في الوقت الذي تدرس فيه السلطات الأمريكية أفضل السبل لمكافحة الإرهاب وسط ضروريات السياسة الأخرى، يتعين عليها الإجابة على العديد من الأسئلة: كيف تبدو معادلة الخطر في بلد يتسم بمثل هذه البيئة الأمنية الوطنية المعقدة؟ كيف ينبغي للحكومة الأمريكية تحسين تخصيص موارد مكافحة الإرهاب بما يحقق أفضل مصلحة للولايات المتحدة عندما تكون هناك أولويات مختلفة للإدارات والوكالات؟ وكيف يمكن لأمريكا أن تواصل نجاحاتها في موقفها لمكافحة الإرهاب دون عكس المكاسب التي تحققت منذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر؟
على الجانب الإيجابي من السجل، لم يقم تنظيم «الدولة الإسلامية» ولا تنظيم «القاعدة» بهجوم ناجح واسع النطاق في الغرب منذ بعض الوقت. وكان آخر هجوم كبير لتنظيم «القاعدة» في دولة غربية هو ذلك الذي وقع ضد مقر صحيفة “شارلي إيبدو” في باريس في كانون الثاني/يناير 2015؛ كما كان آخر هجوم كبير قام به تنظيم «داعش» هو ذلك الذي وقع ضد ملهى “رينا” الليلي في إسطنبول في كانون الثاني/يناير 2017. وقد أدت هزيمة خلافة تنظيم «الدولة الإسلامية» والقبض على قادتها وقتلهم إلى الحد من احتمال وقوع هجمات واسعة النطاق، موجهة من الخارج، ومن تأثيرها على المدى القريب، وهو الأمر بالنسبة لجهود بناء القدرات التي أجرتها الدول المتحالفة والتحسينات التي أُدخِلت على تبادل المعلومات العالمية وأمن الحدود. على سبيل المثال، كان رد كينيا على هجوم حركة “الشباب” [الإسلامية الصومالية المتطرفة] في كانون الثاني/يناير 2019 على فندق ومجمع شقق في نيروبي أفضل بكثير من الطريقة التي تعاملت بها مع عملية إطلاق النار في “المركز التجاري ويستغيت” في أيلول/سبتمبر 2013.
ومع ذلك، على الولايات المتحدة تجنب الشعور بالرضا من الوضع القائم. فلا تزال أمريكا تواجه تهديداً منتشراً ومتعدد الأشكال، يضم متطرفين عنيفين محليين، وفروع تنظيم «الدولة الإسلامية»، والجماعات التي تدور في فلك تنظيم «القاعدة»، وإيران ووكلائها (من بينهم «حزب الله» والميليشيات الشيعية في العراق)، وراديكاليين من اليمين المتطرف. وهذه الشبكات الإرهابية ماهرة بشكل خاص في استغلال التكنولوجيا. فهي تستخدم الاتصالات المشفرة للتخطيط العملياتي؛ وتنشر الدعاية وتنقل المعرفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ وتعتمد على الطائرات بدون طيار لهجمات السرب، وتسليم المتفجرات، والاغتيالات؛ وتستخدم وثائق احتيالية عالية الجودة للتهرب من أمن الحدود؛ وتموّل العمليات عن طريق العملة الرقمية “الكريبتو كرنسي”؛ ومن المرجح أنها تجري تجارب على استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية. وهي أيضاً شبكات مبدعة في مجال التجنيد تستهدف السكان والشباب المستضعفين.
