حملت مباراة المنتخب العراقي مع نظيره الإيراني طابعا رمزيا كبيرا للعراقيين المنتفضين ضد نظام الحكم في الشوارع، فالرياضة، وكرة القدم على الخصوص، ترفع آمال الشعوب المقهورة، فكيف حين يتعلق الأمر ببلدين تتشابك حدودهما الجغرافية كما يشتبك تاريخهما بشكل وثيق، وقد عانى شعباهما من كوارث الحرب بينهما، وتتداخل الآن في مصيرهما اشكاليات تبعية الكثير من مسؤوليه وسلطات بلاده وميليشياتها الحزبية لإيران، وهي تبعية تُشعر أبناء الشعب العراقي المعروف باعتزازه بتاريخه العريق بالإهانة، وهو ما يفسر الفرح العارم الذي أبداه مدنيو وعسكريو العراق في ساحات الانتفاض.
والحقيقة أن أشكال التبعية هذه لا تثقل على العراقيين فقط بل كذلك على الشعب الإيراني الذي يتقاسم مع العراقيين الدين الإسلامي وتقديس المقامات الشيعية التي يزورها مئات الآلاف من الإيرانيين كل عام، والأهم من ذلك أن الإيرانيين أيضا يتشاركون مع العراقيين في آمال التقدم والازدهار الاقتصادي والحريات السياسية والديمقراطية، وقد خرجوا، كما فعل نظراؤهم العراقيون إلى الشوارع للاحتجاج والتظاهر والتعبير.
تبين تصريحات المرجع الشيعي الأعلى في العراق، علي السيستاني، عبر أحمد الصافي، ممثله في كربلاء، إشارات إلى هذه الوضعية عدة مرات، بانتقاده «التدخل الإقليمي» في الشأن العراقي، من جهة، وبانتقاداته أيضا للمسؤولين العراقيين، كما فعل أمس الجمعة حين قال إن العراق بعد الاحتجاجات لن يعود مثلما كان قبلها، وأنه «اذا كان من بيدهم السلطة يظنون أن بإمكانهم الهرب من استحقاقات الإصلاح الحقيقي بالتسويف والمماطلة فإنهم واهمون».
بعض المسؤولين الكبار في الحكومة العراقية لا يخجلون من الإفصاح عن ضعف شأنهم، حين يقومون بالمناشدة والطلب ممن تبدو «جهات» أعلى منهم على التصرف، كما فعل رئيس الحكومة العراقية عادل عبد المهدي حين أصدر بيانا دعا فيه إلى إطلاق سراح اللواء الدكتور ياسر عبد الجبار، عميد المعهد العالي للتطوير الأمني والإداري في وزارة الداخلية، والذي تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يظهر عملية اختطافه في وضح النهار وسط بغداد، واتهمت ميليشيات تابعة لإيران باختطافه، مما أثار سخرية العراقيين الذين اعتبروا أن بيان عبد المهدي يليق بناشط مدني وليس برئيس حكومة.
مثال آخر على ذلك جاء أمس من وزير الدفاع نجاح الشمري الذي أعلن في مؤتمر صحافي الخميس أن هناك «طرفا ثالثا يقوم بقتل المتظاهرين في العراق»، مشيرا إلى المقذوفات التي استخرجت من أجساد المتظاهرين القتلى «لم تستورده أية جهة عراقية»، وأنه «لم يدخل العراق عن طريق الحكومة».
تبدو تصريحات الشمري متشابهة مع تصريحات سابقة لمسؤولين عسكريين وأمنيين عرب في البلدان التي قتل فيها محتجون خلال تظاهرات سلمية، في محاولة إبراء أنفسهم من مسؤولية قتل المتظاهرين، وهي تحمل مفارقة قاتلة لأنها لا تبرئ هؤلاء المسؤولين حقا بل تسائل صدقيتهم في استلام المسؤوليات والمناصب التي يحتلونها، وفي أسباب بقائهم في تلك المناصب إذا كانوا غير قادرين على حماية المتظاهرين من «الطرف الثالث»، سواء كان موجودا حقا، كما رأينا في حالة العراق، أو كان قناعا لجرائم وزراء الداخلية والدفاع والأمن.
في هذه الأثناء، تستمر الشعوب العربية في ابتكار أشكال الاحتجاج السلمي العظيم ضد الظلم والفساد والاحتلال الأجنبي ويجترحون بطولات هائلة فيما يظهر مسؤولوهم مزيجا بائسا من الغطرسة والمهانة.
القدس العربي