أدّت الأزمة بين إيران وإسرائيل إلى منح الولايات المتحدة وإسرائيل وشركائهما فرصة فريدة لبناء تحالف دولي ضد إيران والإظهار للفلسطينيين أن معسكر “المقاومة” ليس طريقهم الوحيد الذي بإمكانهم سلوكه.
أثارت الهجمات المتبادلة الأخيرة بين إيران وإسرائيل ردود فعل متباينة في غزة والضفة الغربية وفي الخارج أيضاً، الأمر الذي سلط الضوء على أحد التحديات الرئيسية في الساحة الفلسطينية، وهو التجمع حول نظام موحد قادر على تعزيز مصلحة وطنية فلسطينية. ولا ينبع هذا التحدي من وجهات نظر فلسطينية متباينة فحسب، بل من أجندات فلسطينية متباينة أيضاً، حيث تقع “حماس” على أحد طرفي الطيف، و”السلطة الفلسطينية” على الطرف الآخر، بينما يجد الشعب الفلسطيني نفسه عالقاً في الوسط.
رد الرأي العام
من خلال التقارير الإخبارية ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي التي تغطّي الهجمات الإيرانية بطائرات بدون طيار وصواريخ على إسرائيل في 13 نيسان/أبريل، ظهر الكثير من الفلسطينيين وهم يرحبون بالهجوم، معبرين عن فرحهم وأملهم، باعتبار أنه قد يبشر بتحوّل حرب غزة إلى نزاع إقليمي أكبر يتكلل بهزيمة إسرائيل. وأعرب آخرون عن مخاوفهم بسبب خطورة الهجوم، و/أو احتمال حدوث المزيد من التصعيد، و/أو احتمال تعرض الفلسطينيين لضربات بطائرات بدون طيار أو صواريخ ضالة.
ومع اتضاح الفشل العملياتي العام للهجوم، حلت محل الأجواء الاحتفالية لدى بعض الفلسطينيين مشاعر الإحباط إزاء ما اعتبروه فرصة ضائعة، إلى جانب خيبة الأمل إزاء واقع تعاون جيوش عربية مع إسرائيل في مواجهة وابل الهجمات. وشعر كثيرون آخرون بالقلق من أن يؤدي الصدام المستمر بين إيران وإسرائيل إلى صرف الانتباه العالمي عن قضيتهم – وخاصة الأزمة الإنسانية في غزة – وتقديم ذريعة لإسرائيل لاحتلال رفح.
رد “حماس”
لطالما حظي قادة “حماس” برعاية إيرانية في جميع الأمور المتعلقة بالتمويل والتدريب والأسلحة، لذا يستحق ردهم اهتماماً وثيقاً. فبعد وقت قصير من هجمات 13 نيسان/أبريل، هنأ الزعيم السياسي لـ”حماس”، إسماعيل هنية، طهران على العملية الكبرى، في حين أصدرت الحركة ككل بياناً أعلنت فيه أن “الهجوم الإيراني هو حق طبيعي للدول في الدفاع عن نفسها في مواجهة الاعتداءات الصهيونية”.
ومع ذلك، كانت هذه التصريحات مقتضبة إلى حد مدهش، حيث أشارت إلى خيبة أمل “حماس” من إيران ووكيلها الرئيسي، “حزب الله”، على خلفية عدم تصعيد النزاع إلى درجة ترغم إسرائيل على خوض حرب شاملة متعددة الجبهات. وقد شعرت الحركة أيضاً على ما يبدو بالإحباط من جراء التصريحات اللاحقة لرئيس أركان الجيش الإيراني محمد باقري، الذي أشار إلى أنه ما لم ترد إسرائيل على الهجوم، فإن طهران ستعتبر الأمر منتهياً. ولم يتضمن بيان باقري أي مطالب تتعلق بوقف إطلاق النار في غزة، أو المساعدات الإنسانية، أو عودة النازحين الفلسطينيين إلى الشمال، مما يوضح على ما يبدو أن هجوم 13 نيسان/أبريل كان مجرد رد على الهجوم الإسرائيلي في 1 نيسان/أبريل ضد مسؤولين عسكريين إيرانيين في دمشق، ولم يكن متعلقاً بمحنة الفلسطينيين.