واليوم، ما زال هناك مزيج من العوامل الشخصية، والجماعية، والمجتمعية، والاجتماعية -السياسية، والأيديولوجية المستمرة في توليد التطرف وحشد الناس للعنف. وهناك اليوم ما يقرب من أربعة أضعاف عدد الأفراد المتطرفين الذي كان في 11 أيلول/سبتمبر، كما أن قاعدة البيانات الأمريكية للإرهابيين المعروفين أو المشتبه بهم قد نمت بمعدل عشرين مرة منذ ذلك الحين. ومع ازدياد عدد السكان المتطرفين، ستنخفض قدرة الولايات المتحدة على تحديد الإرهابيين والقبض عليهم وقتلهم. بالإضافة إلى ذلك، فإن الهجرة من إفريقيا، التي تعود جزئياً إلى الاحتباس الحراري، تُولّد التطرف في صفوف العناصر من أقصى اليمين ضد اللاجئين وطالبي اللجوء في أوروبا. ويتطلب ازدهار المجتمع الراديكالي بذل جهود قوية لمنع الإرهاب.
ونظراً لأن التهديدات تدور حول الأشخاص والشبكات، فقد أنفق مجتمع الأمن القومي الأمريكي قدراً هائلاً من الطاقة في بناء مقاربة متعددة الجوانب للتدقيق في الوافدين إلى الولايات المتحدة على مدار الثمانية عشر عاماً الماضية، بحيث يخضع 3.2 ملايين شخص للفحص يومياً. وينتج مجتمع مكافحة الإرهاب حالياً ملفات أكثر ثراءً، ويستخدم التكنولوجيا بشكل أفضل، ويقوم بإجراء فحص سري في الوقت الفعلي لدعم قوائم المراقبة غير المصنفة، وعند الإمكان، يستند إلى المقاييس الحيوية للتأكد من نية المشتبه بهم الذين يعتزمون الدخول إلى أمريكا. ولا يوجد ما يشير إلى أن الجماعات الإرهابية الأجنبية حاولت استغلال برنامج قبول اللاجئين في الولايات المتحدة للدخول على مدار العقد الماضي. وحتى الآن، تمكّن شخصان فقط من دخول أمريكا كلاجئين ونفذا لاحقاً هجمات على أراضيها، وكلاهما تطرفا بعد الدخول. وحتى الآن، كان أداء نظام الفحص والتدقيق جيداً للغاية.
ومع ذلك، يتضح كل يوم أن ما يقرب من ثلاثة أفراد يستوفون معايير “المركز الوطني لمكافحة الإرهاب” للإرهابيين المعروفين أو المشتبه بهم الذين يسعون للدخول إلى الولايات المتحدة. وهناك سبعة أفراد آخرين في اليوم لديهم روابط محتملة بإرهابيين معروفين أو مشتبه بهم، على الرغم من أن الحكومة الأمريكية تفتقر إلى المعلومات السلبية الكافية لتصنيفهم إرهابيين. وبالتالي، لا يمكن للسلطات أن تكتفي بما أنجزته. وكما أوضح المهاجمون السابقون في باريس وبروكسل، فحتى أولئك المعروفين لدى وكالات الأمن يمكنهم تجنب الكشف عن طريق تعريف احتيالي عالي الجودة، مما يبرز الحاجة إلى جمع، ودمج، وتبادل المعلومات البيومترية (معلومات القياس الحيوي). وهذه الجهود، إلى جانب تحسين سيرورة الأعمال وتكنولوجيا المعلومات، تصب في مصلحة مكافحة الإرهاب ومجتمعات الأمن القومي.
بالإضافة إلى ذلك، يشكل جمع المعلومات الاستخبارية الشاملة أمراً ضرورياً لرصد التهديدات المحلية التي قد تتحول إلى تهديدات ضد الوطن. وهذا يعني التركيز على كل شيء بدءاً من الجماعات المتطرفة الهامشية غير المنتسبة، مثل “جماعة التوحيد الوطنية” في سريلانكا (التي نفذت هجمات عيد الفصح هذا العام) وحركات التمرد الأصلية المحلية والفروع الإرهابية الرسمية. ونظراً لأن الولايات المتحدة تحدّ من انتشار قواتها والعناصر التابعة لها في الخارج، لا سيما في العراق وسوريا، فسيكون لديها عدد أقل من مصادر الذكاء الإنساني وستتضاءل اتصالاتها مع الشركاء على الأرض ووتيرة التنسيق معهم. لذلك يجب على المسؤولين الأمريكيين إجراء تحليل التكلفة والفائدة للمخاطر الناجمة عن هذا الانخفاض في الأصول.
