قدّم رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي استقالته السبت الماضي وقام البرلمان بقبولها أمس الأحد، وهو ما يمكن اعتباره انتصارا أول كبيراً للانتفاضة الشعبية القائمة التي اندلعت في 1 تشرين الأول/أكتوبر الماضي احتجاجا على تردي الأوضاع الاقتصادية للبلاد، والفساد الهائل ضمن الطبقة السياسية الحاكمة، بالترافق مع تبعيّتها المهينة للنفوذ الإيراني.
تصرّف رئيس الوزراء، الذي يحمل الجنسيّة الفرنسية، كما يليق بالحكومات التابعة والفاسدة فأمطرت قوّاته المختلفة الاحتجاجات بالرصاص الحيّ وقنابل الغاز التي وجّهت إلى رؤوس المتظاهرين، وكان تكليف عبد المهدي للفريق الركن جميل الشمّري برئاسة خليّة الأزمة الأمنية في محافظة ذي قار ذروة كبيرة في هذه «السياسة» مما أدّى لمقتل 45 متظاهرا في ليلة واحدة ومدينة واحدة هي الناصريّة، ورفع عدد القتلى الإجمالي إلى قرابة 451 شخصا فيما أصيب أكثر من 16 ألفا آخرين بجروح من بينها 3 آلاف إصابة أدت إلى إعاقة جسدية، ولم تنس سلطات الحكومة طبعا نسبة الجرائم، كما هي عادة الأنظمة العربية، إلى «طرف ثالث»!
إضافة إلى هذا الانتصار السياسي الكبير فهناك علامات على محاولة التأسيس على ما حصل فقد قام القضاء العراقي بإصدار مذكرة قبض ومنع من السفر بحق الفريق جميل الشمري «عن جريمة إصدار الأوامر التي تسببت بقتل متظاهرين في المحافظة»، وتضمنت مذكرة الاعتقال حجز أموال الشمري المنقولة وغير المنقولة، كما صدر، أمس الأحد، حكم على آمر فوج الشرطة في محافظة واسط بالإعدام وبالسجن 7 سنوات لآخر لإدانتهما بتهمة «قتل متظاهرين» في المحافظة.
ولفهم سياق هذين الحدثين الأخيرين يجب أن نعلم أن صدور حكم القضاء بحق الشمّري تزامن مع أنباء عن إضرام متظاهرين غاضبين في مدينة الديوانية منزل الضابط الكبير، كما أن حكمي الإعدام والسجن في واسط جرى فيما كان مئات المتظاهرين متجمعين أمام مبنى محكمة استئناف مدينة الكوت خلال النظر في القضية.
يمكننا، في ضوء ما ذكرناه، فهم التغير الذي طرأ على موقف المرجع الشيعي العراقيّ الأعلى السيد علي السيستاني الذي طالب، عبر أحمد الصافي، ممثله في خطبة الجمعة في كربلاء، مجلس النواب «إلى أن يعيد النظر في خياراته»، كما طالب بـ«المحافظة على دماء» العراقيين، فالموقف جاء بعد تصاعد الغضب الشعبي على المرجعيّة، واحتدام المقتلة الكبيرة التي شهدتها مدن الناصرية والنجف وبغداد الأسبوع الماضي، وبالتالي فإن المسؤولية عن التغيّر في موقف المرجعية تعود للبطولة الهائلة التي أبداها العراقيون، والضغط الذي شكّلوه على المرجعية والحكومة والأحزاب السياسية.
بهذا المعنى، فإن الجماهير العراقية تعرف أن الضمانة الحقيقية لحصول تغيير حقيقي في النظام السياسي الراهن لا يتم من دون ممارسة ضغوط على الطبقة السياسية والأحزاب الحاكمة، ومن دون التواجه مع الميليشيات المسلّحة التي أعلنت بصراحة موقفها ضد الانتفاضة ومصالح العراقيين، وقد شهدنا يوم أمس مقتل طفلة ومتظاهرين برصاص هذه الميليشيات وسط مدينة النجف، وكذلك إصابة 12 متظاهرا بجروح جراء الرصاص الحي، ليلحقوا بـ23 قتيلا في المدينة نفسها يومي الخميس والجمعة الماضيين.
وفي الوقت الذي سيستمر العراقيون بممارسة الضغط لتحقيق العدالة، مستندين إلى موقف المرجعية والقضاء وبعض الاتجاهات السياسية فإن القوى المناهضة للثورة ستحاول تأخير دفع «المستحقات»، وإبطال مسار التحوّلات، والتلاعب بأوراقها القديمة، ولكنّ الأحكام التي صدرت، وكذلك المطالبات بمحاكمة عبد المهدي نفسه ووزرائه المسؤولين عن القتل، وحصيلة هذه الجولة الكبرى ستحدد مصير العراق.
القدس العربي