رد “السلطة الفلسطينية”
في رام الله، امتنع قادة “السلطة الفلسطينية” عن الرد علناً على الهجومالإيراني أو الرد العسكري الإسرائيلي اللاحق في التاسع عشر من نيسان/أبريل، ويُعتبر صمتهم مدوياً وغير مفاجئ. وتنظر “السلطة الفلسطينية” إلى إيران كتهديد استراتيجي بما أن طهران ساعدت منافستها الرئيسية، “حماس”، مراراً وتكراراً، على تعزيز قوتها ودعم أجندة “المقاومة” وتقويض نفوذ “السلطة الفلسطينية” في الوقت نفسه. وفي الآونة الأخيرة، كشفت القوات الإسرائيلية وقوات “السلطة الفلسطينية” عن العديد من طرق التهريب السرية التي تهدف إلى إغراق الضفة الغربية بالأسلحة الإيرانية عبر الدول المجاورة، وليس فقط الأسلحة الخفيفة مثل المسدسات والبنادق، بل أيضاً الأسلحة المتطورة مثل الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات بدون طيار. ويتمثل هدف طهران الرئيسي في الضفة الغربية بزعزعة الاستقرار، وهذا ما تسعى إلى تحقيقه من خلال تقويض “السلطة الفلسطينية”، وتسليح المزيد من الأفراد، ودفع السكان باتجاه العسكرة.
ولدى “السلطة الفلسطينية” أيضاً مخاوف مبررة من أن يؤدي التدخل الإيراني إلى تحويل الاهتمام الدولي والإقليمي بعيداً عن القضية الفلسطينية وصبّه على القضية الدولية العامة المتمثلة بمواجهة إيران. فبنظرها، قد يتيح ذلك لإسرائيل حرية مواصلة العمليات العسكرية في غزة من دون أن تخشى عواقب وخيمة.
توصيات في مجال السياسة العامة
منذ سنوات كثيرة، يتعامل النظام الفلسطيني مع أجندات متنافسة بشدة بسبب عدة عوامل، هي: الصراع المستمر بين “حماس” و”فتح”، والإخفاقات الهيكلية والتنظيمية “للسلطة الفلسطينية”، وعدم رغبة إسرائيل في توفير أفق سياسي للفلسطينيين، وتدخّل معسكر “المقاومة” الإيراني في العمليات الفلسطينية الداخلية. ومع ذلك، فإن الجهات الفاعلة المختلفة في هذا النظام تتشارك بشكل متزايد مصدر قلق واحد على الأقل، وهو سعي إسرائيل إلى تحويل الانتباه إلى إيران لكي تتمكن من حشد المزيد من الدعم الدولي وحرية التحرك في غزة. وفي الواقع، أدى استخدام الولايات المتحدة حق النقض ضد القرار الأخير لمجلس الأمن الدولي بشأن العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة، إلى ظهور حالة نادرة تواجه فيها “السلطة الفلسطينية” و”حماس” خصماً مشتركاً.