وتشكّل البيانات قوام مكافحة الإرهاب، ولكن البيانات غير الكاملة، والغامضة أحياناً، وغير الدقيقة في كثير من الأحيان تشكل تحدياً هائلاً لمحللي “المركز الوطني لمكافحة الإرهاب”. ولدى [عمليات] مكافحة الإرهاب نسبة إشارة إلى شوشرة (تشويش) سيئة للغاية. على سبيل المثال، تتلقى السفارات والقنصليات حوالي 300 تهديد سنوياً، في حين يتلقى مركز عمليات “المركز الوطني لمكافحة الإرهاب” نحو 10 آلاف تقرير مرتبط بالإرهاب يومياً، تحتوي على حوالي 16000 اسم. وعلى الرغم من أن معظم هذه التهديدات ليست موثوقة أو قابلة للتنفيذ، إلا أنه لا يمكن تجاهلها.
ومن بين التحديات الأخرى، هو تعارض السلامة العامة أحياناً مع اعتبارات الخصوصية بحكم الضرورة. ما هي المعلومات التي يجب أن تكون متاحة لأي منظمات، ولأي سبب، ومتى؟ ما هو مستوى ونوع خطر مكافحة الإرهاب الذي سيكون الأمريكيون مستعدين للقبول به من أجل الحفاظ على الحريات الأساسية؟ كيف ينبغي أن يتعامل مجتمع الأمن القومي مع استغلال الإنترنت؟
إن التكامل بين الحكومة بأكملها يكتسي أهمية متزايدة في ظل بيئة التهديدات الراهنة. ويُعد دمج الجهود بنجاح أمراً صعباً ولكنه غير مستحيل، كما تبين خلال التدقيق وإعداد هيكلية قائمة التعقب لما بعد هجمات 9 أيلول/سبتمبر. وقد عقد النواب والمديرون اجتماعات لجان دورية خلال السنوات التي تلت تلك الهجمات، لكن الميل نحو اتخاذ القرارات اللامركزية كان ملحوظاً منذ عهد الإدارة الأمريكية السابقة. ويتمّ حالياً إعادة إرسال القرارات التي اتخذها “مجلس الأمن القومي” سابقاً وفق الهرمية التنازلية إلى الأقسام المنفردة والوكالات. ومع ذلك، فلا بدّ من نشر مبدأ “الذاكرة العضلية” المشتركة بين الوكالات – القائم على التكرار لتعزيز الكفاءة – بغية ضمان الرد السريع في حال اندلاع أزمة.
وبالإضافة إلى التعاون في الداخل، يتعين على الوكالات الأمريكية التعاون خارجياً. فالشراكات بين القطاعيْن العام والخاص أساسية لعرقلة جهود تجنيد الإرهابيين، والترويج للدعاية، وتبادل المعلومات لدعم الهجمات. وقطعت الصناعات خطوات هائلة في جعل الفضاء الإلكتروني (المعلوماتي) أقل ترحيباً للإرهابيين، وخاصة من خلال “منتدى الإنترنت العالمي لمكافحة الإرهاب”، وهو اتحاد يضم كبرى شركات الإعلام الاجتماعي. وقد أفادت خدمات الشبكات الاجتماعية “فيسبوك” و “تويتر” و “يوتيوب” أنها تكتشف تلقائياً أكثر من 90 بالمائة من محتوى الإرهاب قبل نشره.
