نشر المعهد الملكي للشؤون الدولية «تشاتام هاوس» في لندن، دراسة للباحث ديفيد بتلر، حول الاقتصاد السوري. وتُعتبر الدراسة الأولى من نوعها الصادرة عن معهد بحوث مرموق حول آثار الحرب في الاقتصاد والطاقة. يعترف التقرير بأن الدمار الذي لحق بالاقتصاد السوري صعب فهمه من خلال سرد الأرقام وحدها. لكن الكاتب يشير إلى أن أي تحليل مستقبلي رصين يستدعي دراسة البعد الاقتصادي، خصوصاً بعدما انخفضت القيمة الحقيقية للإنتاج الاقتصادي أكثر من النصف.
بلغت ذروة الإنتاج النفطي 600 ألف برميل يومياً تقريباً خلال عقد التسعينات. لكنّ انخفاضاً تدريجياً طرأ ليصل معدل الإنتاج إلى نحو 385 ألف برميل يومياً في 2010. وكان السبب الرئيس لهذا الانخفاض في حينه، محدودية إنتاجية الحقول وعدم اكتشاف حقول جديدة كبيرة تعوّض ما يجري إنتاجه. لكن مستوى الإنتاج تدهور في شكل ملحوظ منذ بدء النزاع الداخلي في 2011، إذ فُرِض حظر على استيراد الأدوات الاحتياطية والمعدات لقطاع النفط، وانسحبت كبرى الشركات العاملة مثل «شل» و «توتال»، وفقدت الحكومة سيطرتها على الحقول في الشمال والشمال الشرقي وحوض الفرات.
أدت هذه التطورات إلى تدهور مستوى الإنتاج الحكومي إلى نحو 164 ألف برميل يومياً في 2012، ونحو 30 ألف برميل يومياً في 2013، وتقريباً 10 آلاف برميل يومياً فقط في 2014. ويعود السبب الرئيس للتدهور الإنتاجي، إلى توسّع سلطة المعارضة المسلّحة في شرق البلاد. وعلى رغم استمرار سيطرة الحكومة على حقول الحسكة المهمة، وإدارتها بالتعاون مع القوى الكردية، إلا أن خط الأنابيب الرئيس لنقل نفط الحسكة غرباً، يمر في منطقة الرقة التي احتلّتها المعارضة ثم «داعش»، الأمر الذي أدى إلى إغلاق الخط بعد تعرّضه لأضرار جسيمة.
واستمرت القوى المعارضة (خصوصاً «داعش») في الإنتاج من بعض الحقول، لكن في شكل محدود جداً. وثمة تكهنات حول معدلات الإنتاج لدى «داعش» وغيره من المجموعات المسلّحة، وسعر بيع النفط، ودور المهربين في نقل النفط الخام أو المنتجات المكررة إلى الأسواق والمصافي المجاورة في كلّ من سورية وتركيا والعراق. وينتج «داعش» من حقلي «عمر» و «الرصافة»، ويستعمل المصافي الصغيرة لإنتاج المحروقات على رغم القصف الجوي للتحالف الدولي. لكن هذه الحقول تتطلّب ضخّ كميات كبيرة من المياه للحفاظ على الضغط الداخلي للآبار، وهذا يتطلب تقنية عالية، ما يعني أن «داعش» يستطيع إنتاج كميات محدودة فقط بالطرق البدائية الإنتاجية المتوافرة لديه.
واستطاعت السلطات السورية تعويض خسارة حقول النفط في تلبية الطلب المحلي في مناطقها، باستعمال الإمدادات النفطية الإيرانية. ويشير التقرير إلى أن القيادة العسكرية السورية تبنّت أولويات جديدة في 2012، من خلال تكثيف وجود قواتها في المناطق المكتظّة بالسكان في النصف الغربي من البلاد. وكذلك حماية حقول الغاز التي تزوّد الوقود لمحطات الكهرباء. يُذكر أن معظم حقول الغاز موجود بين حمص وتدمر، وأن نحو 80 في المئة من الغاز يُستعمل في توليد الكهرباء.
