بدا صباح الجمعة 29 نوفمبر/تشرين الثاني حزينا بعد خميس دام في المحافظات المنتفضة، عشرات القتلى والجرحى في محافظة ذي قار، ومحافظة النجف ومحافظة البصرة، وتصاعدت حدة الأصوات المطالبة بالثأر لشهداء الانتفاضة عبر نزول عشائر مسلحة لحماية المتظاهرين من عسف القوات الحكومية المسلحة، الأمر الذي أشاع قنوطا وسوداوية في المزاج العراقي العام وسط توقعات انطلاق الخطوة الأولى في طريق الحرب الأهلية.
أتت خطبة الجمعة، التي قرأها ممثل المرجع علي السيستاني، مطالبة بتحقيق خطوات ملموسة بالإصلاح، كما أكدت على رعاية حرمة الأموال العامة والخاصة، وضرورة أن لا تترك عرضة لاعتداءات المندسين. وأشارت إلى أن على المتظاهرين السلميين أن يميّزوا صفوفهم عن غير السلميين، وأن يتعاونوا في طرد المخربين وأن لا يسمحوا لهم باستغلال التظاهرات السلمية للإضرار بممتلكات المواطنين والاعتداء على أصحابها. كما طالبت المرجعية في خطبتها مجلس النواب بالعمل على ما أن يحفظ الحقوق ويحقن الدماء. وشددت في إشارة واضحة بالقول إن على البرلمان الذي انبثقت منه الحكومة الراهنة العمل بشكل جاد على أن يعيد النظر في خياراته بهذا الشأن ويتصرف بما تمليه مصلحة العراق والمحافظة على دماء أبنائه، وتفادي انزلاقه إلى دوامة العنف والفوضى والخراب، كما أنه مدعوّ إلى الإسراع في إقرار حزمة التشريعات الانتخابية بما يكون مرضياً للشعب تمهيداً لإجراء انتخابات حرة ونزيهة تعبر نتائجها بصدق عن إرادة الشعب العراقي، فإن التسويف والمماطلة في سلوك هذا المسار ـ الذي هو المدخل المناسب لتجاوز الأزمة الراهنة بطريقة سلمية وحضارية تحت سقف الدستور ـ سيكلّف البلاد ثمناً باهضاً وسيندم عليه الجميع.
ما إن انتهت خطبة الجمعة حتى اشتعلت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بخبر تقديم رئيس الحكومة عادل عبد المهدي طلب استقالته للبرلمان، ومع ذهول صدمة الخبر ابتدأ البعض يقرأ الأمر وفق المعطيات المذكورة، فهل ألقى عبد المهدي الكرة في ملعب البرلمان؟ وهل ستعاد أزمة تحديد الكتلة الأكبر ليتسنى لرئيس الجمهورية تكليف مرشحها برئاسة الحكومة الجديدة؟ والنقطة الأهم هي أسئلة المنتفضين، هل كانت الانتفاضة تسعى لإقالة الحكومة فقط؟ وهل سيكتفي المحتجون بهذا النصر الصغير لتبدأ المطالبة بانفضاض ساحات الاحتجاج؟ وهل سيشكل الحراك ممثله السياسي ليلعب دوره في العملية السياسية المقبلة؟
الآن تبدو مشكلة البرلمان عويصة، فبعد طمطمة الأمر عند تشكيل حكومة عادل عبد المهدي قبل عام من الآن، عندما تم تمرير صفقة تشكيل الحكومة عبر التجاوز على الضوابط الدستورية، إذ لم تحدد الكتلة النيابية الأكبر، وتم تشكيل الحكومة باتفاق الكتل الكبيرة: الفتح وسائرون والنصر وكتلتي الأكراد وبعض الكتل السنية الصغيرة. وتم تصوير الأمر على أن حكومة عبد المهدي ملبية لطموحات الجميع وأن قادة الكتل سيتيحون له الحرية الكاملة في اختيار كابينته الوزارية، وهذا ما لم يتحقق على أرض الواقع، بل تقاسمت الكتل السياسية الفاسدة الكعكة من جديد وفق السياقات القديمة نفسها. وعندما وضعت الانتفاضة كل الفرقاء السياسين أمام التحدي الأصعب، حاول البعض تصوير الأمر على أن الإصلاح ممكن من خلال الخطوات الترقيعية التي أعلنتها الحكومة والبرلمان.