ومع ذلك، فإن زيادة الشفافية في جهود إزالة المحتوى قد تحقق مكاسب أكبر على صعيد مكافحة الإرهاب. لكن التقارير الصادرة عن شركات مواقع التواصل الاجتماعي تفتقر حالياً إلى التفاصيل حول نوع المحتوى الذي تم إزالته وأساليب إزالته. ومن شأن تزويد الحكومة بمحتوى المنشورات، وتحديد مواقعها الجغرافية، والإسنادات التي تعتمد عليها المرتبطة بالإرهاب أن يكون مفيداً من حيث التقييم الفعال لاتجاهات الدعاية، والجماعات الجديدة / الناشئة، والداعين الرئيسيين للتطرف، ومصداقية المؤامرات المحتملة. ويمكن بعد ذلك إعادة نقل المعلومات المعمقة إلى الشركات من أجل تحسين حلولها الحسابية. ويُعد “التحالف الوطني للطب الشرعي والتدريب”، الذي يعمل في ساحة جرائم الفضاء الإلكتروني، نموذجاً مثالياً لهذا النوع من العلاقات التآزرية.
وأخيراً وليس آخراً، يتعين على الولايات المتحدة معالجة البعد العالمي للإرهاب غير الإسلاموي، المعروف على نطاق واسع باسم “التطرف العنيف بدوافع عنصرية وعرقية”. وكان العديد من الإرهابيين اليمينيين المتطرفين قد اكتسبوا طاعة دولية وكانوا مصدر إلهام لمهاجمين مُقلِّدين. على سبيل المثال، تمّت الإشادة بالإرهابي النرويجي أندرس بريفيك أو البحث عنه من جانب خمسة مهاجمين آخرين على الأقل منذ عام 2014؛ وكان الإرهابي الأمريكي ديلان روف مصدر إلهام لاثنين على الأقل منذ عام 2015؛ كما ألهم الإرهابي النيوزيلندي برينتون تارانت ثلاثة أشخاص على الأقل هذا العام وحده. ونظراً لأن “التطرف العنيف بدوافع عنصرية وعرقية” غير مُنسّق من قبل منظمات هرمية ذات أيديولوجيات متجانسة، فإن تحديد المهاجمين المحتملين أمراً صعباً للغاية. ويتفاقم التحدي بسبب عدم وجود قانون إرهاب محلي اتحادي وما يرتبط به من تُهم الدعم المادي، فضلاً عن تعقيد حرية التعبير المحمية دستورياً.
وقد أشارت الولايات المتحدة إلى بلدان أخرى كمصدِّرة للأيديولوجية الجهادية منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، ولكن في غياب أي مقاربة أكثر فعالية لـ “التطرف العنيف بدوافع عنصرية وعرقية”، قد يُنظر إلى أمريكا نفسها قريباً كمُصدِّر للتطرف. لذلك يجب على الحكومة الأمريكية بذل المزيد من الجهود لفهم نطاق وحجم الروابط الدولية بـ “التطرف العنيف بدوافع عنصرية وعرقية” (بما في ذلك بين الجماعات شبه العسكرية النشطة، والمنظمات الأيديولوجية، والأفراد المتطرفين)، بهدف تطوير أدوات فعالة لمواجهة هذا التهديد المتزايد. غير أنه عند صياغة تشريعات أو إصلاحات لتقديم المشتبه بهم في إطار “التطرف العنيف بدوافع عنصرية وعرقية” إلى العدالة، يجب أن يحرص المشرعون على عدم اعتبار جميع إيديولوجيي اليمين المتطرف على أنهم إرهابيين.
وعلى الرغم من الخطوات الكبيرة التي تحققت في الجهود الأمريكية لمكافحة الإرهاب على مدار الأعوام الثمانية عشر الماضية، إلّا أن البنية الأمنية الأمريكية لن تكون أبداً خالية من المخاطر. وفي ظل وجود تهديدات متنافسة من جانب الدول وغير الدول والتي تتطلب اهتماماً وموارد، من الضروري على القادة داخل الحكومة وخارجها أن يفكروا بتروي في كيفية تحديد أولوياتهم، لتحسين مصادر مكافحة الإرهاب وتجنب عكس مكاسب مكافحة الإرهاب عن غير قصد.
الأناضول