هذا الصدد، هو الذي تتدخل بلاده عسكرياً لصالح النظام السوري منذ أيلول (سبتمبر) 2015، وتفاخر زميله وزير الدفاع سيرغي شويغو بأن موسكو اختبرت 316 نوعاً جديداً من الأسلحة في سوريا.
الثابت أن سلوك السلطة الجزائرية يزداد ابتعاداً عن نبض الشارع الشعبي، الذي من جانبه يزداد تشبثاً بمطالب التغيير الجوهري، وهذا استعصاء ينذر بالانزلاق نحو مخاطر أخرى وخيمة العواقب.
القدس العربي