التغيير الجذري لواقع العملية السياسية لن يتم باستقالة الحكومة فقط
إن قيام رئيس الجمهورية، وبالاستناد لمواد الدستور الحالي، بتكليف شخص ما بتشكيل الحكومة في غضون ثلاثين يوما يمكن تمديدها خمسة عشر يوما إضافيا ستكون محاولة محكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ، لأن ساحات الاحتجاج ستشتعل مطالبة بخطوات إصلاح حقيقية لاتقوم على تدوير الوجوه الفاسدة نفسها، ولايمكن الركون إلى اتفاقات الكتل السياسية الفاسدة التي ستحاول أن تتفق مجددا وفق سياقاتها الفاسدة ذاتها لتفرض على الحكومة الجديدة شروط فسادها لتمارس نهبها من جديد.
لذلك يمكن القول إن أمام البرلمان العراقي خيارين لا ثالث لهما؛ الأول، محاولة تدوير الوجوه بآليات اللعبة القذرة نفسها التي تم عبرها تشكيل حكومة عبد المهدي، أي باتفاق غير دستوري بين الكتل على مرشح تسوية، وهذا هو الاحتمال الأكبر الذي ستسعى له الكتل السياسية. أما الاحتمال الثاني وهو الأصعب فيتمثل بأن يعلن البرلمان عن فشله في تجاوز الأزمة، ليتم تشكيل حكومة مؤقتة لتصريف الأعمال، وأن يعلن البرلمان عن حل نفسه، بانتظار انتخابات جديدة تتم وفق قانون انتخاب جديد ومفوضية انتخابات حقيقية ومستقلة تمارس عملها بكل شفافية وتحضى برعاية أممية واضحة، وهنا فقط تكون الانتفاضة قد حققت فعلا الخطوة الأولى في طريق نجاح ثورة تشرين/اكتوبر.
مما لا ريب فيه أن الكتل السياسية ستعتبر استقالة عادل عبد المهدي حلحلة مهمة للوضع الذي وصل إلى نهايات مغلقة نتيجة التعنت واللجوء لخيار القوة فقط، لكن أمام مطالب الانتفاضة يبقى الوضع متأزما، إذ إن تغييراً جذرياً لواقع العملية السياسية لن يتم باستقالة الحكومة فقط. بل هنالك سلسلة مطالب تترتب على استقالة الحكومة، منها اعتبار الحكومة المقبلة حكومة تسيير أعمال، وحل البرلمان لمنع وجود أي سقف دستوري للحكومة، وتكون مهمة الحكومة الأساسية التهيئة لكتابة قانون انتخابي جديد يضمن صعود الممثلين الحقيقيين للشعب إلى برلمان جديد يتولى كتابة دستور جديد يطرح للتصويت ويتم وفق الدستور الجديد تشكيل الحكومة الدائمية.
كما طرح البعض مجموعة أسئلة مع شيوع خبر نية عادل عبد المهدي تقديمه الاستقالة، مفاد هذه الاسئلة المهمة؛ هل سيعفي تقديم استقالة الحكومة المجرمين من العقوبة؟ هل سيذهب دم الشهداء هدرا؟ وهل سينجو القتلة بفعلتهم بحجة أن الانتفاضة انتصرت وأطاحت حكومة الفساد؟ الجواب على كل تلك الأسئلة هو النفي، ويجب التأكيد على أن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها حكومة عادل عبد المهدي بحق المنتفضين لن تزول بالتقادم، ولنا في ثورة شباب أيار/مايو 1968 في فرنسا أسوة حسنة، إذ وحسب إشارة باحثين مطلعين على الشأن الفرنسي ذكروا أن تداعيات أحداث مايو 1968 في فرنسا لم ينته حتى هذا اليوم، إذ يتم فضح الذين اشتركوا في قمع التظاهرات بين الحين والآخر ممن يجرؤ منهم ويتسرب ويترشح لأي منصب سيادي أو أمني، إذ يتم كشف ملفاتهم السود وتقديمها للقضاء لتتم محاسبة المجرمين وفق القانون، وإن المطالبة بمحاسبة كل من شارك في القمع من أعلى القيادات حتى أصغر جندي مازالت مستمرة حتى الآن، ليس انتقاما بل لترسيخ فكرة العدالة المجتمعية.
يجدر التنبيه إلى أن الوقت قد حان للتحرك لاتخاذ الخطوة الأهم في حراك شباب انتفاضة تشرين/اكتوبر، الخطوة المتمثلة بالعمل الحقيقي والجاد على بلورة تيار سياسي يمثل شباب الانتفاضة ليقوم بقيادة الفعل السياسي في الأيام المقبلة، وإلا فإن الأمر سيعود ناكصا وستسقط ثمرة كل هذه الدماء في حجر الأحزاب القديمة الفاسدة التي تسيطر اليوم على المشهد السياسي، إذ إننا اليوم إزاء استحقاقات ديمقراطية حقيقية ونحن نقف على مشارف العمل الصعب المكمل لمسيرة الثورة التي عبدتها دماء الشهداء.
القدس العربي