إيران في عين الحريق

إيران في عين الحريق

تتمسّك السياسات العامة للولايات المتحدة بالثوابت التي خطّتها في حصارها لإيران. وتشدد على الخطوط الحمر التي حددتها لمنع أيّ تجاوزات يمكن أن تلجأ طهران إليها للتحايل على العقوبات الدولية المفروضة للحد من نشاطها النووي ذي المطامح العسكرية المريبة.

إلا أن الرئيس دونالد ترامب يحاول أن يبقى ماسكا العصا من المنتصف، فلا هو يعود إلى اتفاق 1+5 النووي مع طهران ويقلّم العقوبات الواقعة عليها، ولا هو يسير بالمواجهة الدبلوماسية والاقتصادية إلى حافة الصدام العسكري. الرئيس الأميركي ما زال مرهونا بالشرط الداخلي الأميركي وتعقيدات المرحلة الانتخابية الرئاسية التي على الأبواب، والتي لا تسمح له بأي تصعيد عسكري مع طهران سيحمل حتما انعكاساته السلبية على مسار حملته في العام 2020.

منذ ثلاثين عاما لم يقع أي اشتباك عسكري مباشر بين إيران والولايات المتحدة. في 18 أبريل عام 1988 قام سلاح البحرية الأميركية بعملية واسعة في الخليج العربي أطلقت عليها واشنطن اسم “بريينغ مانتيس”. جاءت العملية ردا على قيام إيران بزرع ألغام في قاعدة حاملة الطائرات الأميركية صامويل بي روبرتس. دمّرت البحرية الأميركية، في العملية، سفينتين قتاليتين وقصفت منصتين للمراقبة تابعتين للجيش الإيراني.

كانت هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام صواريخ أميركية أرض- أرض في معركة مباشرة مع القوات الإيرانية تكبّدت فيها خسائر فادحة خلال يوم واحد فقط. ويبدو أن النظام في طهران، إثر هذه العملية التي كانت الأكبر من نوعها للبحرية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، قد اتخذ قرارا بعدم التعرّض المباشر للمصالح الأميركية، وإن اضطرّ إلى ذلك فسيكون عن طريق وكلائه في المنطقة. وتعرف طهران تماما أن حربا مباشرة تندلع بينها وبين الولايات المتحدة ستحمل معها دمارا كاملا لمنظومة الحكم الهرمي الذي يقوم على سلطة الأئمة المطلقة في دائرتها الرأسية الضيقة.

أما العقوبات الأميركية على طهران فقد بلغت ذروتها، وبدت آثارها جليّة في المظاهرات الشعبية التي تعمّ المدن الإيرانية بما فيها طهران في بعض من مناطقها. وقد لجأت قوات الباسيج إلى القمع الشديد والاعتقال للمتظاهرين مكررة سيناريو الضرب الوحشي للثورة الخضراء في العام 2009، وذلك في عملية استباقية لحظر التظاهرات التي لا يمكن لطهران أن تتحمل أعباءها في الداخل، والتي أتت مضافة إلى ضغط عظيم من الخارج يمارسه المجتمع الدولي عليها بريادة أميركية.

كثيرا ما انحنت إيران للريح حين تعرّضت لضغوط تهدد سلطة الملالي المطلقة في الحكم من خلال خلطة جهنمية حضّروا لها من مادتي الطائفية المذهبية والباطنية السياسية القاتلتين. إلا أن طهران تفهم تماما أين تقف طائعة تائبة لتتجنب الغضب الأميركي حين يعلو موجُه إلى حد يقترب من ابتلاع حكم طهران وحكامها معا. ففي حادثة الرهائن في السفارة الأميركية عام 1981 اضطر الخميني، الذي خطّط وأعطى الضوء الأخضر لتنفيذ عملية اعتقال الدبلوماسيين الأميركيين في مقرهم بسفارة بلادهم في طهران، أن يفرج عنهم بتهديد قوي تلقاه من الرئيس رونالد ريغان الذي كان قد فاز بالانتخابات الرئاسية بعد أن خسرها منافسه جيمي كارتر بسبب أزمة الرهائن. حيث قال الرئيس المنتخب ريغان إثر فوزه مباشرة في العام 1980 متوجها إلى الخميني “لو كنت في موقعك لسعيت إلى التوصل إلى حل مع كارتر فهو رجل لطيف، وأنا على ثقة من أن موقفي حينما أصل إلى البيت الأبيض حيال هذه القضية لن يعجبك”!.

وخلال العام 1988، وفي حدث مواز، وافق الخميني على وقف إطلاق النار في حربه الطاحنة مع العراق، وتراجع عن إسقاط صدام حسين حانثا بقسمه “بأنه لن يبقيه في الحكم أبدا ولن ينهي حربه عليه قبل اقتلاعه من رئاسة العراق”. فقد رأى الخميني حينها أن استمرار الحرب العراقية الإيرانية سيغرقه شيئا فشيئا في ضائقة الضغوط الاقتصادية. ويضع نظامه برمته في دائرة الخطر في حرب امتدّت لثماني سنوات، لتكون أطول الصراعات العسكرية في القرن العشرين ومن أعلاها خسائر بشرية ومادية.

هناك مشكلة أخرى يواجهها النظام في إيران، فالتظاهرات الحالية المتنقّلة بين مدنها يقوم بها جيل من الشباب الذي تربى على حرية انتقال المعلومات التي وفرتها شبكة الإنترنت والتي أسهمت بشكل كبير في بلورة الوعي السياسي والاجتماعي لهذا الجيل الذي يتوق إلى الحريات والمعرفة والفرص في الحياة. هذا كله مقابل جيل من أصحاب العمائم، معظمهم في مرحلة الشيخوخة من العمر، متمترسين وراء عقائدهم وطائفيتهم، ومنفصلين تماما عن أوجاع هذا الجيل الجديد وطموحاته في حياة مدنية حرة وكريمة إنسانيا ومعيشيا.

ضمن هذه الأجواء المضادة والانفصامية بين الشارع الشعبي المنتفض وبين حكام طغاة باسم الدين، وفي حالة من الكبت السياسي المتعاظم، وتعطيل شبكة الإنترنت لمنع التواصل بين المتظاهرين، وانهيار العملة مقابل ارتفاع معدلات البطالة إلى مستوى غير مسبوق، لا بد أن يصل الشعب الإيراني المقهور إلى نقطة اللاعودة مع هذا النظام المتهالك على نفسه والمحاصر دوليا وإقليميا.

هنا سيكون للولايات المتحدة المقال الفصل في حسم مرحلة العلاج بالمسكنات الدبلوماسية لهذا المرض المزمن الذي أصاب الشرق الأوسط والعالم، والتحوّل بسياستها إلى التدخّل الجراحي العاجل الذي غدا ضرورة لا برْء إلا به.

 

العرب