وأدت الجماعات المسلّحة والعوامل المحلية الذاتية، دوراً مهماً في تسويق النفط وتهريبه من المناطق التي انسحب منها الجيش. ووفق التقرير، «انسحب الجيش من المناطق العشائرية في محافظتي دير الزور والرقة غير المندمجتين كلياً في الدولة السورية. وتشكو العشائر منذ فترة طويلة، من عدم استفادتها من النفط في مناطقها، ومن غياب مصفاة في شرق البلاد، أو صناعات بترولية في مناطقها. وأعلنت الحكومات المتعاقبة منذ عقود، النية بتشييد مصفاة في دير الزور، لكن من دون جدوى».
وبلغت قيمة صادرات النفط الخام نحو 5.5 بليون دولار في 2010، بينما بلغت قيمة واردات المنتجات البترولية نحو 3 بلايين دولار. واستفادت الموازنة الحكومية من ريع الإتاوة والضرائب على الشركات، فشكّل الريع النفطي نحو 20 في المئة من الموازنات السنوية للأعوام 2005 – 2010.
وتكمن الخسارة الاقتصادية خصوصاً في قطاعي الطاقة والصناعة، ما أدى إلى ارتفاع نسبي في دور قطاع الزراعة مقارنة ببقية القطاعات، لكن على رغم ذلك، تفتقر البلاد حالياً إلى إنتاج غذائي. وتشير المعلومات الشهرية الرسمية، إلى أن معدل التضخم ارتفع نحو 51 في المئة بين كانون الثاني (يناير) 2012 وآذار (مارس) 2015. وتدهورت قيمة الليرة السورية نحو 80 في المئة منذ بداية الثورة.
وتشكّلت خلال الحرب مناطق نفوذ اقتصادية جديدة و «اقتصاد حرب» من خلال دور «داعش» و «حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي»، إضافة إلى القوى المعارضة الأخرى في الجنوب وشمال غربي البلاد، حيث يؤدي التهريب والمساعدات الدولية دوراً مهماً في ديمومة إقامة السكان في هذه المناطق. ويستمر في المقابل، جهاز الدولة في رسم الموازنات، ومحاولة كبح ارتفاع الأسعار وتأمين الكهرباء، لكن «هيبة مؤسسات الدولة اضمحلّت». وتزوّد إيران سورية بإمدادات نفطية وسيولة مالية، «لكنها تضع شروطاً سياسية واقتصادية لاستمرار هذه المساعدات»، وفق الدراسة.
يعتمد «اقتصاد الحرب» إلى حدّ كبير، على ممارسات عصابات التهريب التقليدية، التي استمر بعضها في عمله واستغلال اتصالاته. لكن قوى المعارضة، خصوصاً «داعش»، تسيطر على بعض هذه العصابات الآن. ويعوّل الاقتصاد إلى حدّ كبير، على المساعدات التي تقدّمها الأمم المتحدة وإيران وروسيا إلى الحكومة، ناهيك عن التبرعات التي تستلمها القوى المعارضة. وتركت هذه المساعدات المختلفة بصماتها على اقتصاد الحرب، خصوصاً في المناطق الزراعية والنفطية الخاضعة لسيطرة المعارضة. واضطر القطاع الخاص السوري إلى التعايش مع المتغيرات السياسية بين منطقة وأخرى. وأحياناً، نقل أعماله وأصولاً له إلى دول مجاورة، خصوصاً تركيا. ووفق مصادر رسمية تركية، شارك رأسمال سوري في نحو 25 في المئة من أربعة آلاف و249 شركة ذات رأسمال أجنبي تأسست في تركيا في 2014.
وأدت الحرب إلى تراجيديا إنسانية للشعب السوري. فقد تقلّص عدد السكان من نحو 21 مليون شخص إلى 17.5 مليون بسبب الهجرة الخارجية، وموت أكثر من ربع مليون. ويقدر أن نحو ثلث سكان البلاد هاجروا داخلياً. ويرجح التقرير أن توسّع رقعة النزاع في بداية 2015، أدى إلى زيادة الضغوط على النظام، من ضمنها الضغوط الاقتصادية. هذه الضغوط المتزايدة ستترك آثارها في مهمة التخطيط بعد انتهاء الأزمة.
وليد خدوري
صحيفة الحياة اللندنية