ولحسن الحظ، تتسع أيضاً الأرضية المشتركة بين الولايات المتحدة وحلفاؤها. فقد أتاح كل من الهجوم الإيراني، والجهود العسكرية التعاونية التي أحبطته، وقرار إسرائيل بتقييد ردها، فرصة لتقديم سردية مختلفة، تسلط الضوء على فعالية وعمق الهيكلية الدفاعية التي بنتها الولايات المتحدة في المنطقة، والتي ظهرت ببراعة وبوضوح في 13 نيسان/أبريل. وللاستفادة من هذه الفرصة، ينبغي على واشنطن والقدس اتخاذ الخطوات التالية:
أولاً، بما أن الأحداث الأخيرة تعكس توازن قوى إقليمي جديد مع إيران، يجب على صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة أن يدفعوا إسرائيل إلى الامتناع (في الوقت الحالي) عن الخطوات التي من شأنها إدامة التصعيد الأخير مع طهران، والتركيز بدلاً من ذلك على أولوياتها الملحة في غزة وهي: تحرير الرهائن وإضعاف “حماس” وإيصال المساعدات الإنسانية للمدنيين. وفي الوقت نفسه، يمنح الوضع الحالي واشنطن والقدس فرصة فريدة لتوعية الجمهور بصورة أكثر حول الشراكة الوثيقة بين إيران و”حماس”. ويمكن لإسرائيل أن توسع الأرضية المشتركة مع المجتمع الدولي من خلال التأكيد على دور طهران باعتبارها المعتدي، ومن خلال تسليط الضوء على كيفية تدخل النظام ووكلائه الآخرين مراراً وتكراراً في العمليات الفلسطينية الداخلية، وهو سجل يتضمن تمكين بروز “حماس” كقوة سياسية وعسكرية أساسية في غزة في المقام الأول. ومن جانبهم، ينبغي على المسؤولين الأمريكيين التأكيد على ضرورة إضعاف العلاقة بين “حماس” وإيران، مع زيادة التركيز أيضاً على الاحتياجات الإنسانية واتخاذ خطوات أخرى لمنع “حماس” أو إيران من سد فجوة الحكم في غزة سواء خلال الحرب أو بعدها.
ثانياً، ينبغي على واشنطن تشجيع إسرائيل على انتهاز هذه الفرصة الاستراتيجية من خلال رعاية وتوسيع الشراكات المخصصة الناجمة عن التهديدات الحالية من جانب إيران. ويعني ذلك العمل مع الدول العربية والولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى بما يساعد على بناء تحالف ضد معسكر “المقاومة” ولصالح التطبيع. وينبغي لهذه الجهود أن تتجاوز نطاق البيانات الدبلوماسية بحيث تشمل مبادرات محلية ملموسة. على سبيل المثال، يمكن للأردن و”السلطة الفلسطينية” وإسرائيل والشركاء الأوروبيين أن يتعاونوا ضد شبكات التهريب الإيرانية، التي لا تهدد بزعزعة استقرار الضفة الغربية فحسب، بل يمكن أن تساعد “حماس” على إعادة جمع الأموال والتزود بالمعدات في غزة أيضاً. وسيكون للجهود المشتركة من هذا القبيل فائدة إضافية تتمثل في الإظهار للفلسطينيين أن التطبيع والهيكلية الأمنية الإقليمية يخدمان مصالحهم أيضاً، لا سيما بعد أن أوضحت طهران أن مصالحها لا تتوافق بالضرورة مع مصالحهم. ولا يستطيع أحد أن يتنبأ على وجه التحديد برد فعل الشعب الفلسطيني على المبادرات التي تقودها الولايات المتحدة، لا سيما بعد استخدام واشنطن حق النقض ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، لكن من المهم المحاولة رغم ذلك.
وأخيراً، سيتعين على إسرائيل أن تدفع ثمن الدعم الدولي ضد إيران بالعملة الفلسطينية، أي من خلال اتخاذ خطوات نحو إقامة الدولة الفلسطينية أو على الأقل إيجاد أفق سياسي. ينبغي على واشنطن إقناع إسرائيل بأن ذلك يستحق العناء، لأنه سيُظهر للفلسطينيين أن خطاب “حماس” العنيف ليس الطريق الوحيد للمضي قدماً، كما سيوجه أيضاًرسالة واضحة مفادها أن إسرائيل لا تحاول صرف الانتباه عن القضية الفلسطينية. ولتحقيق هذه الغاية، من الضروري أن يكون المسؤولون الأمريكيون أكثر نشاطاً في التواصل مع إسرائيل بشأن عملياتها العسكرية المستمرة في غزة، وتحديداً الحملة المحتملة في رفح. وتُعتبر صياغة خطة متفق عليها لما بعد الحرب أمر في غاية الأهمية، وإلا فلن يكون هناك أمل كبير في أن تنفذ “السلطة الفلسطينية” إصلاحات ملموسة، أو أن تصبح العنوان المدني الوحيد للانخراط الدولي في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو أن تكون شريكاً مع إسرائيل في النضال ضد معسكر “المقاومة” الإيراني.